الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ينبني على جواز القياس على المختلف فيه، وقد منعه بعضهم، واستعمالهم له يدل على جوازه، وحينئذ يرجع ذلك إلى تخصيص العموم بالقياس، وللأصوليين فيه أقوال متعددة، والله أعلم.
الثامنة: في ظاهر الحديث دليل على أنه لا تحصل التحية إلا بفعل ركعتين، ولا يشترط أن ينوي بهما التحية، بل لو صلى الفريضة ركعتين، أو سنة راتبة، أو نافلة مطلقة، حصلت، ولو صلى ركعة، أو سجد لتلاوة أو شكر، أو صلى صلاة الجنازة بنية التحية، حصلت على وجه لبعض أصحاب الشافعي، والصحيح أنها لا تحصل، وهو الصواب؛ للنص على صلاة ركعتين، وليس ذلك في معناهما، إلا أن يكون المفهوم من الحديث شغل المسجد بعبادة مطلقة عند الدخول تعظيمًا له، لكن تعظيمه بركعتين أبلغُ في إكرامه واحترامه من ركعة أو سجدة أو قيام، كيف والمعتبر في العبادات التوقيف، ولم يرد ما يدل على خلافه؟ والله أعلم.
قال أصحاب الشافعي: ولو نوى بصلاته التحية والمكتوبة، انعقدت صلاته، وحصلتا له؛ لأنه ليس في نيته وفعله ما ينافي المأمور، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا نَتكَلَّمُ في الصَّلَاة، يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ الَى جَنْبِهِ في الصَّلَاةِ حَتى نَزَلَتْ:{وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، فَأُمِرْنَا بالسُّكُوتِ، ونُهِينَا عَنِ الكَلَامِ (1).
أما زيد بن أرقم، فهو أنصاريٌّ خزرجيٌّ، وهو ابنُ أرقمَ بنِ زيدِ بنِ قيسِ بنِ النعمانِ بنِ مالكِ بنِ الأغرِّ بنِ ثعلبةَ بنِ عمرِو بنِ كعبِ بنِ الخزرجِ بنِ
(1) رواه البخاري (4260)، كتاب: التفسير، باب:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، ومسلم (539)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحة، وهذا لفظ مسلم.
الحارثِ بن الخزرج، اختلف في كنيته على أقوال كثيرة، أشهرها: أبو عمرو، وقيل: أبو عامر، وقيل: أبو سعيد، وقيل: أبو سعد، وقيل: أبو أنيسة، ويقال: أبو حمزة، وهو الَّذي رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولَ عبدِ الله بن أبي ابن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فأكذبه عبدُ الله، وحلفَ، فأنزل الله تعالى تصديقَ زيدِ، والقصةُ مشهورة في كتب التفسير.
غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، قال الحافظ أبو الوليد بن خيرة: أول مشاهده: الخندقُ سنةَ خمسٍ، ثم مات بعدها، وقال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر: ويقال: إن أول مشاهده: المريسيع، وشهد مع عليٍّ صِفَّينَ، ونزل الكوفة وسكنها، وابتنى بها دارًا في كندة، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على أربعة، وانفود البخاري بحديثين، ومسلم بستة.
روى عنه: أنس بن مالك رضي الله عنه، وجماعة كثيرة من كبار التابعين وغيرهم، مات بالكوفة سنة خمس، وقيل: سنة ثمان وستين، وروى له أصحاب السنن والمساند (1).
وأما الكلام على الحديث، فمن أوجه:
أحدها: قولُه: "نتكلَّم في الصلاة"، هذا حكمه حكمُ المرفوع التي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجيء فيه التفصيل في عدم الإضافة إلى زمنه صلى الله عليه وسلم، فيكون موقوفًا، وإلا فهو مرفوع على الصحيح من قول العلماء؛ لأنه ذكر نزول الآية:{وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، ومعلوم أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 18)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 385)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 139)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 613)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 535)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (19/ 256)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 342)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 196)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 9)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 165)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 589)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 340). =
أُمروا ونُهوا عن الكلام لبعضهم بعضًا، فكان ذلك ناسخًا، فاجتمع في كلام الراوي ذكرُ المنسوخ والناسخ؛ لتقدم أحدهما على الآخر.
الثاني: صراحة ذكرهما فيه ظاهر بلا شك، وهو أحد أقسامه، وليس من قسم ما عرف بالتاريخ؛ فإنه قد ذكروا فيه أنه لا يصلح أن يكون دليلًا على أنه ناسخ؛ لاحتمال أن يكون الحكم بالنسخ عن طريق اجتهادي، والنسخ رفع حكم متقدم من الشارع بحكم منه متأخر؛ كهذا الحديث.
الثالث: قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة:238] الَّذي ذكره المفسرون في كتبهم، ورجحوه في القنوت المأمور به أنه الطاعة؛ أي: مطيعين، ومنه قوله تعالى إخبارًا عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه كان أمة قانتًا؛ أي: مطيعًا.
وظاهر هذا الحديث أنه السكوت عن الكلام المذكور فيه، وهو كلام الرجل صاحبه، لا كل كلام؛ فإن الصلاة ليس فيها حالة سكوت، وإسكات الصلاة في افتتاحها وبعد الفراغ من الفاتحة قبل آمين وبعده قبل قراءة السورة، ليس سكوتًا حقيقيًّا، وإنما هو سكوت بالنسبة إلى رفع الصوت، لا عن ترك دعاء، حتى قال بعض الشافعية: يستحب أن يقول بعد التأمين وقبل السورة: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله كبر، فحينئذ المفهوم من السكوت عرفًا ترك الكلام مطلقًا، وشرعًا ترك الكلام خطابا للآدميين، أو ترك الجهر أو إسماع نفسه به في الصلاة، أما كلام النفس فيها، فمعفو عنه، مع تنقيص الثواب إذا استمر، وهذا معنى قول من قال من المفسرين: وقيل: القنوت: السكوت عما لا يجوز التكلم به في الصلاة.
وقال مجاهد: قانتين: خاشعين، قال: ومن القنوت طول الركوع، وغض البصر، وخفض الجناح (1)، وقيل: المراد: طول القيام.
وقيل: القنوت: الصلاة؛ أي: مصلين، ومنه قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ
(1) رواه الطبري في "تفسيره"(2/ 571)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(2/ 449)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 282)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(3152).
آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9]؛ أي: مصليًا، هذا ما يتعلق بالآية من كلام الفقهاء المحققين والمفسرين.
والقنوت يستعمل في اللغة بمعنى الطاعة والإقرار بالعبودية، والخضوع، والدعاء، وطول القيام، والسكوت، وفي كلام بعضهم ما يفهم منه أنه موضوع للمشترك، وهو الدوام على الشيء، فإذا كان أصله هذا، فمديم الطاعة قانت، وكذلك الداعي والقائم في الصلاة، والمخلص فيها، والساكت فيها، كلُّهم قانتون فاعلون له، وهذه طريقة المتأخرين من أهل العصر وما قاربه، يقصدون بها دفع الاشتراك والمجاز عن موضع اللفظ، ولا بأس بذلك إن لم يقم دليل على أن اللفظة حقيقة في معنى معين أو معانٍ، فيستعمل حيث لا يقوم دليل على ذلك.
الرابع: كلام الصحابي في التفسير لا ينزل منزلة المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، بل يكون موقوفًا عليه، فإن كان كلامه يتعلق بسبب نزول آية، أو تعليل، ونحوهما، فهو منزل منزلة المسند المرفوع، هذا كلام المحققين في ذلك، فقول زيد بن أرقم رضي الله عنه في هذا يشعر بأن المراد بالقنوت كما ذكرنا تفسيره، قيل: لما دل عليه لفظة (حتى) التي للغاية، والفاء في قوله: فأمرنا، التي تشعر بتعليل ما سبق عليها لما يأتي بعدها، ولا شك أن الصحابة كانوا مشاهدين الوحي والتنزيل، ويعلمون سبب ذلك مع القرائن المحتفة بها، ما يرشدهم إلى تعيين المحتملات، وبيان المجملات، فيصيرون كأنهم ناقلون للفظ التعليل والتسبيب.
الخامس: قوله: "فأمرنا بالسكوت، ونُهينا عن الكلام"، هذا حكمه حكم المرفوع، ولا يجيء فيه الخلاف الَّذي عند المحدثين في ذلك، بدليل مشاهدة الراوي لنزول الآية، وجعلِه غايةً لترك الكلام في الصلاة، ثم الأمر بالسكوت يقتضي أن كلَّ ما يسمى كلامًا، فهو منهي عنه، وما لا يسمى كلامًا، فدلالة الحديث قاصرة عن النهي عنه.
وقد اختلف القدماء في أشياء هل تُبطل الصلاة أم لا؟؛ كالنفخ والتنحنح لغير غلبة وحاجة، وكالبكاء، والذي يقتضيه القياس أن ما يسمى كلامًا فهو داخل تحت اللفظ، وما لا يسمى كلامًا، فمن أراد إلحاقه به، كان ذلك بطريق القياس، فليراع شرطه في مساواة الفرع للأصل، واعتبر أصحاب الشافعي ظهورَ حرفين، وإن لم يكونا مفهمين، فإن أقلَّ الكلام حرفان، ولقائل أن يقول: ليس يلزم من كون الحرفين يتألف منهما كلام أن يكون كل حرفين كلامًا، وإن لم يكن كذلك، فالإبطال به لا يكون بالنص، بل بالقياس، فليراع شرطه، اللهم إلا أن يريد بالكلام كل مركب، مفهمًا كان أو غير مفهم، فحينئذ يندرج التنازع فيه تحت اللفظ، إلا أن يكون فيه بحث، والأقرب أن ننظر إلى مواقع الإجماع، والخلاف؛ حيث لا يسمى الملفوظ به كلامًا، فما أجمع على إلحاقه بالكلام، ألحقناه به، وما لم يجمع عليه، مع كونه لا يسمى كلامًا، فيقوى به عدم الإبطال، ومن هذا استضعف القول بإلحاق النفخ بالكلام، ومن ضعيف التعليل فيه قولُ من علل البطلان به بأنه شبه الكلام، وهذا ركيك مع ثبوت السنة الصحيحة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفخ في صلاة الكسوف في سجوده.
وفي هذا الحديث دليل على تحريم جميع أنواع كلام الآدميين في الصلاة، وأجمع العلماء على أن الكلام فيها عامدًا عالمًا بتحريمه لغير مصلحتها ولغير إنقاذ هالك وشبهه، مبطلٌ للصلاة، وأما الكلام لمصلحتها، فقال الشافعي، ومالك، وأبو حنيفة، وأحمد، والجمهور: يُبطل الصلاة، وجوزه الأوزاعي وبعض أصحاب مالك، وطائفة قليلة، وكلام الناسي لا يبطلها عند الشافعي والجمهور، ما لم يطل، وقال الكوفيون وأبو حنيفة: يبطل، والله تعالى أعلم.
* * *