الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب فضل الجماعة ووجوبها
فيه أحاديث.
الحديث الأول
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه: أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صلَاةُ الجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً"(1).
تقدم الكلام على ابن عمر.
وأما الفَذُّ: فهو المنفردُ، ومعناه: المصلِّي وحدَه، قال صاحب "المطالع": ولغةُ عبدِ القيس: الفَنْذ -بالنون-، وهي غُنَّة لا نونٌ حقيقة، قال: وكذلك يقوله أهل الشام، قلت: لعلَّ لغةَ عبد القيس الأصلُ؛ فأدغم نون الغنة في الذال، فشدِّدت، ومعنى الفاذَّة: المنفردة القليلة المثل في بابها (2).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ مِنْ صلَاةِ الفَذِّ":
اعلم أن صيغة أَفْعَلِ التفضيل؛ تقتضي الاشتراك -غالبًا-؛ حيث لا مانعَ منه، وقد لا تقتضيه؛ لمانع؛ كقوله تعالى:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]؛
(1) رواه البخاري (619)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: فضل صلاة الجماعة، ومسلم (650)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة، وهذا لفظ مسلم.
(2)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 150)، و"لسان العرب" لابن منظور (3/ 502)، (مادة: فذذ).
فإنه لا يجوز حملُها هنا على الاشتراك، إجماعًا.
إذا ثبت هذا؛ فأفضلُ -هاهنا-، تقتضي: الاشتراك، وزيادة الفضل بالجماعة، ويدل عليه؛ ما رواه أبو داود بإسناد حسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاةُ الرجلِ مع الرجلِ؛ أزكى من صلاتهِ وحدَه، وصلاتُه مع الرجلين؛ أزكى من صلاتِه مع الرجل، وما زادَ؛ فهو أحبُّ إلى الله"(1).
وما ثبت في رواية في "الصحيح"، حديث في هذا الباب:"تزيدُ صلاةُ الجماعة على صَلاةِ الفَذِّ"(2)، أو "تَفْضُلُ صلاةُ الجماعةِ على صلاةِ الفَذِّ" (3)؛ وذلك دليل على: صحةِ صلاة المنفرد، وأنَّ الجماعة ليست شرطًا لصحة الصلاة.
وقد قال بأن الجماعة فرض على الأعيان؛ جماعةٌ من العلماء، وبأنها شرط لصحتها: داودُ الظاهري، والمختارُ في المذهب الشافعي: أنها فرضٌ على الكفاية، وقيل: سنة.
ثم الفضل في الجماعة؛ هل هو بسببها فقط، أم بوصف زائد؛ وهو كونُها في المسجد؛ لكثرة الخطا إليها، وكتب الحسنات، ومحو السيئات بكل خطوة، وانتظار الصلاة، ودعاء الملائكة، ومراعاة آداب دخول المسجد، وغير ذلك؟
والظاهر: الأول؛ لأن الجماعة وصف عُلِّق عليه الحكم، وإذا كان ذلك لأجل الجماعة؛ فهل تفضل جماعةٌ جماعةً بالكثرة؟
المشهور عن مالك: أنه لا تفضل، وقال ابن حبيب: تفضل بالكثرة، وفضيلة الإمام.
(1) رواه أبو داود (554)، كتاب: الصلاة، باب: في فضل صلاة الجماعة، والنسائي (843)، كتاب: الإمامة، باب: الجماعة إذا كانوا اثنين، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 61)، عن أبي بن كعب رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (650)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة.
(3)
رواه البخاري (619)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: فضل صلاة الجماعة.
فمن صلى في جماعة؛ وإن قلَّت، لا يعيد في أكثر منها؛ على مشهور قول مالك، وهو قول جماعة العلماء، وحكي عن مالك: إعادتها في المساجد الثلاثة في الجماعة، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً"، في رواية في "صحيح مسلم":"بخمس وعشرينَ درجةً"، (1) وفي رواية فيه:"بخمسٍ وعشرينَ جُزْءًا"(2).
الاختلاف بين الدرجة والجزء؛ فإن كلًّا منهما مرادُ الآخر، وإن كان الجزء هو: الجاري على اللغة، والدرجة: مؤولة عليه، وجعلها بعضهم غيره؛ وهو غفلة منه؛ وأما الجمعُ بين سبع وعشرين، وخمس وعشرين؛ فمن ثلاثة أوجه:
أحدها: أن ذكر العدد القليل لا ينفي الكثير، ومفهوم العدد باطل عند جمهور الأصوليين.
الثاني: أنه أخبر بالقليل أولًا، ثم أعلمه الله بزيادة الفضل؛ فأخبر بها.
الثالث: أن ذلك يختلف باختلاف المصلين، والصلاة؛ فيكون لبعضهم خمس وعشرون، ولبعضهم سبع وعشرون، بحسب كمال الصلاة؛ من المحافظة على هيئاتها، وخشوعها، وكثرة جماعتها وفضلهم، وشرف البقعة، ونحو ذلك، والله أعلم.
ثم التضعيف بالجماعة للصلاة؛ هل هو بمعنى الصلوات، فتكون صلاة الجماعة؛ بخمس وعشرين، أو سبع وعشرين صلاة؟ أو يقال: إن لفظ الدرجة، والجزء؛ لا يلزم منهما أن يكون بمقدار الصلاة؟
لكن الأول أظهر؛ حيث ورد مبينًا في بعض الروايات، ولفظه: "تُضاعَفُ
(1) رواه مسلم (649)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة، والبخاري (4440)، كتاب: التفسير، باب:{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (621)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: فضل صلاة الفجر في جماعة، ومسلم (649)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
على صلاةِ الفَذِّ"، مشعرة به، ثم المراد بالفذ: إِذا لم يكن معذورًا بترك الجماعة؛ لمرض، أو سفر، ونحوهما.
أما إذا كان معذورًا بذلك؛ فهل يقع التفاضل بينه، وبين الصلاة في جماعة؟
إن جعلنا الألف واللام، في الفذ؛ تعريفًا للعموم: اقتصر التفاضل بينهما؛ فيدخل تحته: الفذُّ المصلي بعذر، وغيرِ عذر، لكن المعذور يكتب له أجر الجماعة؛ إذا كانت صلاته في الجماعة في حال صحته، وإقامته.
لما روى البخاري في "صحيحه" من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُكْتَبُ للمسافر والمريض ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا"(1)، والله أعلم.
وفي الحديث فوائد:
منها: المفاوتة في الفضائل في الجماعة؛ في الصلاة، وغيرها.
ومقتضى مذهب مالك: عدمُ التفاوت في الجماعة للصلاة؛ كما تقدم، واستدل لذلك: بأنه لا مدخل للقياس في الفضائل، والحديث إذا دل على الفضل مقدار معين، مع امتناع القياس، اقتضى الاستواء في العدد المخصوص، في الفضل؛ فيدخل تحته كل جماعة، سواء كانت كبرى، أو صغرى، والتقدير واحد؛ بمقتضى العموم.
لكن صريح الحديث المتقدم دليلٌ على التفاوت، فبطل استدلالهُم.
ومنها: أن الجماعة ليست بفرض عين، ولا شرط للصلاة؛ لما تقدم أن صيغة أفعل التفضيل تقتضي الاشتراك في الفضل؛ وهو يقتضي وجود فضيلة في صلاة الفذ، وما لا يصح لا يقتضي ذلك؛ ولذلك نقول، في انتفاء المشروط: بانتفاء الشرط؛ فدل على عدم شرطيتها.
(1) رواه البخاري (2834)، كتاب: الجهاد والشر، باب: يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة، بلفظ:"إذا مرض العبد أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا".