الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية، وذهب آخرون إلى أنه يجب بالأمرين جميعًا، وهو الراجح عند أصحاب الشافعي.
وأجمعت الأمة على تحريم الصلاة بغير طهارة من ما أو تراب، ولا فرق في ذلك بين الصلاة المفروضة والنافلة، وسجود التلاوة والشكر، وصلاة الجنازة.
وحكي عن الشَّعبي، ومحمَّد بن جرير الطبري من قولهما جوازُ صلاة الجنازة بغير طهارة، وهو مذهب باطل، والإجماع على خلافه، وعموم الحديث المذكور يدل على ذلك، فلو صلى مُحدِثًا متعمدًا بلا عذرٍ، أثم، ولا يكفر عند الشافعية وجمهور العلماء، وحكي عن أبي حنيفة: أَنَّه يكفر؛ لتلاعبه، دليل الجمهور أَن الكفرَ لا يحكم به إلا بالاعتقاد، وهذا المصلي اعتقاده صحيحٌ، والله أعلم.
* * *
الحديث الثالث
عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَيْلٌ للأعْقَابِ مِنَ النَّارِ"(1).
أَمَّا عبدُ الله بنُ عمرِو بنِ العاص: أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو نصير، قرشيٌّ سهمي، وهو وأبوه صحابيان، أسلم قبل أبيه، وأبوه أكبر منه بإحدى عشرة سَنَةً، واستدل الفقهاء بذلك على صحَّة إسلام الصبي المميز، إذ لم يكن عبدُ الله بالغًا، وإن كان بالغًا، فيدل أَنَ أقل سنِّ البلوغ في
(1) رواه البخاري (161)، كتاب: الوضوء، باب: غسل الرجلين، ولا يمسح على القدمين، ومسلم (241)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل الرجلين بكمالهما، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
ورواه البخاري (163)، كتاب: الوضوء، باب: غسل الأعقاب، ومسلم (242)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل الرجلين بكمالهما، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه مسلم (240)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل الرجلين بكمالهما، من حديث عائشة رضي الله عنها.
الإسلام باستكمال عشر سنين، وقيل: كان أكبر منه باثنتي عشرة سنةً، وقال ابن حبَّان: ثلاث عشرة سنةً.
وكان غزيرَ العلم، مجتهدًا في العبادة، وكان كثيرَ كتابةِ العلمِ والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثرُ أقرانه حملًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة أكثر رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وتقدم في الحديث قبله سبب ذلك.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نِعْمَ أَهْلُ البَيْتِ عَبْدُ اللهِ وأَبُو عَبْدِ الله وَأُمُّ عَبْدِ الله"(1)، وهو ممِنْ حَفِظ القرآن أجمع على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقرأ كتب الأولين؛ التَّوراة والإنجيل، ومناقبه كثيرة جدًّا، وله حكم ومواعظ.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع مئة حديث، اتفقا على سبعة عشر حديثًا، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين حديثًا؛ وروى عنه جماعة من التَّابعين، وروى له أصحاب الكتب السِّتَةِ، ومات بمكة، وقيل: بالطَّائف، وقيل: بمصر، وقيل: بالشَّام، قال أبو حاتم بن حبَّان: كان يسكن مكة، ثم خرج إلى الشَّام، وأقام بها، ومات بمصر، ويقال: مات بعجلان -قرية من قرى الشّام بالقرب من غَزَّة من بلاد فلسطين- ليالي الحرَّة- في ولاية يزيد بن معاوية، وكانت الحرة سنة ثلاث وستين، وكان له يوم مات اثنتان وسبعون سنةً، وقد قيل: مات سنة خمس وستين، ومنهم من زعم أَنَّه مات سنة تسع وستين، والأول أصحُّ، هذا آخر كلامه (2).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 161)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(798)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده"(646)، والشاشي في "مسنده"(18)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(46/ 139)، من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه. وفي الباب: عن عقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(2)
انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 261)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 5)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 210)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 956)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (31/ 238)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 345)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 264)، و "تهذيب الكمال" للمزي (15/ 357)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 79)، و "تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 41)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر =
وتقدم أبو هريرة، وسيأتي ذكر عائشةَ رضي الله عنها إن شاء الله تعالى.
وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث يوسف بن ماهك بنحوِه عن عبد الله بن عَمرو.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وَيْلٌ": هو الحزن والهلاك والمشقة من العذاب (1)، ومعناه هنا: هلاك وخيبة، والأَعْقَاب: جمع عَقِب؛ وهي مؤخر القدم، وهي -مؤنثة، وتُسَكَّنُ القافُ وتُكْسَرُ- (2)، وتخصيصه صلى الله عليه وسلم الأَعْقَابَ بالعقاب بالنار؛ لأنَّها التي لم تغسل غالبًا، وقيل: أراد صاحب الأعقاب، فحذف المضاف؛ لأَنَّهم كانوا لا يستقصون غسلَ أرجلهم في الوضوء.
وهذا الحديث ورد على سَبب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم رأى قومًا وأعقابُهم تلوحُ.
الألف واللام في "الأعقاب" يحتمل أَنْ تكونَ للعهد، فيختص الذكر بتلك الأقدام المرئية التي لم يَمسَّها الماء، ويحتمل أَنْ تكونَ للجنس، فلا يختص بها، بل الأعقاب التي هذه صفتها لا تعم بالطهر، ولا يجوز أَنْ تكون للعموم المطلق في كل الأقدام ومسحها، بل يكون العموم المطلق فيها مرادًا بالتضمين بالتنبيه بالأدنى على الأعلى.
وطرق الحديث، وجمع ألفاظه يفسر بعضه بعضًا.
وقد استدل به: على أَنَّ العقب في الرِّجْل محلٌّ للتطهير بالغَسْل؛ للتوعُّد بالنَّار على تركه، عند رؤيته يلوح من غير غسل.
وقال صلى الله عليه وسلم في بعض طرقه: "أَسْبِغُوا الوُضُوء"(3).
وقد أخرج أبو داود وغيره، بأسانيدهم الصَّحيحة؛ من حديث عمرو بن
= (4/ 192)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 294).
(1)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 235)، و"القاموس" للفيروز أبادي (ص: 1382).
(2)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 99)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 269)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 611).
(3)
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم تخريجه عند البخاري ومسلم.
شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه: أن رجلًا قال: يا رسولَ الله! كيف الطَّهور؛ فدعا بماء، فغسل كفَّيه ثلاثًا، إلى أَنْ قال: ثمَّ غسل رجليه ثلاثًا، ثمَّ قال:"هَكَذَا الوُضُوُء؛ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوَ نَقَصَ، فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ"(1).
واستُدلَّ به: على أن المسح لا يجزئُ؛ لأنّه لا يقال في المسح: أسبغوا، ولا: أمرنا بإسباغه فيه، وهذا مجمَع عليه، ولم يقل به أحد من العلماء.
وقالت الشيعة: يجب مسحهما.
وقال محمَّد بن جرير الجُبَّائي (2) -رأس المعتزلة-: يتخير بين المسح والغسل، وقال بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بين المسح والغسل، وكلها مذاهب باطلة.
وقد صنَّف الإمام أبو الفتح سليم الرَّازي رحمه الله كتابًا ستَّ كراريس بخطه، قرأه عليه الخطيب البغداديُّ، وغيره من الأئمة الأعلام، سماه:"الرِّسالة المنصفة في طهارة الرِّجلين في الوضوء" على كلام الشَّريف المرتضى أبي القاسمِ عليِّ بن الحسين الموسوي، والشَّيخِ أبي محمَدٍ عبدِ الله بن محمَّدِ بنِ النُّعمان المعروفِ بابنِ المعلِّم (3) في ذلك، واستقصى في الردِّ عليهم، وأتى فيه من الأدلة والعلوم ما يُقر به أعينَ العلماء من أهل السنة، وغيرهم، -فرحمه الله، ورضي عنه-.
وفي الحديث: وجوبُ غسل جميع الأعضاء، حتَّى لو بقي جزء لطيف من
(1) رواه أبو داود (135)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، والنسائي (140)، كتاب: الطهارة، باب: الاعتداء في الوضوء، وابن ماجه (422)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في القصد في الوضوء، وكراهية التعدي فيه، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 180)، وهذا لفظ أبي داود.
(2)
في حاشية "ح": "محمد بن جرير هذا من الشيعة، وليس هو المشهور، نبه عليه الإسنائي في شرح منهاج النووي".
(3)
هو شيخ الشيعة المفيدُ، ترجمته في "لسان الميزان" لابن حجر.