الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أمِرتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الجَبْهَةِ -وَأَشارَ بِيَدِه إلى أَنْفِهِ-، واليَدَيْنِ، والرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ القَدَمَيْنِ"(1).
أما ابن عباس، فتقدم الكلام عليه.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أسجدَ على سبعةِ أعظُم":
فالآمر له صلى الله عليه وسلم: هو الله تعالى؛ بواسطة جبريل صلى الله عليه وسلم، وبالإلهام، وبغير ذلك من الطرق؛ كالرؤيا، والأمرُ يقتضي الوجوب.
وسمَّى الجبهةَ، واليدين، والركبتين، وأطرافَ القدمين: أعظمًا، وإن كانت مشتملةً على غيرها، وعلى أكثرَ من سبعةِ عظام؛ مجازًا، من باب تسمية الجملة باسم بعضها، وأراد صلى الله عليه وسلم الأعضاءَ.
ثمَّ ظاهر الحديث دال على: وجوب السجود على هذه الأعضاء:
أما الجبهة: فهي التي يكتنفها الجبينان، والسجودُ عليها واجب عينًا؛ عند الشافعي، ومالك، وجمهور العلماء، والسجودُ على الأنف: مستحبٌّ.
وأوجبَ السجودَ عليهما: أحمدُ، وابنُ حبيب المالكيُّ.
وقال أبو حنيفة، وابن القاسم من أصحاب مالك: هما واجبان على البدل؛ على أيهما اقتصر أجزأه.
ولم يختلف قول الشافعي؛ في وجوب السجود على الجبهة، واختلف قوله؛ في وجوب السجود على اليدين، والركبتين، والقدمين؛ على قولين: الراجح عنده، وعندَ أكثرِ أصحابه: الوجوبُ، ورجح بعضُ أصحابه: عدمَ الوجوب، وأجمعوا على استحباب السجود عليها.
(1) رواه البخاري (779)، كتاب: صفة الصلاة، باب: السجود على الأنف، ومسلم (490)، كتاب: الصلاة، باب: أعضاء السجود.
فإذا قلنا بالوجوب؛ فلو أخلَّ بعضو منها: لم تصح صلاته.
واستدل من قال بعدم الوجوب: بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رفاعة رضي الله عنه: ثمَّ سجد فمكن جبهته (1)؛ وهذا غلبة دلالة مفهوم لقب، أو غاية، ودلالةُ المنطوق على وجوب السجود على الأعضاء المذكورة مقدمٌ عليه.
وليس هذا من باب تخصيص العموم بالمفهوم؛ في قوله صلى الله عليه وسلم: "جُعِلَتْ ليَ الأرضُ مسجِدًا، وطَهورًا"(2)، مع الزيادة المنقولة من جماعة من الثقات:"وتربتُها طَهورًا"(3)؛ فإنَّه يُعمل بها؛ لما يلزم من العمل بالعموم، والمفهوم بخلاف هذا؛ فإنا إذا قدمنا دلالة المفهوم فيه، أسقطنا الدلالة على وجوب السجود على هذه الأعضاء الستة: اليدين، والركبتين، والقدمين؛ مع تناول اللفظ لها بخصوصها.
وأضعف من هذا: ما استدل به على عدم الوجوب؛ من إضافة السجود إلى الوجه، في قوله صلى الله عليه وسلم:"سجدَ وجهي للذي خلقَهُ"(4)؛ حيث لا يلزم من الإضافة إليه، انحصارُ السجود فيه.
وأضعفُ منه: الاستدلالُ بأن مسمَّى السجود يحصل بوضع الجبهة؛ فإن الحديث يدل على إثبات زيادة في المسمى، فلا يترك.
وأضعفُ منه: المعارضةُ بقياس شبهي؛ ليس بقول، مثل أن يقال: أعضاء الوضوء لا يجب كشفُها، فلا يجبُ وضعها؛ كغيرها من الأعضاء، سوى الجبهة.
فالقول بالوجوب راجح؛ نقلًا ودليلًا.
(1) رواه أبو داود (858)، كتاب: الصلاة، باب: صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، والنسائي (1136)، كتاب: الصلاة، باب: الرخصة في ترك الذكر في السجود، والحاكم في "المستدرك"(881)، والبيهقيُّ في "السنن الكبرى"(2/ 102).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
رواه مسلم (771)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
واستدل لأبي حنيفة، ومن قال بقوله: في الاكتفاء بالسجود على الأنف، وأنه أيهما سجد عليه؛ من الجبهة، والأنف، أجزأه: برواية في بعض طرق حديث ابن عباس هذا: "الجبهة والأنف"(1)، وفي الرواية التي ذكرها المصنف في الكتاب:"وأشارَ بيدِه إلى أنفِه"؛ فيحتمل أن معناه: أنهما جعلا كالعضو، ويكون الأنف كالتبع للجبهة، وقوي هذا الاحتمال بوجهين:
أحدهما: لو كان الأنف كعضو منفرد عن الجبهة حكمًا، لكانت الأعضاء المأمور بالسجود عليها، ثمانية لا سبعة؛ فيخرج الحديث عن مطابقة العدد المذكور فيه.
الثاني: اختلاف عبارة الحديث؛ في ذكره لفظًا، أو إشارةً؛ فإذا جعلا كعضو واحد، أمكن أن تكون الإشارة إلى أحدهما، إشارةً إلى الآخر؛ فتتطابق الإشارة والعبارة، وحينئذ ربما يستبيح منه إجزاء السجود على الأنف وحده؛ لأنهما كعضو واحد، فإذا سجد على بعضه، أجزأه.
لكن الحق أن هذا لا يعارض رواية التصريح بذكرهما، ودخولهما تحت الأمر، وإن اعتقد أنهما كعضو من حيث العدد؛ فهو في التسمية لفظًا، لا في الحكم الدال عليه الأمر، مع أن الإشارة لا تعين المشار إليه، بل قد تتعلق بالجبهة؛ فتكون الإشارة إلى ما قاربه، لا إليه يقينًا، بخلاف اللفظ؛ فإنه يتعين لما وضع له.
ثمَّ المراد باليدين المأمور بالسجود عليهما: الكفان، واعتقد قوم: أن مطلق اليدين، يحمل عليهما؛ كما في قوله تعالى:{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، واستنتجوا من ذلك: أن التيمم إلى الكوعين؛ كما تقدم، وبالجملة إن اتضح هذا، أم لم يتضح؛ فالمراد هنا: الكفان؛ لأنا لو حملنا الحديث على الكفين، والذراع، لكان أمرًا بالمنهي عنه؛ من افتراش الكلب، أو السبع؛ وهو مستحيل أن يكون الشيء الواحد مأمورًا به، منهيًا عنه.
(1) انظر: "سنن الدارقطني"(1/ 348)، و"الدراية" لابن حجر (1/ 144 - 145).
ثمَّ المراد بالكفين: الراحة، والأصابع، من غير اشتراط جمعها، بل يكفي أحدهما؛ فلو سجد على ظهر الكف: لم يكفه؛ هكذا ذكره بعض أصحاب الشافعي المصنفين.
ولم يختلف قولهم؛ في أنه لا يجب كشف الركبتين في السجود، ومباشرة المصلي بهما، بل يكفي وضعهما؛ لما يلزم منه من كشف العورة؛ وهو منهي عنه.
وأما القدمان: فلا يجب كشفهما -أيضًا-؛ لأن الشَّارع وقَّتَ المسحَ على الخفين بمدة تقع فيها الصلاة مع الخف، فلو وجب كشفهما؛ لوجب نزع الخف، وبطلت طهارتهما، أو كل الطهارة، وبطلت الصلاة؛ وهذا باطل، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في الخفين؛ في غير حديث.
وأما الكفان: ففي كشفهما قولان للشافعي مترددان: بين الجبهة؛ فيجب كشفهما، وبين الركبتين، والقدمين؛ فلا يجب، وأصحهما عند المحققين: عدم الوجوب، مع اتفاقهم على تأكد استحبابه.
مع أن لفظ الحديث لا يدل على وجوب كشف شيء من الأعضاء السبعة؛ بل يدل على: وجوب الوضع على الأرض؛ فمن وضعها، فقد خرج عن العهدة، وأتى بما أمر به؛ فيكفي مسمى السجود: بالوضع، والزائدُ عليه: خلافُ الأصل، فهل يُضم الزائد إلى فعل المأمور به؛ فيجعل علة للإجزاء، أو جزء علة؟! فيه نظران، والله أعلم.
مع أن للشافعي، في وضع ما عدا الجبهة على الأرض؛ قولين، أصحهما: الوجوب؛ للحديث، وعللوا عدم وجوب وضعها: بأنه ليس بأصل؛ لمطلوب السجود عليها، وإنما هو للتبعية للسجود على الجبهة، وإذا وجب الشيء للتبعية والتمكين، لا يلزم منه الوجوب بالأصالة؛ ولهذا لو زوحم عن السجود على الأعضاء المذكورة، وأمكنه السجود على الجبهة: صح سجوده، والصلاة به.
والجواب عن هذا: أنه لا يلزم من صحة الصلاة، بالاقتصار على الجبهة في