الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تتيقن النجاسة، فتجوز الصلاةُ في ثيابهم، والأكلُ معهم من المائع إذا غمسوا أيديهم فيه، والله أعلم.
وفيه: دليل على احترام أهل الفضل، وتوقيرهم في مجالستهم، ومصاحبتهم، وأن يكون على أكمل الهيئات، وأحسن الصفات.
ويُستَحبُّ لطالب العلم: أَنْ يحسِّنَ حالَه مع شيخه في المجالسة؛ بأن يكون متطهرًا، متنظفًا بإزالة الشعور المأمور بإزالتها، وقص الأظافر، وإزالة الروائح الكريهة، والملابس المكروهة، وغير ذلك؛ فإنَّ ذلك من إجلال العلم والعلماء.
وفيه: أنَّ العالم إذا رأى مِنْ تابعِه أمرًا يخالف الشرع؛ من قول، أو فعل، أو اعتقاد؛ أَنْ يرشِدَه إليه، ويبينَ له الصواب.
وفيه: جواز التعجب، بسبحان الله! وأنَّ ذلك لا يعدُّ سوءَ أدب مع التنزيه؛ وكأنَّه في المعنى: تذكيرٌ لمن يعجب من فعلِه المخالفِ؛ بالرجوع إلى الله تعالى، وتنزيهه، والله تعالى أعلم.
* * *
الحديث الثاني والثالث
عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسلَ من الجنابة، غسلَ يديه، وتوضَّأَ وُضُوءَهُ للصلاة، ثمَّ اغتسلَ، ثمَّ يُخَلِّلُ بيديهِ شعرَه، حتى إذا ظنَّ أنه قد أَرْوى بَشَرَتَهُ؛ أَفاضَ عليهِ الماءَ ثلاثَ مراتٍ، ثمَّ غسلَ سائرَ جسده.
وقالت: كنتُ أغتسلُ أنا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم من إناءِ واحد، نغترفُ منه جميعًا (1).
(1) رواه البخاري (269)، كتاب: الغسل، باب: تخليل الشعر، ومسلم (316)، كتاب: الحيض، باب: صفة غسل الجنابة، وهذا لفظ البخاري.
وعن ميمونةَ بنتِ الحارثِ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالت: وَضَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَضُوءَ الجَنابَةِ؛ فَأَكْفَأ بِيمينِهِ على يَسَاِرِهِ مَرَّتَينِ، أو ثَلاثًا، ثم غَسَلَ فَرْجَه، ثم ضَرَبَ يدَهُ بالأرْضِ، أو بالحائطِ مَرَّتَينِ، أو ثَلاثًا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ، وغَسَلَ وجهَه، وذراعَيه، ثمَّ أَفَاضَ على رأسِه الماءَ، ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ، ثُمَّ تَنَّحَى فَغَسَلَ رِجْلَيْه؛ فَأَتَيْتُه بِخِرقَةٍ، فلم يُرِدْهَا؛ فجَعلَ يَنْفُضُ الماءَ بيدَيهِ (1).
تقدم الكلام على عائشة رضي الله عنها.
وأمَّا ميمونة:
فهي أمُّ المؤمنين بنتُ الحارثِ بنِ حَزْنِ بنِ بجيرِ بنِ الهزمِ بنِ ذؤيبةَ بنِ عبدِ الله بنِ هلالِ بنِ عامرِ بْنِ صعصعةَ، الهلاليةُ، أختُ أمِّ الفضلِ امرأةِ العباسِ بنِ عبدِ المطلب، أمِّ عبد الله بن عباس.
تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ست من الهجرة، وكان اسمها برَّة، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونةَ.
رَويَ لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستةٌ وأربعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على سبعة، وانفرد البخاريُّ بحديثٍ، ومسلمٌ بخمسةٍ.
رَوى عنها عبدُ الله بنُ عباسٍ، وجماعةٌ من التابعين، وروى لها أصحاب السنن والمساند المشهورة.
وماتت سنة إحدى وخمسين في ولاية معاوية -على المشهور-، وقيل غيره.
وصَلَّى عليها ابنُ عباسٍ، ودخل قبرَها هو وغيره من أبناء أخواتها، وغيرهم، ودفنت بِسَرِف على أميال مختلَف فيها من مكة، أشهرها: عشرة أميال (2).
(1) رواه البخاري (270)، كتاب: الغسل، باب: من توضأ في الجنابة ثم غسل سائر جسده ولم يعد غسل مواضع الوضوء مرة أخرى، ومسلم (317)، كتاب: الحيض، باب: صفة غسل الجنابة، وهذا لفظ البخاري.
(2)
وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 132)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 407)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1914)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 262)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 619)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 312)، =
أمَّا ألفاظ حديث عائشة رضي الله عنها:
فقولها: "كانَ إذا اغتسلَ من الجنابةِ"؛ وصيغةُ (كان) تقتضي تكرار فعله؛ أي: وكان عادته؛ كقول ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس بالخير (1)، ويقال: كان فلان يَقْرِي الضيفَ.
وقد تستعمل؛ لإفادة مجرد الفعل ووقوعه دون الدلالة على التكرار.
والأول أكثر في الاستعمال، وعليه ينبغي حملُ قول عائشة رضي الله عنها.
وقولها: "إذا اغتسلَ منَ الجنابةِ"؛ يحتمل أن تقدر له الإرادة؛ فيكون من باب التعبير بالفعل عن ارادته؛ كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98].
ويحتمل أن تريد به ملابسة الفعل بالشروع فيه؛ فإنه يقال: فعل كذا؛ إذا شرع فيه، وإذا فرغ منه؛ فيكون حمله على الشروع صحيحًا، ويكون وقتًا للبداءة بغسل اليدين.
بخلاف قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]؛ فإنَّه لا يمكن وقت الشروع في القرآن أن يكون وقت الاستعاذة، فلا يكون حمله عليه صحيحًا؛ فيتعين حمله على الإرادة دون الشروع، والله أعلم.
وقولها: "منَ الجنابةِ"؛ في من -هَاهُنا- معنى: السببية، مجاز عن ابتداء الغاية من حيث إن السبب مصدر المسبب، ومنشِئًا له.
وتكون الجنابة -هاهنا- بمعنى: الأمر الحكمي الذي ينشأ عن التقاء الختانين، أو الإنزال.
= و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 238)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 126)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 480).
(1)
رواه البخاري (1803)، كتاب: الصوم، باب: أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان، ومسلم (2308)، كتاب: الفضائل، باب: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير من الريح المرسلة.
قولها: "غسلَ يديهِ"؛ هذا الغسلُ قبل إدخال اليدين في الإناء، وقد بين ذلك مصَّرحًا به من رواية سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
وقولها: "ثم توضَّأَ وضوءَهُ للصلاةِ"؛ ظاهره أنه وضوء كامل، ولمَّا كان وضوء الصلاة له صورة معنوية في الذهن؛ شبه هذا الوضوء به؛ ليطابقه به في الفعل، لكنَّه مقيد بابتداء غسل الجنابة، ولا يلزم منه كونه وضوءًا للصلاة حقيقة.
وقولها: "ثمَّ اغتسلَ"؛ يعني: على ما هو مشروع معلوم عندكم، ثم ذكرت بعض صفاته؛ فقالت:"ثم يخلِّلُ بيديه شعرَهُ"؛ فحقيقة التخليل: إدخال الأصابع فيما بين أجزاء الشعر، لكن هل يكون مع بلل الأصابع بغير نقل ماء، أو بنقل ماء؟
الراجح: أنَّه مع نقل الماء؛ للرواية الواردة في "صحيح مسلم": "ثم يأخذُ الماءَ، فيُدْخِلُ أصابِعَهُ في أُصولِ شعرِهِ"(1).
وفي "سنن النسائي" في حديث عائشة ما يبين أنه يخلل شعره بالماء، وبوب عليه: باب تخليل الجنب رأسه، فقالت فيه:"كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُشَرِّبُ رَأسَهُ، ثم يَحْثي عليهِ ثلاثًا"(2).
وهاتان الروايتان: ردٌّ على من قال: يخلل شعره بيديه مبلولة دون ماء، فلا يقال: شرَّبت بدون ماء.
وقولها: "حتى ظنَّ أنَّه أَرْوى بشرتَهُ" الظن يكون بمعنى: العلم، وبمعنى: رجحانِ أحد الطرفين على الآخر مع الاحتمال.
لكن قولها فيما بعد ذلك: "أفاضَ عليهِ الماءَ ثلاثًا"؛ يمنع القطع بأن يكون بمعنى العلم -هنا-؛ لأنَّه كان يكتفي بريِّ البشرة الذي لزم منه وصول الماء إلى جميع الشعر؛ فيخرج به عن العهد في الإتيان بالواجب.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه النسائي (249)، كتاب: الطهارة، باب: تخليل الجنب رأسه.
مع أنه يكتفى بالظن في هذا الباب، وما شابهه؛ وهو قائم في الحكم مقام القطع؛ لأنَّا لو تعبدنا بالقطع في ذلك؛ لأدى إلى الحرج والمشقة، ثم إلى ترك المأمور.
وأَرْوى: مأخوذ من الريِّ؛ الذي هو: ضدّ العطش، وهو مجاز في ابتلال الشعر بالماء.
يقول: رَوِيتُ من الماء -بالكسر- أَرْوَى -بالفتح- رَيًّا، ورِيًّا، ورَوِيَ، وأرويتُه أنا (1).
والبشرةُ: ظاهر الجلد؛ والمراد بإروائها: إيصالُ الماء إلى جميع الجلد، والغالبُ أنه لا يصل إليه إلَّا وقد ابتلت أصول الشعر، أو كله.
وقولها: "أفاضَ الماءَ ثلاثَ مراتٍ، ثم غسلَ سائرَ جسدِه"؛ إفاضة الماء على الشيء: إفراغُه عليه، يقال: فاض الماء: إذا جرى، وفاض الدمعُ: إذا سال.
سائر -هنا-؛ بمعنى: البقية؛ وهي الأصل في استعمالها، وقد تستعمل بمعنى: الجميع، لكن البقية هنا متعينة؛ لذكرها الرأس أولًا، وهو مأخوذ من السؤر.
وأمَّا أحكامه:
ففيه دليل على: أَنَّ أفعَاله صلى الله عليه وسلم حجةٌ؛ كأقواله.
وفيه دليل على: استحباب غسل اليدين قبل وضوء الاغتسال، ثم الوضوء بعده كاملًا، ثم الاغتسال بعده، يبدأ فيه برأسه، ويخلله بأصابعه العشر دون الخمس، ثم باقي جسده.
وفيه: التثليث في الاغتسال؛ كالوضوء.
وفيه: جواز اغتسال الرجل والمرأة جميعًا من إناء واحد، وأن اغترافهما من الإناء يكون على التعاقب؛ لغلبة صغر أوانيهم، وتعذر تساويهما في الاغتراف
(1) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (14/ 348)، (مادة: روي).
من غير تعاقب؛ فيقتضي جواز اغتسال الرجل بفضل طهور المرأة؛ لتأخر اغتراف الرجل عن امرأته في بعض الاغترافات، وإن كان لفظ الحديث محتملًا لشروعهما في الاغتسال دفعة واحدة، لكن ليس فيه عموم، والله أعلم.
وأمَّا حديث ميمونة رضي الله عنها:
فقولها: "وضعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَضُوءَ الجنابةِ"؛ أي: كما في الجنابة، وقد تقدم أن الوَضوء -بفتح الواو- اسم لمطلق الماء، أو للماء المضاف إلى الوضوء، لكن هذا اللفظ يدل على أنه: اسم لمطلق الماء؛ لإضافته إلى الجنابة.
قولها: "فَأَكْفَأَ"؛ أي: قَلَبَ، يقال: كَفَأْتُ الإناء، وَأَكْفَأْتُه -ثلاثيًّا، ورباعيًّا-: إذا قَلَبْتُه.
وحكى القاضي عياض رحمه الله في "المشارق"، عن بعضهم: إنكار أن يكونا بمعنى واحد؛ وإنَّما يقال في قلبت: كفأت -ثلاثي-، وأمَّا أكفأت -رباعيًّا-، فمعناه: أملت؛ وهو مذهب الكسائي (1).
وقولها: "ثُمَّ غسلَ فرجَه"؛ يعني به: القُبُلَ، وغسله؛ لإزالة ما علق به من الأذى.
وينبغي أَنْ يفعلَ ذلك في الابتداء قبل الوضوء؛ لئلا يغسله بعد ذلك؛ فيحتاج إلى إعادة غسل أعضاء الوضوء؛ لتحصيل سننه للغسل.
ثم المعنى في غسله: هل هو للأذى المحكوم عليه بالنجاسة؟ أم بمجرد الأذى الذي هو الاستقذار؟ ينبني ذلك على: أنَّ المني نجس، وفيه خلاف للعلماء:
مذهب الشَّافعي رحمه الله، وجماعة: طهارته، ومذهب غيرهم: نجاسته.
ثمَّ إذا قلنا بطهارته، هل الغالب سبق إنزاله بمذي، فيتنجس به، أم ليس الغالب ذلك؟
(1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 344)، و "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 276)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 141).
ثمَّ إذا لم يكن الغالب سبقه بمذي، فهل يتنجس برطوبة فرج المرأة؟ إن قلنا: إنَّها نجسة، نُجِّس؛ وإلَّا: فلا.
وحيث حكمنا بالنجاسة، وغسله لإزالة النجاسة، والغسل عن الجنابة: مرة واحدة؛ هل يكتفى بها، أم لا بُدَّ من مرتين؛ إحداهما: للنجاسة، والأخرى: للجنابة؟
فيه خلاف لأصحاب الشَّافعي - رحمه الله تعالى -، لكن الحديث مطلق لا يدل إلَّا على الغسل من غير تكرار؛ فيؤخذ منه الاكتفاء بغسلةٍ واحدةٍ من حيث إنَّ الأصل عدمُ غسله ثانيًا، والله أعلم.
وقولها: "ثمَّ ضربَ يَدهُ بالأرض، أو الحائطِ مرتين، أو ثلاثًا"؛ إنَّما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم؛ لإزالة ما لعلَّه عَلِقَ باليد من رائحة؛ زيادةً في التنظيف.
وقد اختلف أصحابُ الشَّافعي في أنَّ النجاسة إذا زالت عينُها، وبقيت رائحتُها، هل تضرُّ؟ على وجهين، أصحهما: لا تضر، وهو قول كثير من الفقهاء.
فإذا استقصى في إزالة العين، فقد يؤخذ من هذا الحديث العفو عنها؛ لأنَّ ضربه صلى الله عليه وسلم يده بالأرض، أو بالحائط، لا بدَّ أَنْ يكونَ لفائدة:
لا جائز أن يكون: لإزالة العين؛ لحصولها قبله، وإلَّا لتنجست الأرض، أو الحائط؛ بملاقاتها.
ولا يكون: لإزالة الطعم؛ لأنَّه دليل على بقاء العين.
ولا يكون: لبقاء اللون؛ لبعده بالإنزال، أو المجامعة؛ لكون ذلك لا يقتضي لونًا يلصق باليد، وإن وجد؛ فنادر جدًّا.
فتعين أن يكون: لإزالة الرائحة، وحكمها: ما تقدم.
فتعين أن يكون فعله صلى الله عليه وسلم استظهارًا في زيادة التنظيف، وإزالة احتمال وجود رائحة، مع الاكتفاء بالظن في زوالها.
وقولها: "ثمَّ تمضمضَ، واستنشقَ، وغسلَ وجهَهُ، وذراعيهِ"؛ ففيه دليل على: شرعية هذه الأفعال في الغسل، لكن اختلف الفقهاء في المضمضة، والاستنشاق فيه:
فأوجبها أبو حنيفة، ونفى الوجوبَ: مالك، والشَّافعي، وغيرهما، وقالوا: هما مستحبَّان فيه، وفي الوضوء، وليس في الحديث ما يدل على الوجوب [إلا أن يقال: إن مطلق أفعاله صلى الله عليه وسلم تفيد الوجوب] (1).
غير أنَّ المختار عند الأصوليين: أنَّ الفعل لا يدل على الوجوب إلَّا إذا كان بيانًا لمجمل يعلق به الوجوب، وذلك في الطهارة ليس من قبيل المجملات.
وقولها: "ثمَّ أفاضَ على رأسِه الماءَ"؛ قد يحتج بظاهره من يقول من أصحاب مالك: بتأخير مسح الرأس مع الرجلين عن الغسل، وفيه خلاف لأصحاب مالك، ويحتمل أن إفاضته الماء على رأسه؛ لكون فيه معنى المسح، وزيادة.
وقد اختلف أصحاب الشَّافعي في أنَّ غسل الرأس يقوم مقامه مسحه؟ الصحيح من أوجه ثلاثة: التفرقة فيما بينهما؛ فيجري في الرأس، ولا يجري في الخف، والله أعلم.
قولها: "ثمَّ تنحَّى، فغسلَ رِجْليه"؛ يقتضي: تأخير غسل الرجلين إلى ما بعد الغسل، وهو أحد القولين للشَّافعي، واختيار أبي حنيفة.
ومذهب عائشة -قبله- يقتضي: إكمال الوضوء قبل الغسل، وهو الصحيح من مذهب الشَّافعي، وغيره من العلماء.
وفرَّق بعضهم بين أن يكونَ موضعُ الغسل وسخًا، أو يكون الماءُ قليلًا، فيؤخر غسلهما، وبين أن لا يكونا كذلك؛ فيكمل وضوءه؛ جمعًا بين الأحاديث، وهذا في كتب المالكية، وغيرهم من العلماء.
وقولها: "فأتيتُه بخرقةٍ؛ فلم يُرِدْها"؛ الخرقة المذكورة: جاءت مسماةً في
(1) ما بين معكوفين ساقط من "ش".
هذا الحديث: بالمنديل (1)، ورَدُّه إيِّاها: إمَّا لأمرٍ يتعلق بها من وسخ، أو صبغٍ من زعفران، ونحوه.
[وإما أن يكون لعدم حاجته إليها لكي لا يتنشف](2).
ولهذا "جعل ينفض الماء بيديه".
وقد اختلف أصحاب الشَّافعي في التنشيف، ونفضِ الأعضاء من الوضوء والغسل على أوجه:
أظهرها: أن المستحب تركُهما، ولا يقال: إنهما مكروهان.
والثاني: أنهما مكروهان.
والثالث: أنهما مباحان، يستوي فعلهما وتركهما، وهو المختار عند جماعة من المحققين.
والرابع: يستحب التنشيف؛ لما فيه من الاحتراز عن الأوساخ.
والخامس: يكره التنشيف في الصيف دون الشتاء.
وأمَّا السلف من الصحابة، وغيرهم من العلماء:
فقال أنس بن مالك، والثوري: لا بأس به فيهما.
وقال ابن عمرو بن أبي ليلى: مكروه فيهما.
وقال ابن عباس: يكره في الوضوء دون الغسل.
وقد روى التنشيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، قال التِّرمذيُّ: ولا يصح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم (3).
وقد ثبت النفض في حديث ميمونة هذا؛ فاقتضى الإباحة، ولم نعلم أحدًا من العلماء قال باستحبابه، فإذا كان النفضُ مباحًا، كان التنشيفُ مثلَه، وأولى؛ لاشتراكهما في إزالة الماء.
(1) وقد تقدم تخريجها عند مسلم برقم (317) في "صحيحه".
(2)
ما بين معكوفين ساقط من "ش".
(3)
انظر: "سنن الترمذي"(1/ 74).