الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم
-
الحديث الأول
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ، سَكَتَ هُنَيْهَةً، قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ، والقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وبَيْنَ خَطَايَايَ؛ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرقِ والمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ؛ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بالثَّلْجِ، والمَاءِ، والبَرَدِ" (1).
لا شك أن (كان) تشعر بكثرة الفعل، أو المداومة عليه، وقد تكون لمجرد وقوعه.
وقوله: "سكت هُنَيْهَةً"؛ أي: قليلًا من الزمان، وأصلُه: هَنَة، ثم صُغِّرَ هُنَيَّة، ثم أُبدلت الياء المشددة هاء.
وقوله: "أرأيتَ سكوتَكَ؟ "؛ المراد به: سكوتٌ عن الجهر؛ لا سكوتٌ مطلَقٌ عن القول، وسكوتٌ عن قراءة القرآن؛ لا عن الذِّكْرِ، والدعاء، والله أعلم؛ بدليل قولهِ بعدَه: ما تقول؟ فإنه مشعرٌ بأنه فهمَ أن في سكوته صلى الله عليه وسلم قولًا.
ووقع السؤال بقوله: "ما تقولُ؟ "، دون قوله: هل تقولُ؟ مع أن السؤال بهل
(1) رواه البخاري (711)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (598)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة.
مقدَّم على السؤال بما ها هنا؛ لكنه استدل على أصل القول بحركة الفم؛ كما استدل الصحابة رضي الله عنهم على قراءته سرًّا، باضطراب لحيته.
وقوله: "اللهمَّ باعِدْ بيني وبينَ خَطايايَ"، إلى آخره؛ المراد: محوُ الخطايا، وتركُ المؤاخذة بها؛ وفيه مجازان:
أحدهما: استعمال المباعدة في ترك المؤاخذة، والمباعدة إنما تكون في الزمان، أو المكان.
الثاني: استعمالُها في الإزالة الكلية، مع أن أصلها لا يقتضي الزوال، وليس المراد: البقاء مع البعد، ولا ما يطابقه من المجاز؛ بل المراد: الإزالة الكلية؛ وكذلك التشبيه بالمباعدة بين المشرق والمغرب؛ فإن المراد منه: ترك المؤاخذة.
وقوله: "من الدَّنَس"؛ وهو -أيضًا- مجاز عن زوال الذنوب، وأثرها.
ولا شك أن الدنس في الثوب؛ بلونٍ غيرِ البياض، وطعمٍ غيرِ طَيِّبٍ، ورائحةٍ كريهة، وكلُّه دنسٌ، وجاء في رواية في "صحيح مسلم":"من الدَّرَن"(1)، وفي رواية:"من الوَسَخ"(2)؛ ولما كان ذلك في الثوب الأبيض أظهرَ من غيره من الألوان؛ وقع التشبيهُ به.
وقوله: "اغسِلْني"، إلى آخره؛ فهو مجاز عن المؤاخذة؛ كما ذكرنا، ويحتمل بعده أمران:
أحدهما: التعبير بالغسل؛ عن الغاية بالمحو بمجموع أنواع المياه، في مشاهدة نزولها إلى الأرض؛ من الماء، والثلج، والبرد؛ فيكون المراد منه: التواب الذي، تكرر تنقيته للذنوب، بثلاثة أشياء منقية؛ يكون في غاية النقاء.
الثاني: يكون كل واحد من الثلاثة مجازًا عن صفة يقع بها التكفير، والمحو؛
(1) رواه مسلم (476)(1/ 347)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (476)(1/ 346)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع.
وهذا كقوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة: 286]، وكل واحد من العفو، والمغفرة، والرحمة؛ صفة لها أثر في محو الذنب.
ففي الأمر الأول: نظر إلى كل واحد من أفراد الألفاظ، وفي الثاني: نظر إلى كل فرد من أفراد المعاني؛ وكلاهما دالان على: الغاية في محو الذنب، والتطهير منه.
وفي هذا الحديث مسائل:
منها: استحباب هذا الذكر؛ بين تكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، وغيره؛ وهو مستحب عند الشافعي، وجمهور العلماء، والحكمة فيه: تمرين النفس على انشراحها لأفضل الأذكار، وتدبرها؛ وهي: الفاتحة، وما شرع معها من القراءة -والفاتحة: واجبة-.
وأوجبَ جماعةٌ من السلف: قراءةَ شيء معها؛ بأحاديثَ حسنة، رواها أبو داود، وغيره، وجمهورُ العلماء: على استحبابه.
ومنها: تفدية النبي صلى الله عليه وسلم بالآباء والأمهات؛ وهو مجمَع عليه، وهل يجوز تفدية غيرهِ من المؤمنين؟ على ثلاثة مذاهب:
الصحيح: جوازه بلا كراهة.
ومنهم من منعها؛ وجعلها خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وله أن يفدِّيَ من شاء، بلا خلاف.
ومنهم من فَصَّل؛ فقال: يجوز تفديةُ العلماء الصالحين الأخيار، ولا يجوز تفديةُ غيرهم؛ لأنهم هم الورَّاثُ المنتفَع بهم، بخلاف غيرهم.
ومنها: استعمال المجاز، وتسمية الكلام السر سكوتًا.
ومنها: السؤال عن العلم للفضلاء دون غيرهم.
ومنها: تخصيص الإمام نفسَه بالدعاء، دونَ المأمومين؛ فإن الظاهر منه صلى الله عليه وسلم: أنه كان إمامًا؛ فيحتمل النهي الوارد في تخصيص الإمامِ نفسَه به، وأنه خانهم، على: كراهة التنزيه، لا التحريم؛ بيانًا للجواز.