الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ؛ لِيُؤْتَمَّ بِهِ؛ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ؛ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ"(1).
وَبِمَعْناهُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ؛ فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ؛ أَنِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ:"إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ"(2).
أما عائشة، وأبو هريرة؛ فتقدم الكلام عليهما.
وأما الكلام على ألفاظه:
فالفاء: تقتضي التعقيب؛ فيقتضي أن تكون أفعال المأموم عقبَ أفعال الإمام القولية، والفعلية، فنبه صلى الله عليه وسلم بالتكبير والتسميع على القولية، وبالركوع والرفع على الفعلية.
وقد تقدم الكلام على المنع من مسابقة الإمام في الحديث قبله، وأما مساواة الإمام:
فقال الفقهاء: هي مكروهة، قالوا: ولا تستحب موافقةُ الإمام في شيء من أحكام الصلاة، إلا في التأمين؛ للحديث الصحيح: "فَمَنْ وافقَ تأمينُه تأمينَ
(1) رواه البخاري (689)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إقامة الصف من تمام الصلاة، ومسلم (417)، كتاب: الصلاة، باب: النهي عن مبادرة الإمام بالتكبير وغيره.
(2)
رواه البخاري (656)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، ومسلم (412)، كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام.
الإمام، غُفر لهُ ما تقدَّم من ذنبِهِ" (1)، فقد وقع التخصيص على موافقته فيه؛ فاستُحِبَّ.
وإنما: تقتضي الحصر؛ للائتمام، والمتابعة في كل شيء؛ حتى في النية، والهيئة؛ من الموقف، وغيره؛ وقد اختلف في ذلك الفقهاء:
فقال الشافعي، وغيره: لا يضرُّ اختلاف النية، وجَعل الحديث مخصوصًا، بالأفعال الظاهرة.
وقال مالك، وأبو حنيفة: يضر اختلافُ النية، وجَعلا اختلاف النيات داخلًا تحت الحصر في الحديث.
وقال مالك، وغيره: لا يضر الاختلاف في الهيئة؛ بالتقدم في الموقف، وجعل الحديث عامًّا فيما عدا ذلك.
وقوله: "سمعَ الله لمن حَمِدَهُ"؛ أي: أجاب، ومعناه: أن من حمدَ الله؛ متعرضًا لثوابِه، استجابَ له؛ فأعطاه ما تعرَّض له.
"فقولوا: رَبَّنا ولكَ الحمدُ"، وأما الواو، في قوله:"ولك الحمد"؛ فهي: ثابتة في هذين الحديثين، محذوفة في أحاديث صِحاح أُخَرَ؛ وهذا الاختلاف في الاختيار، لا في الجواز؛ لثبوتهما.
لكن إثبات الواو يدل على زيادة معنى؛ وهو النداء بالاستجابة؛ فكأنه يقول: يا ربنا استجب، أو تقبل، ونحوهما، وعطف ذلك بقوله:"ولك الحمد"؛ فكأنه خبر ثان، له الحمد سبحانه وتعالى؛ فكأنه حمد الله تعالى بلفظ الخبر الدال على ثبوت الحمد له ملكًا واستحقاقًا؛ فاشتمل الكلام على: معنى الدعاء، ومعنى الخبر.
وحذف الواو دال على أحد هذين المعنيين فقط.
(1) رواه البخاري (747)، كتاب: صفة الصلاة، باب: جهر الإمام بالتأمين، ومسلم (410)، كتاب: الصلاة، باب: التسميع والتحميد والتأمين، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قلت: وثبوت الواو في ذلك منقول عن الشافعي في "مختصر البويطي"، والله أعلم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا صلَّى جالسًا؛ فصلُّوا جلوسًا أجمعونَ"، فهكذا وقع التأكيد في الروايات؛ بأجمعون: مرفوعًا، ومقتضاه: أن يكون منصوبًا؛ لأن التأكيد يتبع المؤكَّد في إعرابه، وقد وقع في بعض الروايات كذلك؛ بأجمعين: منصوبًا، ويمكن التكلف للجواب، على ما وقع في الروايات، والله أعلم.
وقولها: "إنه صلى الله عليه وسلم صلَّى في بيته؛ وهو شاكٍ"؛ هذه الشكاية، يحتمل أنها كانت من سقطة عن فرس ركبها بالمدينة، فصرعه جذم نخلة، فانفكت قدمه؛ فدخل عليه أصحابه يعودونه في مشربة لعائشة، في غير وقت صلاة فريضة؛ ووجدوه يصلِّي نافلة، فقاموا خلفه، فأشار إليهم؛ فقعدوا، فلما قضى الصلاة، قال:"إذا صلَّى الإمامُ جالِسًا، فصلُّوا جلوسًا، وإذا صلَّى قائما، فصلُّوا قيامًا، ولا تفعلوا كما فعلَ أهلُ فارسَ بعظمائِها" رواه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه"، من رواية جابر رضي الله عنه (1).
وقد أفصح في هذه الرواية: أن الصلاة التي صلوها خلفه قيامًا كانت نافلة، وأن العلة في أمرهم بالجلوس خلفه في الفريضة؛ عدمُ التشبه بالكفار؛ في قيامهم خلفَ عظمائهم؛ لتعظيمهم، فأمرهم بالجلوس؛ لتكون العظمة لله جميعًا، ولا يكون صلى الله عليه وسلم في شيء منها؛ اختيارًا، ولا غير اختيار، والله أعلم.
وكان سقوط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرسه، وجحش شقه الأيمن؛ أي: خدش جلده، وانسحاجه، فخرح، فصلى بهم جالسًا، وقال:"إنما جُعِلَ الإمامُ؛ ليؤتَمَّ بهِ"، إلى آخر الحديث؛ في ذي الحجة، سنة خمس من الهجرة، كان صلى الله عليه وسلم ركب وأتى الغابة، فسقط عن فرسه.
(1) رواه ابن حبان في "صحيحه"(2112)، وأبو داود (602)، كتاب: الصلاة، باب: الإمام يصلي من قعود، وابن خزيمة في "صحيحه"(1615)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده"(1896).
وفي هذا الشهر دفت دافَّةٌ من عامر بن صعصعة، فأمرهم ألا يدخروا من ضحاياهم شيئًا؛ ليواسوا المحتاجين، ثم قال لهم:"كُلُوا وادَّخِروا بعدَ ثلاث"(1)، والله أعلم.
فهذان النقلان يدلان على: أنه انقطع غير مرة، وصلى بهم جالسًا شاكيًا غير مرة من سقطة، وأن أمرهم بالصلاة خلفه جلوسًا متقدمٌ على قصة الصديق، وصلاتِه بالناس، وخروج النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، بين بريرة وثوبة، وإجلاسه صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه، وسيأتي الكلام عليهما، في أحكام الحديث.
وفيه مسائل:
منها: وجوبُ متابعة الإمام، وتحريمُ الاختلاف عليه.
ومنها: أنه لو أحرم المأمومُ بالصلاة، مكبرًا قبلَه؛ لا تنعقدُ صلاته.
ومنها: أن ركوعه وسجوده متأخرٌ عن الإمام.
ومنها: أن السمع مختصٌّ بالإمام، وأن ذكر الإمام: ربَّنا لكَ الحمدُ، يختصُّ به؛ هكذا استدل به الإمام أحمد؛ وهو اختيار مالك.
ومذهب الشافعي، وغيره: أن الإمام، والمأموم، والمنفرد يجمعون بين السمع، والتحميد، في الرفع من الركوع، والاستواء منه، قالوا: فالتسميع ذكر لحالة الرفع منه، والتحميد ذكر لحالة الاستواء من الرفع.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا قال: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: ربنا ولك الحمد"؛ تعليمًا لهم ما جهلوه من ذكر الاستواء، بخلاف ذكر الرفع من الركوع؛ وهو التسميع؛ فإنهم كانوا يعلمونه، ويعملون به، ويتابعون فيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم يحتج إلى التنبيه عليه، بخلاف قوله: ربنا ولك الحمد.
(1) رواه مسلم (1972)، كتاب: الأضاحي، باب: بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام، وبيان نسخه، عن جابر رضي الله عنه. وفي الباب: عن عائشة، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
وقد روى مسلم في "صحيحه"، من رواية ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع ظهره من الركوع، قال:"سمعَ اللهُ لمن حَمِدَه، رَبَّنا لكَ الحمدُ ملءَ السمواتِ، وملءَ الأرض، وملءَ ما شِئْتَ من شيءٍ بَعْدُ"(1).
وروى البخاري، في "صحيحه"، قال:"صلوا كما رأيتموني أصلي"(2).
ومنها: جواز الإشارة، والعمل القليل في الصلاة؛ للحاجة.
واعلم: أن متابعة المأموم لإمامه؛ في التكبير، والقيام، والقعود، والركوع، والسجود؛ مشروع، وأن المأموم يفعلها بعده:
فيكبر تكبيرةَ الإحرام بعد فراغ الإمام منها؛ فإن شرع قبل فراغ الإمام منها، لم تنعقد صلاته.
ويركع بعد شروع الإمام في الركوع، وقبلَ رفعه منه؛ فإن قارنَه، أو سبقه: فقد أساء، ولكن لا تبطل صلاته؛ وكذا السجود.
ويسلم بعد فراغ الإمام من السلام؛ فإن سلم قبله، بطلت، إلا أن ينوي المفارقة؛ ففيه خلاف مشهور، الصحيح: أن له أن ينوي المفارقة؛ بعذر، وغير عذر، وإن سلم معه، فقد أساء، ولا تبطل صلاته؛ على الصحيح، وقيل: تبطل.
ومنها: وجوب المتابعة في النيات؛ فلا يصلي مفترض خلف متنفل، ولا مؤدٍّ خلف قاض، ولا مؤدٍّ فرضًا خلف مصلٍّ فرضًا غيره؛ وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وآخرون، وأجاز جميع ذلك الشافعي، وطائفة، وتقدم مأخذهم في ذلك.
واستدل الشافعي على الجواز: بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ببطن نخل صلاةَ الخوف مرتين؛ بكل فرقة مرةً، فصلاته الثانية وقعت له نفلًا، وللمقتدين فرضًا.
(1) رواه مسلم (476)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع.
(2)
رواه البخاري (605)، كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
وبأن معاذًا رضي الله عنه كان يصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي قومه، فيصليها بهم؛ هي لهم فريضة، وله تطوع.
ومما يدل على أن الإتمام إنما يجب في الأفعال الظاهرة؛ قوله صلى الله عليه وسلم، في رواية جابر:"ائْتَمُّوا بأئمتكُم: إن صلَّى قائمًا؛ فصلُّوا قيامًا، وإن صلَّى قاعدًا؛ فصلُّوا قعودًا"(1).
ومنها: أنه لا يجوز للقائم القادرِ على القيام أن يصلي خلف القاعد قائمًا؛ وبه قال أحمد، والأوزاعي.
وقال مالك، في المشهور عنه، وعن أصحابه: لا يجوز أن يؤم أحد جالسًا، وإن كان مريضًا، يؤم الأصحاء قيام، لا قعود؛ وبه قال محمد بن الحسن.
وقال أبو حنيفة، والشافعي، وجمهور السلف: لا يجوز للقادر على القيام أن يصليَ خلف القاعد، إلا قائمًا.
وتمسك مالك، ومن قال بقوله؛ في عدم جواز إمامة الجالس مطلقًا، بحديث رواه الدارقطني، من حديث جابر الجعفي، عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَؤُمَّنَّ أحدٌ بعدي جالسًا"(2)، ورواه مجالد -أيضًا-، عن الشعبي؛ وهذا مرسَل، لو صح إسناده، كيف وجابر الجعفي متروك، ومجالد ضعيف؛!
قال أبو حاتم بن حبان: أول من أبطَل في هذه الأمة صلاةَ المأموم قاعدًا، إذا صلى إمامُه جالسًا: المغيرة بن مِقْسم صاحبُ النخعي، وأخذ عنه حمادُ بنُ أبي سليمان، ثم أخذ عن حماد: أبو حنيفة، وتبعه عليه مَنْ بعده من أصحابه.
وأعلى شيء احتجوا به: شيءٌ رواه جابر الجعفي، عن الشعبي؛ فذكره، قال: وهذا لو صح إسناده، لكان مرسلًا؛ والمرسل من الخبر وما لم يُرْوَ سِيَّانِ في الحكم عندنا.
(1) رواه مسلم (413)، كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام.
(2)
رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 398) وقال: لم يروه غير جابر الجعفي عن الشعبي، وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم به حجة، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 80).
لأنّا لو قبلنا إرسالَ تابعي، وإن كان ثقة فاضلًا، على حسن الظن، لزمنا قبولُ مثله عن أتباع التابعين، ومتى قبلنا ذلك؛ لزمنا قبول مثله عن الأتباع، ومتى قبلنا لزمنا قبول مثل ذلك، عن تباع التبع، ومتى قبلنا ذلك؛ لزمنا أن نقبل من كل إنسان إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفي هذا نقض الشريعة.
والعجب ممن يحتج بهذا المرسل، وقد قدح في روايته الإمام أبو حنيفة رحمه الله، قال: ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا لقيت فيمن لقيت أكذبَ من جابر الجعفي، ما أتيته بشيء قط من رأي، إلا جاءني به بحديث، وزعم أن عنده كذا وكذا ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينطق بها؛ فهذا أبو حنيفة يجرح جابرًا الجعفي، ويكذبه، ضد من انتحل، من أصحابه مذهبه؛ هذا آخر كلامه، والله أعلم (1).
واحتجوا -أيضًا- بترك الخلفاء الراشدين الإمامة؛ من قعود، وهو ضعيف؛ فإن ترك الشيء لا يدل على تحريمه، ولعلهم اكتفوا بالاستنابة للقادرين، وإن كان وقع الاتفاق على أن صلاة القاعد بالقائم مرجوحة، وأن الأولى تركها؛ فذلك سبب ترك الخلفاء الإمامة من قعود.
ومن العلماء من قال: إن إمامة الجالس كانت خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو ضعيف، فالأصل عدم ذلك حتى يدل الدليل عليه.
واحتج الشافعي، ومن قال بقوله؛ أنه لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائمًا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرض وفاته بعد هذا قاعدًا، وأبو بكر والناس خلفه قيام.
وهذا هو الصواب؛ فقد روى مسلم في "صحيحه" من حديث عائشة رضي الله عنها في صلاة أبي بكر بالناس، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جلس عن يسار أبي بكر، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالسًا،
(1) انظر: "صحيح ابن حبان"(5/ 472 - 474).
وأبو بكر قائمًا، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر (1).
وقد تقدم أن الذي خرج معه في تلك الحال: بَريرةُ وثوبة، إلى أن أجلستا النبي صلى الله عليه وسلم في مصلاه عن يسار أبي بكر؛ فعائشة وهما أعلم بذلك من غيرهن، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعلونه ناسخًا لما قبله؛ وهذا قول البخاري، والجمهور، وزعم بعض العلماء؛ أن أبا بكر كان هو الإمام، والنبي صلى الله عليه وسلم مقتدٍ به، لكن الصواب: الأول.
وقد تقدم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجلوس وراءه في الصلاة كان متقدمًا، في آخر سنة خمس من الهجرة، وصلاة أبي بكر رضي الله عنه خلفه قائمًا؛ في آخر مرض وفاته، في أوائل سنة إحدى عشرة، وأن العلة في منع صلاة القائم خلف القاعد؛ لمخالفة فارس والروم في قيامهم خلف عظمائهم؛ فلما عقلوا ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، ردهم إلى ما هو مطلوب للشرع أيضًا؛ وهو أنه لا يترك واجب لأجل موافقة الإمام، من غير معارضة ما هو أهم منه.
فإن تعظيم الرب سبحانه وتعالى؛ هو المطلوب الأعظم، وعدم مشاركة غيره له في ذلك؛ فإذا تحقق العبد ما يستحقه الرب سبحانه وتعالى؛ من التوحيد، والإجلال، والتعظيم، لزمه القيام بامتثال أمره، واجتناب نهيه، ومما أمر به القادر القيامُ في الصلاة الفرضية، ومتابعة الإمام؛ فإذا عجز الإمام، لا يتركه المأموم لأجله.
قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وثبت في "الصحيحين": أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمرتُكم بأمرٍ، فافعلوا منه ما استطعتم"(2).
وتأول بعضهم قولَه صلى الله عليه وسلم: "وإذا صلَّى جالسًا، فصلوا جلوسًا أجمعين"؛ على
(1) رواه مسلم (418)، كتاب: الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما مَنْ يصلي بالناس، والبخاري أيضًا (681)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم.
(2)
تقدم تخريجه.