الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من يقول: إنَّ الواو للترتيب؛ وهو مذهب ضعيف.
وقد جوز جماعة من الفقهاء: تأخير الاستنجاء على الوضوء؛ إذا كان بحائل يمنع انتقاض الطهارة، لكن الأفضل أن يستنجي قبل الوضوء، والله أعلم.
* * *
الحديث الثَّاني
عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عاصمٍ المازِنيِّ رضي الله عنه قال: شُكِيَ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ في الصَّلاةِ، قالَ:"لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أو يَجِدَ رِيحًا"(1).
أمَّا عَبَّادُ بنُ تَميمٍ، فهو: ابنُ أخي عبدِ اللهِ بنِ زيدِ بنِ عاصمٍ راوي حديث الوضوء، وحديث الاستسقاء، تقدَّم الكلام عليه: على نسبه، ونسبته، وما يتعلق به من الحديث الثامن من كتاب الطهارة.
وعبَّاد هذا: تابعيٌّ، ثقةٌ، متفقٌ على توثيقه.
رُوي عنه أنَّه قال: أنا يومَ الخندق ابنُ خمسِ سنين؛ فأذكرُ أشياءَ وأعيها، وكنَّا مع النساء في الآطام، وما كان من أهل الآطام ينامون إلا عقبًا؛ خوفًا من بني قريظة أَنْ يُغِيرُوا عليهم (2).
ومعلوم أن يوم الخندق كان سنةَ خمس من الهجرة، أو قبلَه؛ فمقتضى ذلك أَنْ يُعَدَّ عبَّادٌ في صغار الصحابة، لا في التابعين، ولم أعلم أنَّ أحدًا ذكره فيهم، مع ذكرهم في الصحابة لمحمود بن لبيد، وهو مقاربه، أو أصغر منه، وقد روى عن عباد هذا، وكذلك عبد الله بن الزبير، والنعمانُ بن بشير معدودان في أصاغر
(1) رواه البخاري (137)، كتاب: الوضوء، باب: لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، ومسلم (361)، كتاب: الحيض، باب: الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث، فله أن يصلي بطهارته تلك.
(2)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(5/ 81).
الصحابة، وهما أصغرُ منه، فليتفطَّنْ لذلك!! والله أعلم (1).
وأمَّا قوله: "شُكِيَ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلُ": فهو -بضم الشين، وكسر الكاف- مبني لما لم يسمَّ فاعلُه، والرجل: مرفوع.
ولم يذكر هنا الشاكي، وجاء في رواية للبخاري أنَّ السائلَ هو: عبد الله ابن زيدٍ الرَّاوي.
قال بعض الحفاظ: وينبغي ألا يتوهمَ بهذا أنَّ شكي مفتوحُ الشين والكاف، ويجعل الشاكي هو: عمه المذكور؛ فإنَّ هذا الوهم غلط، والله أعلم.
وقوله: "يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ": المشارُ إليه بالشيء هو: الحركة التي يظن بها أنها حدث، وليس كذلك.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أو يَجِدَ رِيحًا":
معناه: يعلم وجودَ أحدهما، ولا يشترط اجتماعُ السماع والشمِّ بإجماع المسلمين، ومعناه: حتى يتيقن خروجَه.
وهذا الحديث: أصلٌ من أصول الإسلام، وقاعدةٌ من قواعد الفقه، وهي: أنَّ الأشياءَ يُحكم ببقائها على أصولها، حتى يُتيَقَّنَ خلافُ ذلك، ولا يضرُّ الشكُّ الطارئُ عليها.
والعلماء -فيما نعلم- متفقون على هذه القاعدة، لكنَّهم مختلفون في كيفية استعمالها:
مثاله: مسألة الباب التي دلَّ عليها الحديث؛ وهي: أنَّ من تيقن الطهارة، وشكَّ في الحديث، حُكم ببقائه على الطهارة، سواء حصل الشك في الصلاة، أو خارجها، وهذا مذهب الشَّافعي، وجمهور علماء السلف والخلف، إعمالًا
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 81)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 141)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 243)، و"تهذيب الكمال" للمزي (14/ 108)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 612)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 79).
للأصل السابق، وهو الطهارة، واطراحًا للشكِّ الطارئ، وأجازوا الصلاة في هذه الحال.
وعن مالك رحمه الله روايتان:
إحداهما: يلزمه الوضوءُ مطلقًا، وهي محكيَّة عن الحسن البصري، ووجه شاذٌّ عن بعض الشافعية؛ نظرًا إلى الأصل قبل الطهارة، وهو ترتب الصلاة في الذمة، فلا تُزال إلا بطهارة متيقَّنَة، ولا يقينَ مع الشكِّ في وجود الحدث.
والثانية: إن كان شكُّه في الصلاة، لم يلزمه الوضوءُ وإن كان خارجَها، لزمه، وكأنَّه أخذه من الحديث الَّذي رواه مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وَجَدَ أَحَدُكُم في بَطْنِهِ شَيْئًا، فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ، أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ، أَمْ لا؟ فلا يَخْرُجَنَّ مِنَ المَسْجدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أو يَجِدَ ريحًا"(1).
وحمل الحديث على العموم في الصلاة إذا كان في المسجد، وأنَّ المرادَ بالمسجد نفس الصلاة؛ تسمية للصلاة باسم موضعها؛ للزومها إياه.
فالشَّافعي: اطَّرح الشكَّ مطلقًا، وألغى كلَّ قيد، واعتبر أصل الطهارة الواردَ بعدَ ترتب الصلاة في الذمة، كيفَ وقد ورد في بعض طرق الحديث:"إِنَّ الشَّيْطَان يَنْفُخُ بَيْنَ إِلْيَتَيِ الرَّجُلِ"(2) تنبيهًا على إلغاءِ الشكِّ الحاضر؛ لأجل مناسبة سبب؟
قال أصحاب الشَّافعي: ولا فرق في شكه بين تساوي الاحتمالين في وجود
(1) رواه مسلم (362)، كتاب: الحيض، باب: الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحديث، فله أن يصلي بطهارته تلك.
(2)
قال الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير"(1/ 128): حديث: "إن الشيطان ليأتي لأحدكم فينفخ بين ألييه ..... "، قال ابن الرفعة في "المطلب": لم أظفر به، وقد ذكره البيهقي في "الخلافيات" عن الربيع، عن الشافعي: أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره بغير إسناد، وكذلك ذكره المزني في "المختصر" عن الشافعي نحوه بغير إسناد أيضًا. وفي الباب: عن أبي سعيد الخدري، وابن عباس. ا. هـ مختصرًا.
الحديث، وعدمه، أو يرجح أحدهما، ويغلب على ظنه، فلا وضوء عليه، ويستحب أن يتوضأ احتياطًا، وإذا توضأ للاحتياط مع دوام الشك، فذمته بريئة.
فلو عدم حدثه بعد ذلك، فهل يجزئه الوضوء المستحب في حال شكه؟
وجهان: أصحهما عندهم: لا يجزئه؛ لتردده في نيته، والله أعلم.
أمَّا إذا تيقن الحدث، وشكَّ في الطهارة، فإنَّه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين.
أمَّا إذا تيقن وجودَهما بعد طلوع الشمس -مثلًا-، ولا يعرف السابق منهما، ولا حاله قبل طلوع الشمس؛ لزمه الوضوء.
وإن عرف حاله قبلهما، فأوجه:
أظهرُها: أنَّ حكمه الآن بضدِّ ما قبل طلوع الشمس، فإن كان متطهرًا قبلها، فهو الآن محدث، وإن كان محدثًا، فهو الآن متطهر.
والثاني: -وهو الصحيح عند جماعة المحققين- أنه يلزمه الوضوء بكل حال.
والثالث: يبني الأمرَ على ما يغلب على ظنه.
والرابع: يكون كما كان قبل طلوع الشمس، وهو غلط؛ لأنَّه حكم بحالة تيقن بطلانها بما وقع بعدها، والله أعلم.
ومن مسائل القاعدة التي اشتمل عليها معنى الحديث:
مَنْ شكَّ في طلاق زوجته، أو عتقِ عبده، أو نجاسةِ الماء الطاهر، أو طهارةِ النجس، أو نجاسةِ الثوب، أو غيرِه، أو أنَّه صلى ثلاثًا، أم أربعَ ركعات، أو أنه ركعَ وسجد، أم لا، أو نوى الصوم، أو الوضوء أو الاعتكاف، وهو في أثناء هذه العبادات، وما أشبه هذه الأمثلة:
فكل هذه الشكوك لا تأثير لها، والأصل عدم الحادث، والله أعلم.
ومن أحكام الحديث:
شرعيةُ سؤال العلماء عمَّا يحدث من الوقائع، وجوابُ السائل، والله أعلم.