الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الصلاة
باب المواقيت
الحديث الأول
عن أبي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، واسمُه: سعدُ بنُ إِياسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي صاحبُ هذهِ الدَّارِ -وأَشَارَ بيدِهِ إلى دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ-، قَالَ: سَأَلْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إلى اللهِ تعالى؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا"، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "بِرُّ الوَالِدَيْنِ"، قُلْتُ: ثُمَّ أَي؟ قَالَ: "الجِهَادُ في سَبِيلِ الله"، حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ، لَزَادَني (1).
أما أبو عمرٍو الشَّيباني: فقد ذكر اسمه وكنيته.
وأما الشَّيبانيُّ: فهو بالشين المعجمة، نسبةً إلى شيبانَ بنِ ثعلبةَ بن عكابةَ.
أدرك سعدٌ زمانَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولم يَره، وقال: بُعِثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأنا أرعى إبلًا لأهلي بكاظم (2)، فهو تابعيٌّ مخضرمٌ.
وقد عدَّ مسلم رحمه الله التابعين المخضرمين عشرين نفسًا، وهم أكثر من ذلك، وممن لم يذكره منهم: أبو مسلم الخولاني، والأحنف بن قيس.
(1) رواه البخاري (504)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها، ومسلم (85)، كتاب: الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال.
(2)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(6/ 104)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(4/ 47)، والطبراني في "المعجم الكبير"(5532).
سمعَ عليَّ بنَ أبي طالب، وابنَ مسعودٍ، وحذيفةَ، وأبا مسعودٍ البدريَّ، وغيرَهم من الصحابة.
روى عنه: جماعة من التابعين، وهو مجمَع على ثقته، وروى له: البخاري، ومسلم (1).
وتشتبه نسبته بالسيباني -بالسين المهملة-، وهو أبو عمرو زرعة والد يحيى أبي زرعة، عدادُه في الشاميين، تابعي يروي عن: عقبةَ بن عامر، وابنُه يحيى متفق على توثيقه.
قال محمد بن حبيب: كلُّ شيءٍ من العرب: شيبان، إلا في حِمْيَر؛ فإن فيها: سيبان؛ يعني: -بالسين المهملة- بنَ الغوثِ بنِ سعدِ بنِ عوفِ بنِ مالكِ ابنِ زيدِ بنِ سهلِ بنِ عمرِو بنِ قيسِ بنِ معاويةَ بنِ جشمَ بنِ عبدِ شمسِ بنِ الغوثِ بنِ قطنِ بنِ عرنب بنِ زهيرِ بنِ أيمن بنِ الهميسعِ بنِ حِمْيَرٍ (2)، والله أعلم.
وأما عبدُ الله بنُ مسعود:
فكنيته: أبو عبد الرحمن، واسمُ جدِّه أبي أَبيه: غافل -بالغين المعجمة والفاء- بنُ حبيبِ بنِ شمخِ بنِ مخزومٍ، ويقال: شمخُ بنُ فارس بنِ مخزومِ بنِ صاهلةَ بنِ كاهلِ بنِ الحارث بنِ تميمِ بنِ سعدِ بنِ هذيلِ بنِ مُدْركةَ بنِ إلياسَ ابنِ مضرَ، الهذليُّ، حليفُ بني زُهْرَة.
كان أبوه مسعودُ بنُ غافلٍ قد -حالفَ في الجاهلية- عَبْدَ الحارثِ بنَ زهرةَ.
أمُّه: أمُّ عَبْدٍ بنتُ عَبْد ودِّ بنِ سواءَ بنِ هُذيل -أيضًا-.
أسلم عبدُ الله بمكة قديمًا، وهاجر إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة، وشهد
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (1/ 68)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 47)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 273)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 583)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 421)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 258)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 173)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (3/ 406)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" له أيضًا (3/ 254).
(2)
انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (64/ 164).
بدرًا والمشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب نَعْل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يُلبسه إياها إذا قام، فإذا جلسَ، أدخلَها في ذراعه، وكان كثيرَ الولوج على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آذَنُكَ عَلَيَّ أن تَرْفَعَ الحِجَابَ، وتَسْمَعَ سوادي، حَتى أنْهاكَ"(1)، والسواد -بكسر السين-: السرار.
روى الطبراني بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَادِسَ ستةٍ، ما على الأرضِ مسلمٌ غيرُنا (2).
وشهد له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالجنة مع العشرة في حديث حسن، رواه أبو عمرَ بنُ عبد البر، في "استيعابه" بإسناده إلى سعيد بن زيد أحد العشرة، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حِراء، فذكرَ العشرةَ، وعبدَ الله بنَ مسعود (3)، وكان ممن صلى للقبلتين.
وقال صلى الله عليه وسلم: "رَضِيتُ لأُمَّتي ما رَضِيَ لها ابنُ أُمِّ عَبْدٍ، وسَخِطْتُ لأُمَّتي ما سَخِطَ لها ابنُ أمِّ عَبْدٍ"(4)، وقال صلى الله عليه وسلم:"اهْدُوا هَدْيَ عَمَّارٍ، وتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابنِ أُمِّ عبدٍ"(5)، وقال صلى الله عليه وسلم:"رِجْلُ -أَوْ رِجْلَا- عبدِ اللهِ في الميزانِ أَثقَلُ مِنْ أُحُدٍ"(6).
(1) رواه مسلم (2169)، كتاب: السلام، باب: جواز جعل الأذن رفع حجاب أو نحوه من العلامات.
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(8406)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(33880)، وابن حبان في "صحيحه"(7062)، والحاكم في "المستدرك"(5368)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 126)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(33/ 56).
(3)
رواه ابن عبد البر في "الاستيعاب"(3/ 988)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(33/ 93).
(4)
رواه البزار في "مسنده"(1986)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(6879)، والحاكم في "المستدرك"(5387)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(33/ 120)، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(5)
رواه الترمذي (3805)، كتاب: المناقب، باب: مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال: حسن، والحاكم في "المستدرك"(4456)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
وفي الباب: عن حذيفة رضي الله عنه.
(6)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 420)، والبزار في "مسنده"(1827)، والطبراني في=
وهو ممن جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد الأربعة الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن منهم: ابنُ أُمِّ عبد، ومُعاذٌ، وأُبَيٌّ، وسالمٌ مولى أبي حُذيفةَ، وقال صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ القُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ"(1).
وكان رضي الله عنه رجلًا قصيرًا نحيفًا يكاد طُوالُ الرجالِ يوازيه جلوسًا وهو قائم، وكان شعره يبلغُ شحمةَ أذنيه، وكان لا يغير شيبه، وقَتَل أبا جهلٍ يومَ بدر بسيفه، فنفَّله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إياه.
وقال حذيفةُ وهو يحلف بالله: ما أعلمُ أحدًا أشبَه دلًّا وهَدْيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، من حينِ يَخْرُجُ من بيته إلى أَنْ يرجعَ إليه، من عبدِ الله بنِ مسعود، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أنَّه من أقربهم وسيلةً إلى الله يوم القيامة (2).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إني لأعلمُهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم، وما في كتاب الله سورةٌ، ولا آية، إلا وأنا أعلمُ فيما نزلت، ومتى نزلت (3)، ولم ينكر هذا القولَ عليه أحد.
رُوي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثمان مئة حديثٍ وثمانية وأربعون حديثًا، اتفقا منه على: أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحدٍ وعشرين، ومسلمٌ بخمسةٍ وثلاثين.
= "المعجم الكبير"(8452)، وابن حبان في "صحيحه"(7069)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 127)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(1/ 148)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(33/ 110)، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(1)
رواه ابن ماجه (138)، في المقدمة، باب: فضل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 7)، وابن حبان في "صحيحه"(7066)، وأبو يعلى في "مسنده"(5058)، وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (5746)، كتاب: الأدب، باب: في الهدي الصالح، والطبراني في "المعجم الكبير"(8488)، وهذا لفظ الطبراني.
(3)
رواه البخاري (4714) و (4716)، كتاب: فضائل القرآن، باب: القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
روى عنه جماعة من الصحابة، منهم: أنس بن مالك، وأبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو موسى الأشعري، وعمرُو بنُ حُريث، وغيرُهم، ومن التابعين خلقٌ كثير، وروى له: أصحابُ السنن والمساند.
ولما مات، قال أبو الدرداء: ما ترك بعده مثله.
مات سنة اثنتين، وقيل: ثلاث وثلاثين؛ ابنَ بضعٍ وستين سنةً، والأكثرون على: أنه مات بالمدينة، ودفن بالبقيع، وصلَّى عليه عثمان، وقيل: عمار، وقيل: الزبير؛ وكان آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين الزبير، وكان أوصى إليه، وأوصى أن يدفن بجنب عثمان بن مظعون، وقيل: مات بالكوفة، والله أعلم (1).
وأما قوله: "حَدَّثني صاحبُ هذهِ الدارِ -وأشارَ إلى دارِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ-":
لا شك أنَّ الإشارةَ إلى الشيء قد تكون أبلغَ في التفهيم من التصريح باسمه، وذكره؛ لما فيه من نفي أنواع المجاز، وحينئذ يجوز للراوي التحديثُ من غير ذكر اسم المرويِّ عنه إذا كان السامعُ عارفًا به بإشارة، أو علمٍ سابق به يقع التمييز به من غير اشتباه.
وقوله: "سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ العملِ أحبُّ إلى اللهِ؟ ":
اعلم أن العبد مأمور بتنزيلِ الأشياء منازلَهَا، فيقدم الأفضلَ على الفاضل، فيعمل عليه، ويسأل عنه طلبًا للدرجة العليا، وتحريضًا على تأكيد القصد إليه، والمحافظة؛ فإن المخالفة في الشرع تقع بارتكاب المحرم، وترك الأفضل.
ولا شكَّ أَنَّ العمل يطلق على: عمل القلب، والجوارح؛ والمراد في هذا
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 150)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 208)، و "حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 124)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 987)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 147)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (33/ 54)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 381)، و"تهذيب الكمال" للمزي (16/ 121)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 461)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 233)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا =
الحديث: عمل البدن والجوارح؛ حيث وقع الجواب: بالصلاة على وقتها، وتكون النيةُ مطلوبةً فيه باللازم، لا بمراد الحديث، وفي أعمال القلوب: فاضلٌ، وأفضلُ؛ كالإيمان، وهو ثابت في الأحاديث الصحيحة، فثبت أن الأعمال في الشرع يُرادُ بها عمل الجوارح والقلوب، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الصَّلاةُ على وَقْتِها":
ليس فيه ما يقتضي الصلاة أول الوقت، أو آخره، وكأنَّ المقصودَ به: الاحترازُ عن إخراج الصلاة عن وقتها المشروع؛ لئلا تصيرَ قضاءً، لكِنَّه قد ثَبَتَ في بعض روايات هذا الحديث:"الصلاةُ لوقتها".
وروى أبو داود في "سننه" من حديث أُمِّ فروةَ أختِ أبي بكرٍ الصديقِ لأبيه رضي الله عنهما قالت: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: "الصلاةُ في أَوَّلِ وَقْتِها" ولم يتكلمْ عليه بشيء؛ فهو حسن عنده.
وأخرجه الترمذي، وقال: حديث أم فروة لا يُروى إِلَّا من حديث عبد الله بن عمر العمريِّ، وليس بالقوي عند أهل الحديث، واضطربوا في هذا الحديث.
ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" من رواية ابن مسعود، قال: سَأَلْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، بلفظِ حديثِ أم فروة.
ورواه الحاكم في "مستدركه" كذلك من طريقين، ثم قال: فقد تقوى لفظه: "الصلاةُ في أَوَّلِ وقتِها" باتفاق الثبتين: بندارِ بنِ بشار، والحسنِ بن مكرم على روايتهما عن عثمان بن عمرو، وهو صحيح، على شرط الشيخين، ولم يخْرِجَاه، وله شواهدُ في هذا الباب (1) -.
فحينئذ؛ يُحمل حديث الكتاب، ويستدلُّ به على: تقدم الصلاة في أول
(1) رواه أبو داود (426)، كتاب: الصلاة، باب: في المحافظة على وقت الصلاة، والترمذي (170)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الوقت الأول من الفضل، والحاكم في "المستدرك"(680)، عن أم فروة رضي الله عنها.
ورواه ابن خزيمة في "صحيحه"(327)، والحاكم في "المستدرك"(675)، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
الوقت من لفظه ببيان رواية أبي داود، والترمذي، وابن خزيمة، والحاكم، والله أعلم.
واعلمْ أَنَّ الأحاديثَ قد اختلفت في أفضل الأعمال، وتقديم بعضها على بعض، والذي قيل في الجمع بينها: أَنَّها أجوبةٌ مخصوصةٌ، لسائلٍ مخصوصٍ بالنسبة إلى حاله، أو وقته، أو بالنسبة إلى عموم ذلك الحال والوقت، أو بالنسبة إلى المخاطبين بذلك، أو من هو في مثل حالهم.
ولو خُوطِبَ بذلك الشجاعُ الباسلُ المتأهلُ للنفعِ الأكبرِ في القتال لقيل له: الجهاد.
ولو خُوطِبَ صاحبُ المالِ ذو الثروة، لقيل له: الصدقة.
وهذا في حق جميع أحوال الناس، قد يكون الأفضلُ في حقِّ قوم، أو شخص، مخالفًا للأفضل في حق آخرين؛ بحسب المصلحة اللائقة بالوقت، أو الحال، أو الشخص.
وقد تقدم -في هذا الحديث- بِرُّ الوالدبن على الجهاد، وهو دليل على تعظيم بِرِّهما، ولا شكَّ أنَّ أذاهما بغير موجب محرمٌ، وممنوع منه، وأما ما يجب من البر، ففي ضبطه إشكال، وكلام طويل.
والجهادُ ينقسم إلى: فرضِ عينٍ، وفرضِ كفايةٍ؛ فالعينُ: مقدَّمٌ على حق الوالدين، والكفايةُ: لا يجوز إلا بإذنهما إذا تعطلت مصلحتُهما الواجبة به، وكل حق متعين وكفاية كذلك حكمه بالنسبة إليهما، والله أعلم.
وبِرُّهما: الإحسانُ إليهما، وفعلُ الجميل معهما، وفعلُ ما يسرُّهما، ويدخل فيه: الإحسانُ إلى صديقِهما؛ كما ثبت في الصحيح: "إنَّ مِنْ أَبَرَّ البرَّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ"(1).
قال أهلُ اللغة: يُقالُ: بَرِرْتُ والدي، أَبَرُّهُ -بكسر الراء في الماضي،
(1) رواه مسلم (2552)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: فضل صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وبضمها مع فتح الباء في المضارع- برًّا، وأنا بَرٌّ به -بفتح الباء-، وبَارٌّ، وجمع البَر: الأبْرَار، وجمع البارَّ: البَرَرَةُ (1).
وقد ذكر في حديث أبي هريرة: الأفضل الإيمان، ثم الجهاد، ثم الحج (2).
وفي حديث أبي ذر: الإيمان، والجهاد (3).
وفي حديث ابن مسعود هذا: الصلاة، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد؛ كما ترى.
وفي حديث عبد الله بن عمرو: أيٌّ الإسلامِ خيرٌ؟ قال: "تُطعمُ الطعامَ، وتقرأُ السلامَ على من عَرَفْتَ، ومَنْ لم تعرفْ"(4).
وفي حديث أبي موسى، وعبد الله بن عمرو: أيُّ المسلمين خيرٌ؟ قال: "مَنْ سَلِمَ المسلمون مِنْ لِسَانِهِ، ويَدِهِ"(5).
وصح في حديث عثمان رضي الله عنه: "خَيرُكم مَنْ تَعلَّمَ القُرْآنَ، وعلَّمَه"(6).
وأمثالُ هذا في الصحيح كثيرةٌ، وقد ذكر الإمام الجليل أبو عبد الله الحليمي الشَّافعي، عن شيخه الإمام العلامة المتقن أبي بكر القفال الشَّاشي الكبير -وهو
(1) انظر: "شرح صحيح مسلم"(2/ 76)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 53).
(2)
رواه البخاري (26)، كتاب: الإيمان، باب: من قال: إن الإيمان هو العمل، ومسلم (83)، كتاب: الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال.
(3)
رواه البخاري (2382)، كتاب: العتق، باب: أي الرقاب أفضل؟ ومسلم (84)، كتاب: الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال.
(4)
رواه البخاري (12)، كتاب: الإيمان، باب: إطعام الطعام من الإسلام، ومسلم (39)، كتاب: الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل.
(5)
رواه البخاري (11)، كتاب: الإيمان، باب: أي الإسلام أفضل؟ ومسلم (42)، كتاب: الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، عن أبي موسى رضي الله عنه. ورواه مسلم (40)، كتاب: الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(6)
رواه البخاري (4739)، كتاب: فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلّمه.
غير القفال الصغير المروزي المتكرر في كتب أصحاب الشَّافعي المتأخرين من الخراسانيين-، قال الحليمي: وكان القفال أعلمَ من لقيته من علماء عصره، إنه جمع بين هذه الأحاديث بوجهين:
أحدهما: نحو ما ذكرناه أولًا، قال: فإنه قد يقال: خيرُ الأشياءِ كذا، ولا يراد أنه خير جميع الأشياء من جميع الوجوه، وفي جميع الأحوال، والأشخاص، بل في حال دون حال، ونحو ذلك.
واستشهد في ذلك بأخبار منها: عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"حِجَّةٌ لِمَنْ لم يحجَّ أفضلُ من أربعينَ غزوةً، وغزوةٌ لِمَنْ حَجَّ أفضلُ من أربعين حِجَّةً"(1).
الوجه الثاني: أنه يجوز أن يكونَ المرادُ: من أفضل الأعمال كذا، أو: ومن خير هذا، أو: من خيركم من فعل كذا، فحذفت من، وهي مرادة؛ كما يقال: فلان أعقل الناس، وأفضلهم؛ ويراد أنه: من أعقلهم، وأفضلهم.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ"(2)، ومعلوم أنه لا يصير بذلك خيرَ الناس مطلقًا، ومن ذلك قولهم: أَزْهَدُ النَّاس في عالم جيرانُه، وقد يوجد في غيرهم من هو أزهدُ منهم فيه، هذا كلام القفال.
فعلى هذا الوجه: يكون الإيمانُ أفضلَها مطلقًا، والباقياتُ متساويات في كونها من أفضل الأعمال، أو الأحوال، ثم يعرف فضل بعضها على بعض بدلائل عليها، ويختلف باختلاف الأحوال، والأشخاص.
ولا شكَّ أنه جاء في بعض هذه الروايات: أفضلُها كذا، ثم كذا؛ بحرف "ثم"، وهي موضوعة للترتيب، وهي هنا: للترتيب في الذكر؛ كما قال الله
(1) رواه البزار في "مسنده"(5/ 279)(مجمع الزوائد للهيثمي).
(2)
رواه الترمذي (3895)، كتاب: المناقب، باب: فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: حسن غريب صحيح، وابن حبان في "صحيحه"(4177)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 468)، عن عائشة رضي الله عنها. وفي الباب: عن أبي هريرة، وابن عباس، ومعاوية، وغيرهم - رضي الله عهم-.
تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد:12 - 16].
ومعلوم أنه ليس المراد الترتيب في الفعل؛ وكما قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151]، إلى قوله:{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام: 154]، وكما قال:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11]، ونظائر ذلك كثيرة، ومما أنشدوا فيه:
قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ
…
ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدَّهُ
وحكى القاضي عياض رحمه الله في الجمع بينهما وجهين:
أحدهما: نحو الوجه الأول، قال: قيل: اختلف الجواب لاختلاف الأحوال، فأعلم كل قوم بما بهم حاجة إليه، أو بما لم يكملوه من دعائم الإسلام، ولا بلغهم علمه.
والثاني: أنه قدم الجهاد على الحج في بعضها؛ لأنه كان أول الإسلام، ومحاربة أعدائه، والجد في إظهاره، وذكر بعضهم: أن "ثم" لا تقتضي ترتيبًا؛ وهو شاذ عند أهل العربية، والأصول، والمراد بالجهاد: الجهاد المتعين وقت الزحف؛ أي: النفير العام؛ فإنه متقدم على الحج؛ لما فيه من المصلحة العامة للمسلمين، والله أعلم (1).
واعلم: أَنَّ العباداتِ على ضربين:
منها: ما هو مقصود بنفسه.
ومنها: ما هو وسيلة إلى غيره، وفضيلة الوسيلة بحسب مقصودها المتوصَّل إليه؛ فحيث يعظمُ [المقصود، تعظم] الوسيلة، فالجهاد وسيلة إلى إعلان الإيمان ونشره، وإخماد الكفر ودَحْضه؛ فعظمُ فضلهِ بفضل مقصوده؛ وهو الإيمان.
(1) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (2/ 78).