الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي الحديث دليل على جواز العمل في الصلاة لمصلحتها من غير كراهة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنَّما هو شيطانٌ": يعني أن امتناعه من الرجوع عن المرور فعلٌ من أفعال الشيطان، فأشبه فعلُه فعلَه؛ لأن الشيطان بعيدٌ من الخير وقبولِ السنة، وقيل: إنما حمله على المرور [و] الامتناع من الرجوع الشيطانُ، وقيل: المراد بالشيطان: القرين؛ كما جاء في الحديث: "فإن معه القرين"(1).
وفي الحديث: جوازُ إطلاق لفظ الشيطان في مثل هذا.
وفيه: التنبيه على عظم رتبة الصلاة ومناجاة الرب سبحانه وتعالى، واحترام المصلي، وعدم تعاطي أسباب تهويش قلبه وشغله عما هو بصدده، فإنها حالة عظيمة ومقام كريم خاص بالله تعالى، ولهذا نهي عن القيام بين يدي المخلوقين، وكان مَنْ سَرَّهُ القيامُ بينَ يديه أَنْ يتبوأ مقعده من النار، والله أعلم.
* * *
الحديث الثالث
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلَامَ، وَرَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بالناس بمنًى إلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فنزَلْتُ، فَأَرْسَلْتُ الأَتانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ في الصَّفِّ، فَلَمْ يُنكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ (2).
تقدم الكلام على ابن عباس.
وأما الأتان، فهي الأنثى من جنس الحمر، فقوله في هذه الرواية: حمارٍ أتانٍ، هي رواية البخاري، ولمسلم روايتان: إحداهما: أتان، والأخرى:
(1) رواه مسلم (506)، كتاب: الصلاة، باب: منع المار بين يدي المصلي، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
رواه البخاري (471)، كتاب: سترة المصلي، باب: سترة الإمام من خلفه، ومسلم (504)، كتاب: الصلاة، باب: سترة المصلي.
حمار، فرواية البخاري استعمالُ لفظ الحمار فيما يعم الذكر والأنثى، وبين أنه أنثى، ومثله للفظ الحمار الشاةُ والإنسانُ.
وقوله: "ناهزت الاحتلام"؛ أي: قاربته، وهو يصحح قول من قال: إن ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات كان عمر ابن عباس ثلاث عشرة سنة، خلافًا لمن قال غير ذلك؛ كسعيد بن جبير، وأحمد بن حنبل؛ مما لا يقارب البلوغ.
وقوله: "فأرسلت الأتان ترتع"؛ أي: ترعى.
وقوله: "يصلي بمنى"؛ فيها لغتان: الصرفُ، وعدمُه، ولهذا تكتب بالألف والياء، والأجودُ صرفُها وكتابتُها بالألف، وسميت منى؛ لما يُمنى فيها من الدماء؛ أي: يراق، ومنه قوله تعالى:{مِن مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37].
وقوله: "فلم ينكر ذلك علي أحد"، استدلاله على عدم بطلان الصلاة لمروره بعدم الإنكار منهم لفعله لفائدتين:
إحداهما: أنه غير مؤاخذ بفعله، ومرورِ الحمار بين يدي بعض الصف.
أمَّا فعلُه، فإنه لو كان في سن الصغر وعدم التمييز، لاحتمل أن يكون عدم الإنكار عليه لعدم مؤاخذته بسبب صغر سنه، لكنه نبه عليه بقوله: ناهزتُ الاحتلام، تأكيدًا لعدم بطلان الصلاة بمرورِ من هو في هذا السن، ولم يستدل بعدم استئنافهم الصلاة بدلًا عن عدم إنكارهم؛ لأنه أكثر فائدة، فإنه إذا دل عدم إنكارهم على أن هذا الفعل غيرُ ممنوع من فاعله، دل على عدم إفساده الصلاة؛ إذ لو أفسدها، لامتنع إفساد صلاة الناس على المار، ولا ينعكس هذا، وهو أن يقال: لو لم يفسد، لم يمتنع على المار؛ لجواز ألا يفسد الصلاة، ويمتنع المرور على المار؛ كما يقول في مرور الرجل بين يدي المصلي؛ حيث يكون له مندوحة: إنه ممتنع عليه المرور، وإن لم يفسد الصلاة على المصلي، فثبت بهذا أن عدم الإنكار دليلٌ على الجواز، والجواز دليلٌ على الإفساد، وأنه لا ينعكس، فكان الاستدلال بعدم الإنكار أكثرَ فائدة من الاستدلال بعدم استئنافهم الصلاة.
وأما مرور الحمار بين يدي المصلي، فلا يخلو إما أن يكون إمامًا أو غيرَه، فإن كان إمامًا، فلا يخلو إما أن يصلي إلى سترة، أو إلى غير سترة، فإن كان إمامًا صلى إلى سترة، فهو سترة لمن وراءه، فالمرور في هذا الحديث وقع بين يدي بعض الصف لا كله، والإمام سترة للكل، فلا يضر، وإن صلى إلى غير سترة، فالأكثرون من الفقهاء على أنه لا تفسد الصلاة بمرور شيء بين يديه.
وظاهر هذا الحديث يدل عليه بقوله: بغير جدار، ولو كان ثم سترة غيرها من غيره، لذكرها، والمأموم بطريق الأولى، والمنفرد لذلك.
وقد وردت أحاديث معارضة لذلك، منها ما دل على قطع الصلاة بمرور الكلب الأسود والمرأة والحمار، وهو حديث صحيح.
ومنها ما دل على قطعها بمرور المرأة والحمار فقط، وهو صحيح أيضًا.
ومنها ما دل على قطعها بمرور اليهودي والنصراني والمجوسي والخنزير، وهو ضعيف.
وقد قيل: إن هذه الأحاديث منسوخة بأحاديث أخر، منها قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يقطعُ الصلاةَ شيء"(1)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"وادْرَؤُوا ما استطعتم"(2)، في حديث المار بين يدي المصلي والمرأة، منسوخة بحديث عائشة الآتي بعد هذا، والحمار بحديث ابن عباس المتقدم، وهذا كله صحيح إن ثبت تاريخ تأخير الناسخ عن المنسوخ بعد تعذر الجمع والتاويل، مع أن حديث "لا يقطع الصلاةَ شيءٌ" ضعيف.
وقد اختلف العلماء في قطع الصلاة بمرور الحمار والمرأة والكلب الأسود، فقال قوم: يقطع هؤلاء الصلاةَ، وقال أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-: يقطعها الكلبُ الاسودُ، وفي قلبي من المرأة والحمار شيء، ووجه قوله: إن
(1) رواه أبو داود (719)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: لا يقطع الصلاة شيء، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
انظر تخريج الحديث المتقدم، إذ هو جزء منه.
الكلب لم يجئ في الترخيص فيه شيء يعارض هذا الحديث، وأما المرأة ففيها حديث عائشة، وفي الحمار حديث ابن عباس السابق.
وقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وجمهور العلماء من السلف والخلف: لا تبطل الصلاة بمرور شيء من هؤلاء ولا غيرهم، وتأول هؤلاء هذا الحديث على أن المراد بالقطع نقصُ الصلاة؛ لشغل القلب بهذه الأشياء، وليس المراد بطلانها.
وحكى الأثرم عن أحمد رحمه الله جزم القول بأنه لا يقطع المرأة والحمار، وجزم القول بذلك يتوقف على أمرين:
أحدهما: أن يبين تأخر المقتضى لعدم الفساد على المقتضى للفساد، وفيه عسر عند المبالغة في التحقيق.
والثاني: أن يبين أن مرور المرأة مساوٍ لما حكته عائشة رضي الله عنها من الصلاة إليها راقدة.
قال شيخنا أبو الفتح رحمه الله: وليس هذه بالبينة عندنا لوجهين:
أحدهما: أنها رضي الله عنها ذكرت أن البيوت ليس فيها حينئذ مصابيح، فلعل سبب هذا الحكم عدم المشاهدة لها.
والثاني: أن قائلًا لو قال: إن مرور المرأة ومشيها لا يساويه في التشويش على المصلي اعتراضه بين يديه، فلا يساويه في الحكم، لم يكن ذلك بالممتنع، وليس يبعد من تصرف الظاهرية مثل هذا، وفي قول ابن عباس: فلم ينكر ذلك علي أحد، دليل على أن عدم الإنكار حجة على الجواز، لكنه مشروط بانتفاء الموانع من الإنكار، وبالعلم بالاطلاع على الفعل، وذلك ظاهر، ولعل السبب في قول ابن عباس ذلك دون قوله: ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: أنه ذكر أن هذا الفعل كان بين يدي بعض الصف، وليس يلزم من ذلك اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ لجواز أن يكون الصف ممتدًا، ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفعل منه، فلا يجزم بترك إنكاره مع اطلاعه، فلا يوجد شرط الاستدلال بعدم الإنكار على