الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا الحديث يدل على: تمام التكبير في حالات الانتقالات؛ وهو الذي استقر عليه العمل، وأجمع عليه فقهاء الأمصار؛ كما تقدم، وتقدم الاختلاف في وجوبها؛ وهو مبني على: أن الفعل للوجوب، أم لا؟ وإذا لم يكن للوجوب، رجع البحث إلى: أن الفعل بيان للمجمل، أم لا؟ ومن ها هنا مأخذ من يرى الوجوب.
والأكثرون على الاستحباب، فإذا قلنا به، فتركه، هل يسجد للسهو له إذا تعدد، أم لواحد منه، أم لا يسجد؟ فيه اختلاف، وليس لذلك تعلق بهذا الحديث، إلا أن يستدل به على: أن التكبيرات المذكورة سنة، مع انضمام أن المستحب مطلقًا يقتضي سجود السهو لتركه، فيصير المجموع دليلًا على ذلك، وأما التفرقة بين كون المتروك مرة، أو أكثر؛ فهو راجع إلى الاستحباب، وتخفيف أمر المرة الواحدة، ومذهب الشافعي: أن تركها لا يوجب السجود، والله أعلم.
* * *
الحديث السابع
عَنِ البَراءِ بْنِ عازِب رضي الله عنهما قَالَ: رَمَقْتُ صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدتُ قِيامَهُ، فَرَكْعَتَهُ، فاعْتِدالَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجِلْسَتَهُ بينَ السجْدَتَيْنِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجِلْسَتَهُ ما بينَ التسلِيمِ، والانْصِرَافِ؛ قَرِيبًا مِنَ السَّواءِ.
وفي رواية البخاري: ما خَلا القِيامَ والقُعُودَ، قَرِيبًا مِنَ السَّواءِ" (1).
أما البراء؛ فتقدم ذكره.
هذا الحديث بصراحته يدل على: تخفيف القراءة، والتشهد، وإطالة الطمأنينة في الركوع، والسجود، وفي الاعتدال عن الركوع، وعن السجود،
(1) رواه البخاري (759)، كتاب: صفة الصلاة، باب: استواء الظهر في الركوع، ومسلم (471)، كتاب الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام. =
ونحو هذا قد ثبت في "صحيح مسلم"، من رواية أنس، قال: ما صليتُ خلفَ أَحد أوجزَ صلاةَ؛ من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تمامٍ (1).
ولا شك، أن قوله:"قريبًا من السَّواء"؛ يدل على بعضها، كان فيه طول يسير على بعض؛ وذلك في القيام، ولعله في التشهد كذلك؛ لأنه يقتضي: إما تطويل ما العادةُ فيه التخفيف، أو تخفيف ما العادةُ فيه التطويل، في القيام؛ كقراءة ما بين الستين إلى المئة في الصبح.
وكما ثبت في قراءة صلاة الظهر؛ بحيث يذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يتوضأ، ثمَّ يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو في الركعة الأولى؛ مما يطولها.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم؛ قرأ سورة المؤمنين، حتى بلغ ذكر موسى وهارون (2)، وأنه صلى الله عليه وسلم؛ قرأ في المغرب بالطور (3)، والمرسلات (4)، وفي "صحيح البخاري": أنه قرأ فيها بالأعراف (5)، وأشباه هذا.
ويوافق هذا ما رواه مسلم، في رواية هذا الحديث؛ من عدم ذكر القيام، وما ذكره البخاري؛ كما ذكره المصنف: أن ما خلا القيام، والقعود؛ قريبًا من السواء.
ومعلوم أن القيام يشمل قيام القراءة، وقيام الاعتدال، والقعود يشمل قعود التشهد، وقعود الجلوس بين السجدتين؛ فحينئذ يجمع بين الروايات كلها؛ بأنها
(1) رواه مسلم (473)، كتاب: الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام.
(2)
رواه مسلم (455)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الصبح، عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (731)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الجهر في المغرب، ومسلم (463)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الصبح، عن جبير بن مطعم رضي الله عنه.
(4)
رواه البخاري (4166)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(5)
رواه البخاري (730)، كتاب: صفة الصلاة، باب: القراءة في المغرب، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.
محمولة على اختلاف أحوال؛ ففي أوقات يطول، وفي أوقات يخفف.
ذهب بعضهم إلى: أن التخفيف هو المتأخر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك التطويل، وقد ورد في بعض الأحاديث: أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت بعدُ تخفيفًا (1)، وأن الذي ذكره البخاري؛ وهو قوله: ما خلا القيامَ، والقعودَ، صحيح، وأن ذكر القيام في رواية الكتاب وَهْمٌ من الراوي.
قال شيخنا أبو الفتح القاضي: وهذا بعيد عندنا؛ لأن توهيم الراوي الثقة، على خلاف الأصل، لا سيما إذا لم يدل دليل قوي لا يمكن الجمع بينه وبين الزيادة؛ على كونها وهمًا.
وليس هذا من باب العموم والخصوص؛ حتى يُحمل العام على الخاص، فيما عدا القيام؛ فإنه قد صرح من حديث البراء، بذكر القيام، ويمكن الجمع بينهما؛ بأن يكون فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كان مختلفًا؛ فتارة: يستوي الجميع، وتارة: يستوي ما عدا القيام، والقعود.
وليس في هذا، إلا أحد أمرين:
إما الخروج عما تقتضيه لفظة (كان) من المداومة، أو الأكثرية.
وإما أن يقال: الحديث اختلف رواته عن واحد؛ فيقتضي ذلك: التعارض، ولعل هذا هو السبب الذي دعا من ذكرناه عنه؛ أنه نسب تلك الرواية إلى الوهم إلى من قاله؛ وهذا هو الوجه الثاني؛ أعني: اتخاذ الرواية أقوى من الأول، في وقوع التعارض، وإن احتمل غير ذلك، على الطريقة الفقهية.
ولا يقال: إذا وقع التعارض؛ فالذي أثبت التطويل في القيام لا يعارضه من نفاه؛ وإن المثبت مقدم على النافي؛ لأنا نقول: الرواية الأخرى تقتضي بنصها: عدم التطويل في القيام، وخروج تلك الحالة -أعني: حالة القيام والقعود- عن بقية حالات أركان الصلاة؛ فيكون النفي، والإثباب: إذا انحصروا في محل
(1) رواه مسلم (458)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الصبح، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه.
واحد، والنص والإثبات إذا انحصرا في محل تعارضا.
إلا أن يقال باختلاف هذه الأحوال، بالنسبة إلى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا يبقى فيه انحصار إلى محل واحد، بالنسبة إلى الصلاة، ولا يعترض على هذا إلا بما قدمناه؛ من مقتضى لفظة (كان)، أو كون الحديث واحدًا عن مخرج واحد اختلف فيه؛ فلينظر ذلك من الروايات، وتحقق الاتحاد، أو الاختلاف، في مخرج الحديث، والله أعلم، هذا آخر كلامه (1).
أما أحكامه:
ففيه دليل على: أن الرفع من الركوع ركنٌ طويل؛ لأنه لا ينافي أن تكون القراءة في الصلاة، فرضِها ونفلِها؛ بمقدار ما إذا فعل في الركوع، ويكون قصيرًا، والذي قاله في الحديث؛ من استواء الصلاة، ذهب بعضهم إلى: أنه الفعل المتأخر، بعد ذلك التطويل كما ذكرنا.
وقد تكلم الفقهاء في الأركان الطويلة والقصيرة، واختلفوا في الاعتدال عن الركوع؛ هل هو قصير، أم طويل؟ والراجح عند الشافعية: أنه قصير.
ولم يتكلم أصحاب الشافعي في الجلوس بين السجدتين؛ في طوله وقصره، وأنه على الخلاف، بل أطلقوا: أنه قصير، ومقتضى الحديث: أنه طويل؛ كالاعتدال عن الركوع.
وفائدة الكلام في تطويل ما هو قصير: أنه هل يقطع الموالاة الواجبة من الصلاة، أم لا؟
ذهب بعض الفقهاء: أنه لا يبطل الصلاة، بل يجب عليه أن ينقل إليه ركنًا قوليًّا؛ كقراءة الفاتحة، ثم يركع، ثم يعتدل، والله أعلم.
وفيه دليل على: أن تكون أفعالُ الصلاة مقاربةً بعضُها بعضًا في الطول والقصر؛ فلو طول بعضها على بعض جاز.
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 229 - 230).