الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عضو، لم يصحَّ وضوءه؛ لأنَّه لم يقلْ أحدٌ من العلماء بالفرق بين وضوءِ عضو ووضوء عضو في المغسول.
وفيه: وجوبُ تعليم الجاهلين، والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، والله أعلم.
* * *
الحديث الرابع
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْعَلْ في أَنْفِهِ، ثمَّ لينتثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَليوترْ، وَإذَا اسْتَيْقَظَ أَحدُكُمْ مِنْ نَوْمه، فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يدخلهما في الإِنَاءِ ثَلَاثًا؛ فَإنَ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ! "، وفي لفظ لمسلم:"فَلْيَسْتنشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنَ الماء"، وفي لفظ:"مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتنشِقْ"(1).
قول الرَّاوي: "أن": هو عند الإطلاق محمول على السَّماع، خصوصًا إن كان الراوي صحابيًّا، وأدرك الواقعة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فَلْيَجْعَلْ في أَنْفِهِ"، ولم يقل: ماء، فيه دليل على جواز حذف المفعول، إذا دلَّ الكلام عليه، وقد ذكر المفعول في غير هذه الرِّواية.
(1) رواه البخاري (160)، كتاب: الوضوء، باب: الاستجمار وترًا، بلفظ:"إذا توضأ أحدكم، فليجعل في أنفه ...... ".
ورواه مسلم (237)، كتاب: الطهارة، باب: الإيثار في الاستنثار والاستجمار، بلفظ:"فليستنشق بمنخريه من الماء".
ورواه البخاري (2/ 683) معلقًا بصيغة الجزم، بلفظ:"إذا توضأ فليستنشق بمنخره الماء"، ووصله ابن حجر في "تغليق التعليق"(3/ 167)، وقد تقدم تخريجه عند "مسلم" بلفظ:"إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء"، وعند مسلم أيضًا (238) بلفظ: "من توضأ فليستنثر.
قلت: وقد نسب ابن قدامة في "المغني"(1/ 83)، وابن كثير في "تفسيره" (2/ 24) لفظ:"من توضأ فليستنشق" إلى "الصحيحين"، ولم أره فيهما، وإنما ألفاظهم في الحديث ما سبق ذكره، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ لْينتَثِر"، الانْتِثَارُ: هو دفع الماء للخروج من الأنف، مأخوذ من النثرة؛ وهي طرف الأنف، ومنهم من جعله جذبَ الماء إلى الأنف؛ وهو الاستنشاق، وقال: هو مشتركٌ بينهما، وهو قول ابن الأعرابي وابن قتيبة، وقال الخطابي: النُّثْرَةُ؛ هي الأنف (1)، وثبت في الصَّحيح أنّه صلى الله عليه وسلم استنشق واستنثر، فجمع بينهما، وذلك يقتضي التغاير.
ومنهم من قال: سمَّى جذب الماء استنشاقًا بأوَّل الفعل، واستنثارًا بآخره؛ وهو استدعاء الماء بنفس الأنف للدخول والخروج.
وقال الفرَّاء: يقال: نثر الرجل، وانتثر، واستنثر؛ إذا حرَّك النثرة في الطهارة (2).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ومَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتر".
الاستجمار: مسحُ محل البول والغائط بالجِمار، وهي الأحجار، وحمله بعضهم على استعمال البَخُور للتطيُّب بالمجمر، فإنه يقال فيه: تجمَّر، واستَجْمَر، إمَّا بأَنْ يأخذَ ثلاث قطع من الطِّيب، أو يتطيَّب ثلاث مرات، واحدة بعد أخرى، والأظهر الأوَّل.
والإيتار: أنْ يكونَ الاستجمارُ بوتر، لكن هو عند الشَّافعي: لا يجوز بأقل من ثلاث، وإن حصل الإنقاء؛ لأنَّ الواجب عنده أمران: إزالة العين، واستيفاء ثلاث مسحات، فإن حصل الإنقاء بثلاث، فلا زيادة، وإن لم يحصل، وجبت الزيادة.
وهذا الحديث يدل على وجوب الإيتار، لكن بالثلاث من دليل آخر؛ وهو نهيه صلى الله عليه وسلم أن يستنجي بأقل من ثلاث (3).
(1) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 160)، و"غريب الحديث" للخطابي (1/ 136)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 14).
(2)
انظر: "لسان العرب" لابن منظور (5/ 191)، (مادة: نثر).
(3)
رواه مسلم (262)، كتاب: الطهارة، باب: الاستطابة، عن سلمان رضي الله عنه بلفظ:=
وقوله: "منخريه": هو -بفتح الميم وكسر الخاء المعجمة، وبكسرهما جميعًا-، لغتان معروفتان (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنَّ أَحَدَكَمْ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ" هو بيان لسبب الأمر بالغسل عند استيقاظه من النوم، وحكمة معناه؛ أنه لا يأمن نجاسة يده بطوافها حال نومه على بدنه، فيصادف بثرة، أو قتل قملة، أو قذرًا، أو نحو ذلك.
قال الشَّافعي وغيره من العلماء رحمهم الله: وأهل الحجاز كانوا يستنجون بالأحجار غالبًا، وبلادهم حارَّة، فإذا نام أحدهم، عرق، فلا يأمن أَنْ تطوفَ يده على ذلك الموضع النجس، فإذا وضعها في الماء القليل، نجّسته، والماء غالبًا إِنَّما يكون في الأواني، والغالب فيها القلة (2).
أما أحكام الحديث:
فقد تمسَّك به من قال بوجوب الاسْتِنشَاق؛ وهو مذهب أحمد، وقال مالك، والشافعي، وغيرهما بعدم الوجوب، وحملوا الأمر على الاستحباب؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم -فيما روي- للأعرابي:"تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ الله"(3)، فأحاله على الآية، وليس فيها ذكر الاستنشاق، ولأن المأمور به حقيقة إنَّما هو الانتثار، وليس هو بواجب بالاتفاق.
وفيه دليل على وجوب الإيتار في الاستجمار، أمَّا بالثلاث، فمن دليل خارج.
واعلم أن المراد بالإيتار أَنْ يكونَ عدد المسحات ثلاثًا، أو خمسًا، أو فوق
= "نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار ...... " الحديث.
(1)
انظر: "لسان العرب" لابن منظور (5/ 198).
(2)
انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (3/ 179).
(3)
رواه أبو داود (861)، كتاب: الصلاة، باب: من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، والترمذي (302)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في وصف الصلاة، وقال: حسن، وابن خزيمة في "صحيحه"(545)، من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه.
ذلك مِن الأوتار؛ ومذهب الشَّافعي أنه فيما زاد على الثلاث مستحب، قال أصحاب الشَّافعي: إن حصل الإنقاء بثلاث، فلا زيادة، وإن لم يحصل، وجبت، ثمَّ إن حصل بوتر، فلا زيادة، وإن حصل بشفع؛ كأربع أو ست، استحب الإيتار.
وقال بعض أصحابنا: يجب الإيتار مطلقا؛ لظاهر هذا الحديث، وحجة الجمهور الحديث الصَّحيح في السُّنن: أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيوترْ، مَنْ فَعَلَ، فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لا، فَلا حَرَجَ"(1) حملًا له على ما زاد على الثلاث، وجمعًا بينه وبين حديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن أَنْ يستنجيَ بأقل من ثلاثة أحجار (2)، والله أعلم.
وفيه دليل على أَنَّ شرعيةَ غسل اليدين وكراهةَ غمسهما في الإناء قبل غسلهما في الوضوء ليس مختصًّا بنوم الليل، بل لا فرق فيه بين نوم اللَّيل والنَّهار؛ لإطلاقه صلى الله عليه وسلم النومَ من غير تقييد.
وقال أحمد: يختص بنوم اللَّيل دون النَّهار؛ بقوله صلى الله عليه وسلم: "أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ"، والمبيت لا يكون إلا باللَّيل، وقد صح أيضًا مقيدًا بالليل، فقال صلى الله عليه وسلم:"إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ"، رواه البخاريُّ ومسلم وأبو داود (3)، وعنه رواية أخرى: أَن كراهةَ الغمس إن كان من نومِ اللَّيل فهي للتحريم، وإن كان في النهار، فهي للتنزيه، لكنَّه محمول على الغالب، لا للتقييد، كيف وقد علَّل صلى الله عليه وسلم بأمر يقتضي
(1) رواه أبو داود (35)، كتاب: الطهارة، باب: الاستتار عند الخلاء، وابن ماجه (337)، كتاب: الطهارة، باب: الارتياد للغائط والبول، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 371)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث عند البخاري (159)، ومسلم (237) دون الزيادة "من فعل فقد أحسن ..... " الحديث.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه البخاري (160)، كتاب: الوضوء، باب: الاستجمار وترًا، ومسلم (278)، كتاب: الطهارة، باب: كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثًا، وأبو داود (103)، كتاب: الطهارة، باب: في الرجل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا لفظ أبي داود.
الشَّك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"فَإنَّهُ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ"، فدلَّ على أن اللَّيل والنوم ليس مقصودًا بالتقييد.
وقال جماعة من العلماء: يجبُ غسلُ اليدين قبل إدخالهما الإناء في ابتداء الوضوء عند الاستيقاظ من النوم؛ أخذًا من الأمر؛ لظهوره في الوجوب.
وقال مالك والشَّافعي والجمهور: لا يجب، والأمر أمرُ ندب؛ لحديث الأعرابي، وليس فيه غسل اليدين في ابتداء الوضوء، ولأن الأمر يصرف عن الوجوب عند الإطلاق؛ لقرينة ودليل (1)، وهي هنا تعليله صلى الله عليه وسلم بما يقتضي الشَّك في نجاسة اليد، وقواعد الشَّرع تقتضي أنَّ الشَّك لا يقتضي وجوبًا في الحكم إذا كان الأصلُ المستصحبُ على خلافه موجودًا، ولا تحصل الطهارة في اليد والماء، فليستصحب (2)، ودليلهم على ندبيته في الوضوء مطلقًا وروده في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تعرض لسبق نوم، والمعنى المعلَّل به في الحديث هو جَوَلان اليد حال اليقظة، فيعم الحكم؛ لعموم عِلَّتِه، ولو خالف وغمس يده، لم يأثمِ الغامس، ولم يفسدِ الماء؛ وحكي عن الحسن البصريِّ: أنَّه ينجُسُ الماءُ في القيام من نومِ اللَّيل، وهي رواية ضعيفة عن أحمد، ونقل عن إسحاق بن راهويه، ومحمَّد بنِ جرير الطبريِّ، وهو ضعيف جدًّا؛ لأصل الطَّهارة في الماء واليد، وعدم التنجس بالشَّك، ولا يمكن أَنْ يقال: الظاهر في اليد النجاسة.
وفيه دليل على كراهة غمس اليد في الإناء قبل غسلها ثلاثًا إذا قام من النوم، وأمَّا غير المستيقظ، فيُسْتَحبُّ له غسلُها قبل إدخالها في الإناء؛ لأَنَّ صيغة النَّهي تقتضي الكراهة على أقل الدَّرجات، ولا يلزم من الكراهة في الشَّيء الاستحباب في غيره؛ لعدم التلازم بينهما؛ بدليل عكسه في صلاة الضُّحَى؛ فإنَّ فعلَها مستحبٌّ، وتركَها غيرُ مكروهٍ، فكذلك غسلهما للمستيقظ قبل إدخالهما الإناء من المستحبات، وتركه له من المكروهات، وبذلك فرَّقَ أصحاب الشَّافعي بين المستيقظ وغيره.
(1) في "ح": "ولأن الأمر لا يصرف عن الوجوب عند الإطلاق إلا بدليل لقرينة ودليل".
(2)
في "ح": "
…
موجودًا، أو الأصل الطهارة في اليد والماء، فلتستصحب".
وفيه دليل على الفرق بين ورود الماء على النجاسة، وورودها عليه، فإذا ورد عليها الماء، أزالها، وإذا وردت عليه، نجَّسته إذا كان قليلًا؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن إيرادها عليه، وأمره بإيراده عليها، وذلك يقتضي أَنَّ ملاقاةَ النجاسةِ إذا كان الماءُ واردًا عليها غيرُ مفسدٍ له، وإلَّا لَمَا حَصَلَ المقصودُ من التطْهيرِ.
وفيه دليل على أنَّ الماءَ القليلَ ينجسُ بملاقاةِ النجاسة ووقوعها فيه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم إذا مَنَعَ من إِدخالِ اليد فيه لاحتمالِ النجاسة، فمع تَيَقُّنِها أولى، لَكِنْ قَدْ يعترض على هذا بأنَّ مطلق التَّاثير (1) لا يلزم منه التَّأثيرُ بالتَّنْجيس، ولا يلزم من ثبوت الأعمِّ ثبوتُ الأخصِّ المعين، فثبت مطلق التَّأثير، ولم يثبت خصوص التأثير بالتنجيس.
وأورد أَنَّ الكراهةَ ثابتةٌ عند التوهُّم، فلا يلزم أَنْ يكونَ أثر اليقين هو الكراهة.
وأُجِيبَ بأنه يثبتُ عند اليقين زيادة في رتبة الكراهة -والله أعلم-.
وفيه دليل على كراهة غمس اليدين في الإناء قبل غسلهما ثلاثا، سواء كان ما في الإناء ماءً قليلًا، أو طعامًا، أو غيره من الأشياء الرَّطبة.
وفيه دليل على استحباب التَّثليث في غسل النجاسة؛ لأنه إذا أمر به في المتوهَّمة، ففي المحقَّقة أولى.
وفيه دليل على رد ما يقوله أحمد أَن الغسل سبعًا عام في جميع النَّجاسات؛ لتنصيصه صلى الله عليه وسلم على التثليث، والتَّسبيعُ خاصٌّ في ولوغِ الكلب.
وفيه دليل على أنَّ النَّجاسة المتوهَّمة يُستحبُّ الغسلُ فيها دون الرَّشِّ؛ للأمر بالغسل دون الرَّش؛ فإنه في بولِ الرَّضيع الَّذي لم يَطعمْ، وفي اللِّباس ونحوه إذا توسوس فيه.
وفيه دليل على استحباب استعمال ألفاظ الكنايات فيما يُتحاشى من ذكره؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "فَإِنَّهُ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ"، ولم يقلْ: فلعلَه وقَعَتْ يَدُه على دُبُرِه، أو ذَكَره، أو نجاسةٍ، أو نحو ذلك.
(1) في "ح": زيادة: "بالمنع".