الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المرور، فيمر، فيأثمان، أما المصلي؛ فلتعرضه، وأمَّا المار؛ فلمروره مع إمكان ألا يفعل.
الصورة الرابعة: ألَّا يتعرض المصلي، ولا يكون للمار مندوحة، فلا يأثم واحد منهما.
وفي الحديث: النَّهي الأكيدُ والزجرُ الشديدُ عن المرور بين يدي المصلي إذا لم يكن المصلي متعديًا؛ لما فيه من شغل قلبه عما هو بصدده، والدخول بينه وبين ربه.
* * *
الحديث الثَّاني
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى شَيءٍ يَسترهُ مِنَ النَّاسِ، فَأرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بينَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ، فَإن أبى، فَلْيقاتِلْهُ؛ فَإنَّما هُوَ شَيْطَان"(1).
تقدم الكلام على أبي سعيد ونسبه فيما تقدم.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا صَلَّى أحدكم إلى شيء يستره من النَّاس": فهو عام في كل ما يستره من جماد وحيوان، إلَّا ما ثبت المنع من استقباله؛ من آدمي أو ما أشبه الصنمَ المصمودَ إليه، وما في معنى ذلك، وقد كره ذلك بعض الفقهاء، قال: لأنَّه يصير في صورة المصلَّى إليه، وكرهه مالك في المرأة، قال بعض العلماء: يستحب أن يجعل المصلي السترةَ عن يمينه أو شماله ولا يصمدَ لها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أرادَ أن يجتازَ بينَ يديه فَلْيدفعه": هذا الأمر الظاهرُ فيه الوجوب، لكن اتفق العلماء على أنه أمرُ ندب متأكد.
قال شيخنا أبو زكريا النواوي رحمه الله: ولا أعلم أحدًا من العلماء
(1) رواه البُخاريّ (487)، كتاب: سترة المصلي، باب: يرد المصلي من مر بين يديه، ومسلم (505)، كتاب: الصَّلاة، باب: منع المار بين يدي المصلي، وهذا لفظ البُخاريّ.
أوجبه، بل صرح أصحاب الشافعي وغيرهم بأنه مندوب غير واجب، وهذا لمن لم يفرِّطْ في ترك الصلاة إلى سترة، أما إذا فَرَّطَ بترك الصلاة إليها، أو تباعد عنها على قدر المشروع، فمر مارٌّ وراء موضع السجود، لم يكره، وإن مر موضع السجود كُرِه، ولكن ليس للمصلي أن يقاتله، وعلة ذلك تقصيره [لأنه] لم يقرب من السترة.
نقل القاضي عياض اتفاق العلماء على ذلك، قال: وكذلك اتفقوا على أنه لا يجوز للمصلي المشيُ إليه ليدفعه، وإنما يدفعه ويرده من موقفه، إما بإشارة، أو بشيء؛ لأن مفسدة المشي في صلاته أعظمُ من مرور المار من بعيد بين يديه، وإنما أُبيح له قدر ما تناله يده من موقفه، ولهذا أُمر المصلي بالقرب من سترة، وإنما يرده إذا كان بعيدًا بالإشارة أو التسبيح، قال: وكذلك اتفقوا على أنه إذا مر، لا يرده؛ لئلا يصير مرورًا ثانيا، إلا شيئًا روي عن بعض السلف أنه يردّه، وتأوله بعضهم، هذا كلام القاضي عياض (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنْ أبى، فَلْيقاتله": ليس المراد بالمقاتلة المقاتلةَ بالسلاح، ولا بما يؤدي إلى الهلاك، بالإجماع، وإنما المراد: قوة المنع له على المرور؛ بحيث لا ينتهي إلى الأعمال الشانئة للصلاة.
قال أصحاب الشافعي: يرده إذا أراد المرور بين يديه بأسهل الوجوه، فإن أبى، فبأشد منه، وإن أدى إلى قتله، فلا شيء عليه؛ كالصائل عليه لأخذ نفسه أو ماله، وقد أباح له الشرع مقاتلته، وهي مباحة، فلا ضمان فيها، فلو قاتله بما يجوز قتاله به، فهلك، فلا قود عليه باتفاق العلماء، وهل يجب دية، أم يكون هدرًا؟ فيه مذهبان للعلماء، وهما قولان في مذهب مالك.
(1) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (4/ 223)، قلت: وهذا من القليل النادر أن يعزو المؤلف رحمه الله وهو تلميذ الإمام النووي إلى شيخه؛ إذ إن معظم مادة هذا الكتاب قد أخدت عن كتب شيخه النووي رحمه الله من أمثال: "شرح مسلم"، و"تهذيب الأسماء واللغات"، و"تحرير ألفاظ التنبيه"، و"المجموع"، و"رياض الصالحين"، وغيرها، مما يعرفه الحاذق البصير في كتب الإمام النووي رحمه الله، والمطالع في هذا الكتاب، والله أعلم.