الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب استقبال القبلة
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ راحِلَتِه؛ حَيْثَ كَانَ وَجْهُهُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ، وكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ (1).
وفي روايةٍ: كَانَ يُوتِرُ عَلَى ظَهْرِ بَعيرِهِ (2)، ولمسلم: غَيْرَ أنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا المَكْتُوبة (3)، وللبخاري: إلَّا الفَرائِضَ (4).
أما قوله: "يُسَبِّحُ"؛ فمعناه: يصلِّي النافلة، وأطلق التسبيح على مطلق الصلاة؛ في قوله تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]؛ على صلاة الصبح، وصلاة العصر؛ عند أهل التفسير.
والتسبيح حقيقة: قولُ: سبحان الله؛ فإذا أطلق على الصلاة، كان من باب
(1) رواه البخاري (1054)، كتاب تقصير الصلاة، باب: من تطوع في السفر في غير دبر الصلوات وقبلها، ومسلم (700)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، وهذا لفظ البخاري.
(2)
رواه البخاري (954)، كتاب: الوتر، باب: الوتر على الدابة، ومسلم (700)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، بلفظ:"كان يوتر على البعير".
(3)
رواه مسلم (700)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، والبخاري (1047)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: ينزل للمكتوبة.
(4)
رواه البخاري (955)، كتاب: الوتر، باب: الوتر في السفر.
تسمية الشيء باسم جزئه؛ تنبيهًا على فضل ذلك الجزء؛ كما أن أصل الصلاة الدعاء، ثم سميت العبادة كلها به؛ لاشتمالها عليه، وكذلك تسمية الصلاة: بالركوع، أو السجود، أو القرآن، أو القيام.
أو لأن المصلي منزِّهٌ لله تعالى، بإخلاص العبادة له وحده؛ كالتسبيح، فإنه تنزيهٌ لله تعالى؛ فيكون من مجاز الملازمة؛ لأن التنزيه لازم للصلاة المخلَصة لله وحده.
وقوله: "حيثُ كانَ وجهُهُ" يعني: حيثما توجه وجهه في السفر، وقد ثبت ذكر السفر في بعض الأحاديث، أو معظمها؛ وهو مطلق في رواية الكتاب، حتى تمسك بها بعض أصحاب الشافعي؛ وهو أبو سعيد الإصطخري في جواز النافلة على الدابة في البلد؛ وهو محكي عن أنس بن مالك، وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة.
وقوله: "يُومئُ برأسِهِ" يعني: في الركوع والسجود؛ ليكون البدلُ على وفق الأصل؛ فيجعل السجودَ أخفضَ من الركوع، وليس في الحديث ما يدل على ذلك، ولا نفيه، لكن في اللفظ ما يدل على نفي حقيقة السجود.
وقوله: "وكانَ ابنُ عمرَ يفعلُه" تنبيه على أن رواية الحديث، والعمل به أقوى في التمسك به من الرواية له فقط؛ لجواز أن يكون الحديث عند الراوي، إذا لم يعمل به؛ مخصوصًا بحالة، أو منسوخًا، أو معللًا، أو نحو ذلك.
وقوله: "كانَ يُوتر على بعيرهِ"؛ استدلَّ به على أن الوتر ليس بواجب، بل سنة؛ وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، والجمهور.
وقال أبو حنيفة: واجب، لا يجوز على الراحلة؛ بناءً على مقدمة أخرى؛ وهي أن الفرض لا يقام على الراحلة، وهو مرادف للواجب، فلا يقام عليها.
وليس بقوي في الاستدلال؛ لأنه ليس فيه إلا ترك الفعل المخصوص، وليس الترك دليلًا على الامتناع؛ وكذا الكلام على استثناء ابن عمر الفرائض، من فعله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يدل على ترك هذا الفعل، وترك الفعل لا يدل على امتناعه.
لكن قد يقال: إن وقت الفريضة مما يكثر على المسافرين؛ فترك الصلاة لها على الراحلة دائمًا، مع فعل النوافل على الراحلة؛ إشارة إلى الفرقان بينهما، في الجواز، وعدمه، مع تأييد المعنى؛ من كون الصلوات المفروضة قليلة محصورة؛ لا يؤدي النزول عن الراحلة لها إلى نقصان المطلوب؛ والنوافل المطلقة لا حصر لها؛ فيؤدي النزول إلى ترك المطلوب من تكثيرها، مع اشتغال المسافر.
ودليل الجمهور: هذه الأحاديث.
فإن قيل: مذهب الشافعي أن الوتر واجب على النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا: وإن كان واجبًا عليه، فقد صح فعلُه على الراحلة؛ فدلَّ على صحته منه على الراحلة، ولو كان واجبًا على العموم، لم يصحَّ على الراحلة؛ كالظهر.
فإن قيل: الظهر فرض، والوتر واجب، وبينهما فرق، قلنا: هذا الفرق اصطلاح منكم، لا يسلمه لكم الجمهور، ولا يقتضيه شرع، ولا لغة، ولو سلم، لم يحصل به هنا غرضكم، والله أعلم.
وقوله: "غيرَ أنَّه لا يصلِّي عليها المكتوبةَ"؛ المكتوبةُ نعت للصلاة، وحذفت لدلالته عليها، ونعتَها بالمكتوبة، دون المفروضة؛ اتباعًا للفظ القرآن، في قوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].
وأجمعت الأمة على أن المكتوبة لا تجوز إلى غير القبلة، ولا على الدابة، إلا في شدة الخوف.
فلو أمكنه استقبال القبلة، والقيام، والركوع، والسجود، على دابة واقفة عليها هودج، أو نحوه: جازت الفريضة؛ على الصحيح من مذهب الشافعي.
ولو كانت سائرة: لم تصح؛ على الصحيح المنصوص للشافعي، وقيل: يصح؛ كالسفينة؛ فإنها تصحُّ فيها الفريضةُ بالإجماع.
ولو كان في ركب، وخاف لو نزل للفريضة، انقطع عنهم، ولحقه الضرر، قال أصحاب الشافعي: يصلي الفريضة على الدابة، بحسب إمكانه، ويلزمه إعادتها؛ لأنه عذر نادر.
ومقتضى القواعد: أنه لا يلزمه الإعادة، خصوصًا إذا خاف فوتَ الوقت؛ لأنه أتى بما أمر به، على حسب استطاعته، والإعادة والقضاء إنما يجبان بأمر محدود، والله أعلم.
وفي هذه الروايات:
دليل على: جواز التنفُّل على الدابة في السفر، حيث توجهت، ولا يشترط استقبال القبلة فيها؛ سواء كانت نافلة مطلقة، أو راتبة؛ وهو جائز بإجماع المسلمين، ويجوز في قصير السفر، وطويله؛ عند الشافعي، وجمهور العلماء.
وقال مالك، في رواية عنه: لا يجوز التنفل على الدابة في السفر، إلا في سفرٍ تُقصر فيه الصلاة؛ وهو قول غريب محكيٌّ عن الشافعي.
واعلم: أن شرط جواز التنفل على الدابة في السفر: ألا يكون سفر معصية؛ فلا يجوز لعاص بسفره الترخُّصُ بشيء من رخص السفر؛ كمن سافر لقطع الطريق، أو لقتال بغير حق، أو عاقًّا والده، أو آبقًا من سيده، أو ناشزةً على زوجها، ونحوهم، إلا التيمم؛ فإنه يجب عليه، إذا لم يجد الماء، ويصلي، وتلزمه الإعادة؛ على الصحيح من مذهب الشافعي؛ تغليظًا عليه، فإن له طريقًا إلى الخلاص من الإعادة، بالتوبة في الحال.
ولا شك أن السبب في جواز التنفل على الدابة في السفر: تيسيرُ تحصيل النوافل، وتكثيرها؛ فما ضيق طريقه قل، وما اتسع طريقه سهل؛ فاقتضت رحمة الله تعالى للعباد: أن تقلل الفرائض عليهم؛ تسهيلًا للكلفة، وفتحَ لهم سبحانه وتعالى طريقَ التكثير للنوافل؛ تعظيمًا للأجور، أو جبرًا للنقص المحذور.
واشترط بعض الفقهاء من الشافعية: أن يكون توجهه إلى جهة مقصده، في سفره؛ ليكون بدلًا له عن القبلة؛ فلو توجه إلى غير جهة مقصده، في المسير: لم يجز له التنفل؛ وذلك مأخوذ من فعله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يسبح؛ حيث كان وجهه، على راحلته، والله أعلم.