الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهل قباء فعلوا ما وجب عليهم عندَ ظنهم بقاءَ الأمر، ولم يفسد فعلهم، ولا أمروا بالإعادة.
ومنها: أن من لم يعلم بفرض الله عليه، ولم تبلغه الدعوة، ولا أمكنه
الاستعلام بذلك من غيره؛ فالفرض غير لازم له، والحجة غير قائمة.
فعلى هذا لو أسلمَ في دارِ الحرب، أو طرفِ بلادِ الإسلام، ولم يجدْ مَنْ يستعلمُه عن شرائع الإسلام، وأمكنه السير والبحثُ عما يجب عليه بالإسلام؛ قال مالك، والشافعي: يجب عليه أن يقضي ما مر؛ من صلاة وصيام لم يعلم وجوبهما.
وهذا الحكم راجع إلى القياس -أيضًا-؛ فإنه يعدُّ مقصرًا بإسلامه، واعتراضه عما يجب عليه به، مع تمكنه منه.
* * *
الحديث الثالث
عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ رحمه الله قَالَ: اسْتَقْبَلْنَا أَنَسًا حِينَ قَدِمَ مِنَ الشَّامِ، فَلَقِينَاهُ بِعَينِ التَّمْرِ، فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ، وَوَجْهُهُ مِنَ ذا الجَانِبِ -يَعْنِي: عَنْ يَسَارِ القِبْلَةِ-، فَقُلْتُ: رَأَيْتُكَ تُصَلِّي لِغَيْرَ القِبْلَةِ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ، مَا فَعَلْتُهُ (1).
أما أنسُ بنُ سيرين:
فهو تابعيٌّ بصريٌّ ثقة، روى له: البخاري، ومسلم، وغيرهما من أصحاب السنن والمساند.
وهو أخو محمد بن سيرين، التابعيِّ المشهورِ.
(1) رواه البخاري (1049)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: صلاة التطوع على الحمار، ومسلم (702)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت.
أنس هذا كنيتُهُ: أبو موسى، وقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو حمزة، ويقال في نسبته: الأنصاري؛ لأنه لما ولد، حمل إلى أنس بن مالك؛ فسماه أنسًا، وكناه: أبا حمزةَ، وكان أبوه سيرين يكنى: أبا عمرة، وكان مولى أنس ابن مالك، وابن المولى له حكمُ أبيه؛ في كونه مولًى في النسبة؛ فهو أنصاري، مولاهم.
وكان أولادُ سيرينَ ستةً: معبد، ويحيى، ومحمد، وأنس، وحفصة، وكريمة، وذكر بعضهم: خالدًا بدلَ كريمة، وأكبرُهم: معبدٌ، وأصغرهم: أنسٌ. وقال ابنُ معين: ولدُ سيرينَ أثبتُهم: محمد، وأنس: دونه، ولا بأس به، ومعبد: يعرف، وينكر، ويحيى: ضعيف الحديث، وكريمة: كذلك، وحفصة: أثبتُ منهما.
وقال غيره: روى محمد، عن يحيى، عن أخيه أنس، عن أنس بن مالك، حديثًا؛ وهذا لطيفة غريبة، ثلاثة إخوة بعضهم عن بعض.
وُلد أنس بن سيرين لستة بقيت من خلافة عثمان، وسمع جماعة من الصحابة، والتابعين، ومات سنة عشرين ومئة (1).
وأما ألفاظه:
فتقدم ذكر الشام، في الطهارة.
وأما عين التمر: فهو موضع كانت به وقعة زمنَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في أول خلافته؛ استُشهد بها جماعة من الصحابة رضي الله عنهم (2).
وأما الحمار: فهو اسم للذكر من الحمر، والأنثى: أتان.
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 207)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 32)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 48)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 287)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (9/ 314)، و"تهذيب الكمال" للمزي (3/ 346)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 622)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (1/ 328).
(2)
انظر: "معجم البدان" لياقوت (4/ 176)، و"الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 396) وما بعدها.
وأما استقبالهم لأنس حين قدم من الشام؛ فلأنهم كانوا مقيمين بالبصرة، خرجوا منها، ليتلقوه في مجيئه إلى البصرة؛ فصادفوه في استلقائه، مستقبلين له بعين التمر.
ووقع في "صحيح مسلم"، قال:"تلقينا أنس بن مالك، حين قدم الشام"(1)، في جميع رواياته؛ من غير اختلاف من رواته، قال القاضي عياض: وقد قيل: إنه وهم، وصوابه: قدم من الشام؛ كما في "صحيح البخاري"(2).
قال شيخنا أبو زكريا النووي رحمه الله: ورواية مسلم صحيحة، ومعناها: تلقيناه في رجوعه، حين قدم الشام؛ وإنما حذف ذكر رجوعه، للعلم به، والله أعلم (3).
وقوله: "رأيتك تصلِّي إلى غير القِبلة، فقال: لولا أَني رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يفعله، لم أفعلْه"؛ هذا السؤال لأنس بن مالك، إنما هو عن عدم استقبال القبلة فقط، لا عن غير ذلك؛ من هيئة، ونحوها، والله أعلم.
وفيه فوائد:
منها: الصلاة على الدابة، إلى غير القبلة، إذا كانت نافلة؛ كما تقدم في حديث ابن عمر.
ومنها: جواز صلاة النافلة في السفر على الحمار.
ومنها: أنه قد يؤخذ منه طهارة الحمار؛ لأن ملامسته مع التحرز منه متعذر، لا سيما إذا طال الزمن في ركوبه؛ فاحتمل العرق، وإن كان يحتمل أن يكون على حائل بينه وبينه.
ومنها: الرجوع إلى أفعاله صلى الله عليه وسلم؛ كأقواله، والوقوف عندها.
(1) تقدم تخريجه في حديث الباب.
(2)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 401)، و"شرح صحيح مسلم" للنووي (5/ 212).
(3)
انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (5/ 212).
ومنها: تلقي المسافر، وسؤاله عن مستند عمله المخالفِ للعادة.
ومنها: أن التابع إذا رأى من متبوعه ما يجهله، يسأله عنه.
ومنها: الجواب عن السؤال بالدليل، وفعل الصحابي، وقوله حجة ما لم يخالف، والله أعلم.
* * *