الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولو ولغ في ماءٍ كثيرٍ بحيث لم ينقصْ بولوغه عن قلَّتين، لم ينجسْه، ولو ولغ في ماءٍ قليل، أو طعام، فأصاب ذلك الماءُ والطعامُ ثوبًا أو بدنًا أو إناءً آخر، وجب غسله سبعًا، إحداهنَّ بالتُّراب، ولو ولغ في إناءٍ فيه طعام جامد، أُلقي ما أصابه وما حوله، وانتُفع بالباقي على طهارته السَّابقة؛ كما في الفأرة تموتُ في السَّمن الجامد - والله أعلم -.
* * *
الحديث السابع
عن حُمْرَانَ مولى عُثمَانَ بنِ عفانَ رضي الله عنهما[أنه رأى عثمانَ رضي الله عنه، دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيهِ مِنْ إنَائِه، فَغَسَلَهُما ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَل يَمِيْنهُ في الوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ واسْتنَشَقَ واسْتنَثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ويَدَيْهِ إلَى المِرْفَقَيْنِ ثَلاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأسِه، ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ ثَلاثًا، ثُمَّ قالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأ نَحْوَ وُضُوئي هَذَا، وَقالَ:"مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَه، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"(1).
أمَّا راوياه:
فأحدهما: عثمانُ بنُ عفان بنِ أبي العاصي بنِ أميَّةَ بنِ عبدِ شمسِ ابنِ عبدِ منافٍ، يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبدِ مناف، كنيته أبو عمرو، وقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو ليلى، أسلم قديمًا، وهاجر الهجرتين، وتزوَّج ابنتي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا سمِّي: ذَا النَّورَين، ولم يُعْرَفْ أحدٌ من لَدُنْ آدمَ صلى الله عليه وسلم تزوج بنتي نبي غير عثمان رضي الله عنه رقيَّةَ وأمَّ كلثوم رضي الله عنهما، وهو أوَّلُ مَنْ خرج إلى أرض الحبشة، وهاجرَ إليها، وسائرُ من هاجر إليها تبعٌ له رضي الله عنه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحيي منه أكثرَ من غيره، وهو أكثر
(1) رواه البخاري (158)، كتاب: الوضوء، باب: الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، ومسلم (226)، كتاب: الطهارة، باب: صفة الوضوء وكماله.
أمته صلى الله عليه وسلم حياء، واشترى بئر رُومةَ، وجعلها للمسلمين، وجهَّز جيشَ العُسْرَةِ، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمغفرة؛ ما أسرَّ وما أعلن، وما أبدى وما أخفى، وما هو كائن إلى يوم القيامة، وقال:"ما يُبَالِي عُثْمَانُ مَا عَمِلَ بَعدَهَا"(1)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يزيدُ في مَسْجِدِنَا؟! فاشترى عثمانُ موضعَ خمسِ سواريَ، فزاده في المسجد (2).
وقال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه: كان عثمانُ رضي الله عنه أَوْصَلَنا للرَّحم، وكان مِنَ {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الآية التي في المائدة [93](3).
وزوَّجه الله سبحانه أمَّ كلثوم بنتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل صَداق رقيَّةَ، وعلى مثلِ صحبتها، وكان مِمَنْ تستحي منه ملائكةُ الرحمنِ، وشبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبراهيم خليلِ الرَّحمن، وهو أحدُ المشهود لهم بالجنة (4)، وأحد الَّذين كانوا معه صلى الله عليه وسلم بحراءٍ، فانتفض، فقال صلى الله عليه وسلم:"اثْبُتْ أُحُد؛ فَإِنَّما عَلَيْكَ نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ"(5)، وأحدُ الخلفاء الرَّاشدين، وأحدُ الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدُ الَّذين قاموا به في ركعةٍ واحدةٍ، وأحدُ صُوَّامِ الدَّهر وقُوَّامِ اللَّيل رضي الله عنه، وجمعَ النَّاسَ
(1) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(1/ 340)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(39/ 65)، عن حذيفة رضي الله عنه بهذا اللفظ.
(2)
رواه ابن أبي عاصم في "السنة"(2/ 595)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(39/ 19 - 20).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(32060)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 55)، واللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(2574)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(39/ 465).
(4)
قوله: "وهو أحد المشهود لهم بالجنة، ساقطة من "ح".
(5)
رواه البخاري (3483)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. ورواه مسلم (2417)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
على المصحف، واستسلم للقتلِ صبرًا لله تعالى.
روى عنه من الصَّحابة: زيدُ بنُ خالدٍ الجهنيُّ، وعبدُ الله بنُ الزبير، والسائبُ بن يزيدَ، ومحمود بنُ لبيدٍ (1)، وجماعةٌ كثيرة من التَّابعين؛ كابنه، وغيره.
رُويَ له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مئةُ حديثٍ، وستة وأربعونَ حديثًا، اتفقا على ثلاثةِ أحاديثَ، وانفردَ البخاريُّ بثمانية، ومسلمٌ بخمسة، وروى له أيضًا: أبو داود، والتِّرمذيُّ، والنَّسائيُّ، وابن ماجَهْ، وغيرُهم من أصحاب السُّنن والمسانيد.
ووليَ الخلافةَ اثنتي عشرةَ سنةً إلا عشرةَ أيامٍ، وقيل: إلا اثنتي عشرة ليلةً، وكان في يده خاتمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوًا من سنتين، ثم سقط في بئر أريس من آبار المدينة، فاتَّخذ خاتمًا من فضة فصُّه منه، ونقش عليه: آمنت بالَّذي خَلَقَ فسوَّى.
ووُلِدَ في السَّنة السَّادسة بعدَ الفيل، وقُتِلَ يومَ الجمعة بعدَ العصر، وهو صائمٌ، لثمانَ عشرةَ خَلَوْنَ من ذي الحجة، وقيل: قتل في أوسط أيَّام التَّشرِيق سنة خمس وثلاثين، وهو ابنُ تسعين سنةً، وقيل: ابنُ ثمان، وقيل: اثنتين وثمانين، وصلَّى عليه جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ، ودُفن بالبقيع بُحشِّ كوكب ليلًا (2).
قال أَسْهَمُ بْنُ حُبَيشٍ: لمَّا حملنا نعشه، غَشِيَنا سوادٌ من خَلْفِنا،
(1) قوله: "بن لبيد" ساقطة من "ح".
(2)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 53)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 208)، و"تاريخ الطبري"(2/ 679)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1037)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (39/ 3)، و"المنتظم" لابن الجوزي (4/ 334)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 578)، و"الكامل في التاريخ" له أيضًا (3/ 74)، و"تهذيب الكمال" للمزي (19/ 445)، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي (1/ 8)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (7/ 199)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 456)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 127).
فَهِبْنَاهُم، فنادى مناديهم أَنْ: لا روعَ عليكم، اثبتوا؛ فإِنَّا جئْنا نشهدُه معكم، فكان ابن حبيش يقول: هم ملائكةُ الله (1).
وأمَّا الرَّاوي عنه مولاه حُمرانُ بنُ أَبانَ، فهو مدنيٌّ قُرَشيٌّ أُمَوِيٌّ مولاهم، كان من سبي عينِ التَّمر، كان للمسيب بن نجيد، فابتاعه عثمان، وأدرك أبا بكرٍ وعمرَ، وسمع -أيضًا- عبدَ الله بنَ عمرٍو، ومعاويةَ بنَ أبي سفيانَ، فهو تابعيٌّ ثقة، احتجّا به في "الصّحيحين"، وكان كثيرَ الحديث، وقولُ ابن سعدٍ: لم أَرَهُم يحتجُّون بحديثه، غيرُ صحيح، وهو بضم الحاء - والله أعلم - (2).
وأمَّا قوله: "دَعَا بِوَضُوءٍ": هو بفتح الواو، وهو الماء، وبالضم اسم لفعل الوُضوء، وقيلَ: بالفتحِ فيهما، وهو قليل، وحُكي ضمُّها، وهو شاذٌّ (3)، وذكر بعض أصحاب مذهب مالك أَنَّه هل هو اسم لمطلق الماء، أو لما يفيد الوضوء به، أو إعداده له؟.
قال: فيه نظرٌ يحتاج إلى كشفٍ وبيانٍ تنبني عليه مسألة الماء المستعمل لمن استدلَّ بحديث جابر على طهوريته حيث صبَّ عليه صلى الله عليه وسلم من وضوئه، ولا يلزم ذلك؛ للإجماع على طهارة المستعمل في فرض الطَّهارة، فكيف بنفلها؟ وما نقل عن أبي حنيفة؛ من نجاسته، ثبت عنه رجوعه عنه، هذا إذا سلَّمْنَا أَن الَّذي صبَّ عليه كان مستعملًا في طهارته، واستعمالهُ للتبريك
(1) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(137)، والطبراني في "المعجم الكبير"(110)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(39/ 427 - 430).
(2)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 283)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 80)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 265)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 179)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (15/ 172)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 182)، و"تهذيب الكمال" للمزي (3/ 21)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 180)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 21).
(3)
انظر: "المُغْرب" للمطرزي (2/ 358)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 194)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 194)، (مادة: وضأ).
جائزٌ بالإجماع، خصوصًا من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنْ حمَلْنَاه على ما فَضَلَ من ماءِ وضوئه بعد فراغه منه، فهو طهور بلا شكٍّ، وهو طاهر فيه، فلا يبقى فيه دليل من حيث اللَّفظ على ما أراده من طهوريَّة المستعمَل، وهو مذهب مالك، وهو قول قديم للشَّافعي، وجعل أن الوضوء -بالفتح- حقيقة في المستعمل، أو الأقرب إلى الحقيقة، وأَن استعمالَه في المعدِّ للوضوء مجازٌ، وأَنَّ الحملَ على الحقيقة أو الأقرب إليها أولى، فحينئذٍ حملُه على مطلق الماء أولى مِنْ حملِه على أَنْ يكونَ مقيدًا بالاستعمال، أو الإعداد، وهو قول جمهور الفقهاء وأئمة اللغة - والله أعلم -.
وهذا البحث أفاد إلى أن الماء المطلق يسمَّى وَضوءًا عند إطلاقه، أو لا بدَّ أَنْ يُقْصَدَ به الوضوء ويعد (1) له، وحينئذٍ يرجع إلى تأثير النيّات في الأعيان، وتغيير أحكامها، وهو موجود، - والله أعلم -.
وقوله: "فأفرغَ على يديه": أفرغ؛ أيْ: قَلَبَ وصبَّ على يديه ليغسلهما، واليدان تثنية يد، وهي مؤنثة.
ويؤخذ من الحديث الإفراغُ على اليدين معا، وفي الحديث الآخر:"أَفْرَغَ بيَدِهِ اليُمْنَى عَلَى اليُسْرَى، ثُمَّ غَسَلَهُما"(2)، وهو قدر مشترك بين غسلهمَا مجموعتين أو مفرقتين، لَكِنْ إِنْ أمكنَ غسلُهما معًا، فهو أفضلُ هنا، وإلَّا قدَّم الكف اليمنى كما إذا غسل يده اليمنى إلى المرفق؛ فإِن الأفضلَ تقديمُها بلا شَكٍّ.
قوله: "ثُمَّ تمضمضَ واستنشقَ واستنثرَ": "ثُمَّ" مفيدة للتَّرتيب بين غسل اليدين، والمضمضة، وأصلُها مشعرٌ بالتَّحريك، ومنه: مضمضَ النُّعاس في عينيه: إذا تحرك، واستعملت في المضمضة لتحريك الماء في الفم،
(1) في "ح": "يعتد".
(2)
رواه أبو داود (109)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ومن طريقة البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 47)، وعن أبي علقمة: أن عثمان دعا بماء .... فذكره.
وهو حقيقته عندَ الفقهاء، ولا يُشترطُ مجُّه عندهم، حتى لو ابتلعه بعدَ ذلك، كان قد أتى بها، وعمل بالسُّنة فيها.
ومن ذكر المجَّ منهم في المضمضة، جرى على الأغلب في العادة.
والاستنشاق: أَخْذُ الماء بخياشيمه إلى أعلى.
والاستنثار: أَخْذُه مع الأذى منها إلى خارج، وقد تقدَّم في الحديث الرَّابع الكلامُ على الاستنشاق والاستنثار وحقيقتهما، وأنَّ بعضَهم جعلهما بمعنًى واحدٍ، وهذا الحديثُ يردُّ عليه؛ فإنَّه صلى الله عليه وسلم عطفهما، بعضَهما على بعض، والعطفُ يقتضي المغايرةَ.
قوله: "ويَغْسِلُهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" مبيِّنٌ لذكر العدد المهمَل في رواية مَن أهملَه؛ كمالكٍ وغيرِه، وهو المذكور -أيضًا- في رواية أبي هريرة في الحديث الرَّابع.
وقوله: "ثمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا" الوجهُ: مشتقٌّ من المواجهة، وهو عندَ الفقهاء كذلك، لكنِ اختلفوا في حَدِّهِ، فالذي عليه جمهورُهم أنَّه: ما بين مَنابتِ شعرِ الرَّأس في غالبِ المنابت -لا باعتبار الصَّلَع ولا الغمم- ومنتهى اللَّحْيين، وهما: مجتمع عظمي الحنك طولًا، وفي العرض: ما عدا وَتِدَي الأذنين.
و"ثمَّ" هنا للتَّرتيب بين المسنون والمفروض، وبعضُ الفقهاء رأى التَّرتيبَ في المفروض دونَ المسنون.
وقيل في حِكمةِ تقديمِ المضمضةِ والاستنشاقِ على غَسْلِ الوجهِ المفروض: أنَّ المعتبرَ في صفاتِ الماء للتَّطهير: لونٌ يُدْرَكُ بالبصر، وطعمٌ يُدْرَكُ بالذَّوقِ، ورِيحٌ تُدْرَكُ بالشَّمِّ، فقُدِّمت هاتان السُّنَتَّانِ لاختبارِ الماء، قَبْلَ فِعْلِ الفرضِ.
وقوله: "وَيَدَيْهِ إلى المِرْفَقَيْنِ" المرفق: بفتح الميم وكسر الفاء، وقيل: عكسه، لغتان، وكذلك المرفق: من الأمر الذي يَرتفقُ ويَنتفعُ به
الإنسان (1)، وهما قراءَتَانِ في السَّبع، قرأ نافع وابن عامر بالأولى، وقرأ الباقون بالثَّانية.
والمرادُ به: موصلُ الذِّرَاع في العظمين.
لكن اختلفَ قولُ الشَّافعي رحمه الله: هل هو اسم لإبرة الذِّرَاع، أم لمجموع رأس عظم العضد مع الإبرة؟ على قولين.
وبنى على ذلك أَنَّه لو شُلَّ الذِّراعُ من العضد، هل يجب غسلُ رأسِ العضدِ، أم يستحبُّ؟ فيه خلافٌ، المشهورُ وجوبُهُ، ومذهبُ مالك والشَّافعي وجمهورِ العلماء وجوبُ إدخالِ المرفقينِ في الغَسْلِ، وقال زُفَرُ وأبو بكرِ بنُ داود: لا يجبُ إدخالهُما.
ومنشأُ الاختلافِ: أنَّ "إلى" لانتهاءِ الغايةِ، وقد تردُ بمعنى "مع"، والأول هو المشهور، فَمَن قالَ به، لم يُوجِبْ إدخالَهما في الغسل، ومَنْ قالَ بالثاني، أوجبه.
وفرَّقَ بعضُهم بين أَنْ تكونَ الغايةُ من جنسٍ ما قبلها، أو لا، فإن كانت من الجنس، دخلتْ؛ كما في الوضوء، وإِنْ كانتْ من غيره، لم تدخلْ؛ كما في قوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
ومنهم مَنْ قالَ: إِنْ كانَت الغَايةُ لإِخراج ما دخلَ قبلَها، لم يخرجْ؛ فإن اسمَ اليدِ: ينطلقُ عليها إلى المنكب، حتَّى قالَ أَصحابُ الشّافعيِّ: لو طالَت أظافيرُه ولم يقلِّمْها، وجبَ غسلُها بلا خلافٍ؛ لاتصالها باليد، ودخولها فيها، وكذلك لو نبَتَ في محلِّ الفرضِ يدٌ أخرى، أو سَلْعةٌ، وَجَبَ غسلها، بلا خلاف أيضًا.
فلو لم تردْ هذه الغايةُ، لوجبَ غسلُ اليد إلى المنكب، فلمَّا دخلَت، أُخرِجَ عن الغسلِ ما زادَ على المرفقين، فانتهى الإخراج إلى المرفقين، فدخلا في الغسل.
(1) انظر: "النهاية في غريب الحديث"(2/ 246)، و"مختار الصحاح" (ص: 105)، و"لسان العرب" لابن منظور (10/ 118)، (مادة: رفق).
وقال آخرون: لمَّا تردَّد اللَّفظُ بين أَنْ يكونَ للغاية، أو بمعنى "مع"، فاقتضى الإجمالَ؛ فبينه فعله صلى الله عليه وسلم؛ حيث أدارَ الماء على مِرْفقيه، وفعلُه صلى الله عليه وسلم أصلٌ في بيان المجمل، خصوصًا في الوجوب.
قال شيخنا أبو الفتح محمَّدُ بنُ عليِّ بنِ وهبٍ القشيريُّ رحمه الله: وهذا عندَنا ضعيفٌ؛ لأنَّ "إلى" حقيقةٌ في انتهاءِ الغَاية، مجازٌ بمعنى "مع"، ولا إِجْمَالَ في اللَّفظ بعدَ تبيين حقيقته، ويدلُّ على أَنَّها حقيقة في انتهاء الغاية: كثرةُ نصوصِ أهلِ العربيَّة على ذلك، ومَنْ قال بأنَّها بمعنى "مع"، لم ينصَّ على أنَّها حقيقةٌ في ذلك؛ فيجوز أَنْ يريدَ المجاز (1).
قوله: "ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ" هذه الباء مقتضاها عند الشَّافعي التبعيضُ في الآية الكريمة، ويجيء ذلك هنا.
وأنكر أَنْ تكونَ للتَّبعيضِ جماعةٌ، وقالوا: مسحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جميعَ رَأْسِه، بدأَ من مقدَّمِه إلى مؤخَّرِه، أقبلَ بيديه وأدبرَ، وهو مبينٌ للمراد من الآية، ولا شكَّ أن اسمَ الرأسِ حقيقةٌ في العضوِ كلِّه، لكنَّ الفقهاءَ اختلفوا في القَدْرِ الواجِبِ مِنَ المسحِ، وليس في الحديث ما يدلُّ على الوجوب لمسح جميعه؛ لجواز أَنْ يكونَ الثوابُ المخصوصُ على هذهِ الأفعالِ؛ إذ لا يلزمُ منه عدمُ الصِّحة عند عدم كلِّ جزءٍ من تلك الأفعال، كما رتَّبه فيه على المَضْمَضة والاسْتِنْشَاق، وإِنْ لم يكونا واجبينِ عندَ كثيرٍ من الفقهاءِ أو الأكثرينَ، وادِّعاءُ الإجمال فيه كما في المرفقين، وأَن الفعلَ بيانٌ له، ليسَ بصحيحٍ؛ لأنَّ الظَّاهرَ من الآية بيِّن، إمَّا على مطلَق المسح؛ كما يقوله الشَّافعي رحمه الله، أو على الكلِّ؛ كما يقوله مالكٌ رحمه الله في أنَّ الرأسَ حقيقةٌ في كلِّه، والتبعيض لا يعارضُه، فلا إجمالَ، وهذا قويٌّ، وهو قولٌ عن الشَّافعيِّ رحمه الله.
واتفق العلماءُ على أنَّ المسحَ لا يتعيَّن على الشَّعر، ولا على البشرة في حقِّ
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 36).
من له شعر، بل أيَّهما مَسَحَ عليه، أجزأه، فلا نقولُ: إنَّ مسحَ الشَّعر بدلٌ عن البَشرة؛ كما يقول في الخُفِّ - والله أعلم -.
قوله: "ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ" فيه الصَّراحةُ بوجوبِ غسلِهما، والرَّدُّ على الروافض في أن واجبَ الرِّجلين المسحُ، وقد تبيَّن ذلك -أيضًا- من حديثِ جماعةِ من الصَّحابة رضي الله عنهم في "الصَّحيح" وغيره، وأنَّهم وصفُوا وضوءَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ومن أحسنِ الأحاديثِ في ذلك حديثُ عَمْرِو بنِ عَبَسَةَ -بفتح العين المهملة والباء الموحدة-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ" إلى أَنْ قالَ: "ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ كَمَا أَمَرَهُ الله"(1)، فمن هذا الحديث انضمَّ القولُ إلى الفعلِ، وتَبَيَّنَ أن المأمورَ به الغَسْلُ.
قوله: "ثَلَاثًا" فيه استحبابُ التثليث في غَسْلِ الرِّجلين، وبعضُ الفقهاء لا يراهُ، واستُدِلَّ له بأنَّه ورد في بعض الرِّوايات:"فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا"(2)، ولم يذكرْ عددًا، وأُكِّد من جهة المعنى بقرب الرِّجْلِ مِنَ الأرض في المشي، وكثرةِ مباشرتها الأوساخَ والأدران، فاقْتَضَى الإِنقَاء مِنْ غَيرِ عددٍ، لكن هذا لا ينافي العددَ، لِمَا في ذكرِ العَدَدِ من الزيادة عليه، فتعيَّنَ العملُ به؛ لدلالةِ لفظِ الحديث عليه من غير وجه - والله أعلم -.
وقوله: "نَحْوَ وَضُوئي هَذَا" اعلم أن لفظةَ "نحو" لا تطابقُ لفظةَ "مِثْل"؛ فإنَّ المِثْلَ يقتضي ظاهرًا المساواةَ من كل وجه، إلا من حيثُ حقيقةُ "مِثْل" و"نَحْو" في خروجهما عن الوحدة، واقتضاء التغاير، لكنَّ لفظةَ "نَحْو" لا تُعطي المثلية، وإِنِ استُعملَتْ كذلك لغةَ لا اصطلاحًا عرفيًّا، فيكونُ استعمالُها فيها مجازًا، ولهذا فرَّقَ المحدِّثونَ بين "نَحْو" و"مِثْل"، فقالوا فيما كانَ مثلَ الإسنادِ أو المتنِ من كُلِّ وجهٍ: مِثْلَهُ، كما استعمله مسلم في "صحيحه" في غير موضع، وقالوا:
(1) رواه مسلم (832)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: إسلام عمرو بن عبسة، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 112).
(2)
رواه مسلم (236)، كتاب: الطهارة، باب: في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني رضي الله عنه.
"نَحْوَه" فيما قارب الإسنادَ والمتنَ، حتى استدلُّوا على الَّذينَ قالوا بالفرق بينهما، وألزموهم بمنعهم الرِّوايةَ بالمعنى.
ولعلَّ واصفَ وضوءِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وروايتَه عنه صلى الله عليه وسلم لفظةَ "نَحْوَ وَضُوئي" لحظَ الفرقَ بينهما؛ من حيثُ إنَّ مِثْلِيَّةَ وُضوئهِ صلى الله عليه وسلم لا يتأتَّى لأحدٍ إلَّا مِنْ حيثُ امتثالُ الأمرِ، وحصولُ الثوابِ المناسبِ للمتوضِّئ على قدر التبعية فيه؛ لأنَّه قد يكون في وضوئه صلى الله عليه وسلم أشياءُ لم نُكلَّفْ بها، فتكون ملغاةً بالنِّسبة إلينا، فيكون ذكرُ ذلك بيانًا للفعل الَّذي يَحصُلُ الثوابُ الموعودُ به، وعليه: فلا بدَّ أن يكونَ الوضوءُ المفعولُ موصوفًا لأجل الغرض المطلوب، فلهذا استعملَ "نَحْو" في حقيقتها العرفية، مع فوات المقصودِ، لا بمعنى "مِثْل"، أو يكون ترك ما علم قطعًا أَنَّه لا يُخِلُّ بالمقصود - والله أعلم -، مع أنَّ لفظةَ:"مثل" ثابتةٌ عنه صلى الله عليه وسلم بإسنادِ "الصَّحيحينِ" في "سنن أبي داود"، وغيره (1).
قال شيخُنا الحافظُ الموفقُ أبو الفتحِ المعروفُ بابنِ دقيقِ العيدِ رحمه الله: ويمكن أَنْ يُقالَ: إنَّ الثوابَ يترتَّب على مقاربةِ ذلكَ بالفعل تسهيلًا وتوسيعًا على المخاطَبين، من غير تضييق وتقييد بما ذكرناه إِلَّا أنَّ الأولَ أقربُ إلى مقصود البيان (2).
واعلمْ أن غفرَ ما تقدَّم من ذنوب المتوضِّئ مرتَّبٌ على أمرين:
أحدهما: وضوءُه على النَّحو المذكور.
والثَّاني: صلاةُ ركعتين بعدَه بالوصف المذكور في الحديث، والمترتَّبُ على مجموع أمرين لا يلزمُ ترتبه على أحدهما إلا بدليلٍ خارجٍ، وقد يكونُ الشَّيء ذا فضلٍ بوجودِ أحدِ جزأَيْه، فيصحُّ كلامُ مَنْ أدخلَ الحديثَ في فضل الوضوء فقط؛ لحصول مطلق الثواب، لا الثواب المخصوص على مجموع الوضوء على النَّحو
(1) رواه أبو داود (106)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك رواه مسلم (229)، كناب: الطهارة، باب: فضل الوضوء والصلاة عقبه.
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 38).
المذكور، والصَّلاة الموصوفة بالوصف المذكور.
قوله: "لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ" اعلم أنَّ حديثَ النَّفسِ على قسمينِ:
أحدُهما: ما يهجُم عليها، ويتعذَّرُ دفعهُ عنها.
والثَّاني: ما يسترسلُ معها، ويمكنُ دفعُه وقطعُه.
فيُحمَلُ الحديثُ عليه دونَ الأول؛ لِعُسر اعتبارِه، ولفظُ الحديث يقتضيه بقوله:"لا يحدِّث"؛ فإنَّه يشهد بتَسَبُّبٍ وتفعُّلٍ لحديثِ النَّفْسِ، ويُمكنُ أَنْ يُحملَ على القسمين؛ لتعلُّق العسرِ بالتَّكاليف في وجوب دفعِه وتحصيلِها لحصول الثَّواب المترتَب عليها، فمن حصل له ذلك العملُ، حصل له ذلك الثوابُ، ومن لا، فلا، ولا يكونُ ذلك من باب التَّكاليف المأثوم تاركه حتى يلزمَ دفع العسر عنه، نعم لا بدَّ أَنْ تكون الحالةُ المترتَّبُ عليها الثَّوابُ المخصوصُ ممكنةَ الحصول، وهي التَّجَرُّدُ عن شواغلِ الدُّنيا، وغلبة ذكرُ الله تعالى على القلب، وتعميرُه به، وذلك حاصل لأهل العناية، ومحكيٌّ عنهم، ثمَّ إن حديثَ النَّفس يعمُّ الخواطر الدُّنيويَّةَ والأخرويَّةَ، والحديثُ محمول على المتعلِّقِ بالدُّنيا فقط؛ لأنَّه مأمورٌ بالفِكْرِ في معاني المتلوِّ من القرآن العزيز والذكر والدَّعوات، وتدبُّرِها، وذلك لا يحصلُ إلا بحديثِ النَّفس، وليس كلُّ أمرٍ محمودٍ أو مندوبٍ بالنِّسبةِ إلى غيرِ وقتِه وحالِه من أمور الآخرة، بل قَدْ يكونُ أجنبيًّا عنها، مثابًا عليه.
وقد كان عمر رضي الله عنه يجهِّزُ الجيوشَ وهو في الصَّلاة، واستعجلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو في صلاةٍ وفراغِهِ منها، وسُئِلَ عن ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم:"كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ مِنْ تِبْرٍ، فَكَرِهْتُ أَنْ يُحْتَبَسَ، فَقَسَّمْتُهُ"(1)، وكل ذلك قربة خارجة عن مقصود الصّلاة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" الطاهر فيه العمومُ في الكبائر والصَّغائر،
(1) رواه البخاري (813)، كتاب: صفة الصلاة، باب: من صلَّى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم، من حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه.
لكنَّهم جعلوا مثلَه بالصَّغائر، وقالوا: إنَّما تُكَفَّر الكبائرُ بالتوبة، وكان مستندُهم في ذلك وروده مقيدًا في مواضعَ؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، والجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ، ورَمَضَانُ إِلَى رَمَضَان، كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ؛ مَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ"(1)، فجعلوه في هذه الأمور المذكورة مقيِّدًا للمطلق في غيرها.
وفي هذا الحديث دليلٌ على سرعة التَّعليم بالفعل، وأنَّه أبلغُ وأضبطُ في حقِّ المتعلم.
وفيه: جوازُ الاستعانة في طلب الماء، وهو مُجْمَعٌ عليه من غير كراهة.
وفيه: استحبابُ إفراغِ الماءِ على اليدين قبلَ غسلِهما ما لم تتحقَّقْ نجاستُهما.
وفيه: جوازُ إدخالِهما الإناءَ بعدَ غسلِهما، وأنَّه لا يفتقر إلى نيَّة الاغترافِ.
وفيه: استحبابُ التثليث في جميع الوضوء، ما عدا الرأسَ؛ فإنَّه لا يُكرَّر ثلاثًا، وقد ثبتَ في "صحيح البخاريِّ" أنَّه صلى الله عليه وسلم مسحَه مرَّةً بعد ذكر التَّثليث في باقي الأعضاء (2)، وهو المختار عند المحققين.
وفيه: وجوبُ التَّرتيبِ في أعضاءِ الوضوءِ؛ فإنَّه رتبه الرَّاوي بثُمَّ في معرض البيان، وهي للتَّرتيب، واختلفَ أصحابُنا في ترتيبِه في مسنونِ أعضاءِ الوضوءِ على وجهين.
وفيه: الاستدلالُ بفعلِه صلى الله عليه وسلم على الأحكام الشَّرعية، وأنَّ المرجعَ إليه صلى الله عليه وسلم في جميعها.
وفيه: استحبابُ تناولِ ماءِ الوضوءِ باليمين، ولم يتعرَّضْ في هذا الحديث لتقديم اليمين على اليسار، لكنَّه ثابتٌ في غيره من حديث عُثْمَانَ وغيره في اليدين
(1) رواه مسلم (233)، كتاب: الطهارة، باب: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (189)، كتاب: الوضوء، باب: مسح الرأس مرة، من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.