الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما قولُه: ويحتمل أن يريد به ابتداء الدخول، فهو غيرُ صحيح، مع التصريح في رواية البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أرادَ دخولَ الخلاء، قال -والله أعلم-.
وفي هذا الحديث دليلٌ: على مراقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه، ومحافظتِه على ضبط أوقاتِه وحالاتِه، واستعاذتِه عندما ينبغي أَنْ يُستعاذَ منه، ونطقِه بما ينبغي أَنْ ينطقَ به، وسكوته عندما ينبغي أَنْ يسكتَ عنده، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال:" غُفْرَانَكَ"(1)؛ أيْ: أسألك غفرانَك على حالةٍ شَغَلَتْني عن ذكرِك.
وفيه: شرعيَّةُ هذا الذكر عند إرادة دخول الخلاء، وهو متَّفق عليه.
وفيه: ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ضبط أموره صلى الله عليه وسلم، وأحواله، وأقواله، وأفعاله، وأذكاره، وغير ذلك رضي الله عنهم أجمعين.
* * *
الحديث الثّاني
عن أبي أَيُّوبَ الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذَا أتيْتُمُ الْغَائِطَ، فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ، وَلَا تَسْتدبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غرِّبوُا" قال أبو أيوب: فَقَدِمْنا الشَّام، فوجدنا مراحيضَ قد بُنيت نحوَ الكعبة، فننحرفُ عنها، ونستغفرُ الله تعالى (2).
الغائطُ: الموضعُ (3) المُطْمَئِنُّ من الأرض، كانوا ينتابونه للحاجة، فكنَّوا به
(1) رواه أبو داود (30)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا خرج من الخلاء، والترمذي (7)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول إذا خرج من الخلاء، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (300)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول إذا خرج من الخلاء، والإمام أحمد في "المسند"(6/ 155)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
رواه البخاري (386)، كتاب: الصلاة، باب: قبلة أهل المدينة وأهل الشام، ومسلم (264)، كتاب: الطهارة، باب: الاستطابة.
(3)
"الموضع": ليس في "ح".
عن نفس الحدث؛ كراهيةً لذكره بخاصِّ اسمه، والمراحيضُ: جمع المِرْحاض، وهو المغتسَل، وهو -أيضًا- كنايةٌ عن موضع التَّخَلِّي.
أمَّا أبو أَيُّوب، فاسمه: خالدُ بنُ زيدِ بنِ كُليبِ بنِ ثعلبةَ، الخزرجي، نَجَّاريٌّ، شهد بدرًا والمشاهدَ كلِّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد العقبةَ الثانيةَ، وبايع -أيضًا-، ونزل عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين قدمَ المدينةَ شهرًا حتى بُنيت مساكنُه ومسجدُه، وقال أبو أيوبَ: لمَّا نزلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، نزل في السُّفْل، وأنا وأمُّ أيُّوبَ في العُلْوِ، قال: فقلت له: بأبي أنتَ وأُمِّي! إنِّي أكره وأُعْظِمُ أَنْ أكونَ فوقَك وتكونَ تحتي، فكنْ أنتَ في العلوِ، وننزلُ نحن فنكون في السفْل، قالَ:"يا أَبا أيوبَ! إنَّ أَرْفَقَ بِنا وَبِمَنْ يَغْشَانَا أَنْ نَكُونَ في أَسْفَلِ البَيْتِ"، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سُفْله، وكنا فوقَه في المسكن، فلقد انكسر جُبٌّ لنا فيه ماءٌ، فقمت أنا وأمُّ أيوبَ بقَطيفةٍ لنا ما لنا لحافٌ غيرها ننشِّفُ بها الماءَ؛ خوفًا أَنْ يقطرَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم شيءٌ (1).
ولمَّا تُحُدِّث في الإفك، وقالت له أمُّ أيوب: ألم تسمعْ ما يتحدث به النَّاس؟ وأخبرته، فقال رضي الله عنه: ما يكونُ لنا أَنْ نتكلمَ بهذا -سبحانَ الله- هذا بهتانٌ عظيمٌ، فأنزل الله الآية:{وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} [النور: 16] إلى آخرها (2).
رُوِيَ له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مئةٌ وخمسونَ حديثًا، اتَّفق البخاري ومسلمٌ منها على سبعةٍ، وانفرد البخاري بحديثٍ واحدٍ، ومسلمٌ بخمسةٍ.
رَوَىَ عنه: البراءُ بنُ عازبٍ، وجابرُ بنُ سَمُرَةَ، والمقدادُ بنُ معدي كَرِب، وأبو أمامةَ الباهلي، وزيدُ بنُ خالدِ الجهني، وعبدُ الله بنُ عبَّاسٍ، وعبدُ الله بنُ يزيدَ الخطميُّ رضي الله عنهم أجمعين-، وخلقٌ كثيرٌ من التَّابعين.
(1) رواه ابن أبي عاصم في: "الآحاد والمثاني"(1886)، والطبراني في "المعجم الكبير"(3855)، والحاكم في "المستدرك"(5939)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(16/ 43).
(2)
رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده"(1698)، والطبراني في "المعجم الكبير"(23/ 76)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (16/ 48). وانظر:"الدر المنثور" للسيوطي (6/ 160).
ماتَ بأرضِ الرُّوم غازيًا سنة اثنتين، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل: سنة خمسين زمن معاوية.
وروى ابن سيرين: أنَّه غزا زمنَ معاوية، فمرضَ، فقال لهم: قَدِّموني في أرض الرُّوم ما استطعتم (1).
وروى المدائنيُّ: أنَّه دخلَ عليه يزيدُ بنُ معاويةَ، فقال: ما حاجتُك؟ قال: تُعَمِّقُ قبري وتُوَسِّعُه (2).
وقال أبو حاتم بن حِبان البُسْتِي رحمه الله: إنَّ أبا أيُّوبَ قالَ لهم: إذا أنا مِتُّ فقدموني في بلاد الرُّوم ما استطعتم، ثمَّ ادفنوني، فماتَ، وكانَ المسلمون على حصارِ القسطنطينية، فقدَّموه حتَّى دفنَ إلى جانبِ حائطِها.
روى له أصحاب الكتب السِّتة، وغيرُهم (3).
وأمَّا قوله: "الأنصاريُّ"، فهي نسبة إلى الأنصار، واحدهم نصير؛ كشريف وأشراف، وقيل: ناصر؛ كصاحب وأصحاب، وهم قبيلتان: الخزرج والأوْس، والخزرج أشرفُهما؛ لكونِ أَخْوالِ النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وهو وصفٌ لهم إسلاميٌّ.
روى البخاريُّ في "صحيحه"، عن غَيْلَانَ بنِ جريرٍ، قال: قلتُ لأنسِ بنِ مالك رضي الله عنه: أرأيتَ اسمَ الأنصارِ، أكنتم تُسَمُّون به، أم سمَّاكم الله تعالى به؟ قال: بل سَمَّانا الله تعالى (4).
(1) رواه البخاري في "التاريخ الأوسط"(1/ 125).
(2)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(16/ 60).
(3)
وانظر ترجمته في "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 484)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 102)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 424)، و"تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (1/ 153)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (16/ 33)، و "صفة الصفوة" لابن الجوزي، (1/ 468)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 22)، و "تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 469)، و"تهذيب الكمال" للمزي (8/ 66)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 402)، و "البداية والنهاية" لابن كثير (8/ 58)، و "الوافي بالوفيات" للصفدي (10/ 37)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 234)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 79).
(4)
رواه البخاري (3565)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب الأنصار.
واعلم أن الخزرج والأوس هما ابنا حارثةَ بنِ ثعلبةَ العنقاء بنِ عمرِو مزيقياء بنِ عامرِ ماءِ السماء بنِ حارثةَ الغطريفِ بنِ امرئِ القيسِ بنِ ثعلبةَ بنِ مازنِ بنِ الأزدِ بنِ الغوث بن نَبْتِ بنِ مالكِ بنِ زيدِ بنِ كهلانَ بنِ سبأ بنِ يشجبَ بنِ يعربَ بنِ قحطانَ بنِ عامرِ بنِ شالخِ بنِ أرفخشذَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ صلى الله عليه وسلم.
وقحطانُ أصلُ العرب، وهو يقطن، وقيل: يَقْظَانَ، وسمّي قحطانَ؛ لأنه كان أولَ مَنْ تجبَّر وظلمَ وقحطَ أموالَ الناس من ملوك العرب -والله أعلم-.
وأمَّا ألفاظُه:
فقد ذكر المصنف الغائطَ والمراحيضَ، والشَّأم مهموزٌ، ويجوز تسهيلُه، ويقال: الشآم -بالمد- في لغة قليلة، وهو مذكَّر، وقد يؤنثُ، فيقال: الشامُ مباركٌ ومباركة، وسمِّي به لأن سامَ بنَ نوح سكنه أولًا، فَعُرِّبَ بالشين، وقيل: لكثرة قراه، ودنوِّ بعضِها من بعض؛ كالشَّامات، وقيل: لأن بابَ الكعبة مستقبلٌ مَطْلِعَ الشَّمس، فمن استقبلَه كان اليمنُ عن يمينه، والشَّام عن شماله، وهي الشُّومى، فسمِّيا بذلك، وحَدُّهُ في الطول من العريش إلى الفرات، وقيل: إلى بالس، وفي العرض، قال السمْعَاني: هو بلاد بين الجزيرة والغور إلى السَّاحل، وهو أفضلُ البقاع بعد مكة والمدينة، وقد بارك الله تعالى فيه -والله أعلم-.
وقوله: "قَدْ بُنِيَتْ": يعني: في الجاهلية، وبناؤها نحو الكعبة ليس قصدًا لها، ولا لقبلة أهل الشام إذْ ذاكَ، وهي بيتُ المقدس، وإنما هو مجرد جهل ومُصادفة.
والمراد بالقبلةِ المنهيِّ عن استقبالِها واستدبارِها: الكعبةُ، فعلى هذا يكون الألف واللام فيها للعهد، ولا يجوزُ أَنْ تكونَ للجنس، وإن كان وردَ النهيُ عن استقبالِ بيتِ المقدسِ في "سنن أبي داود" وابن ماجَهْ، و"مسند أحمد بنِ حنبل"، من رواية مَعْقِلِ بنِ أبي معقل الأسدي رضي الله عنه، بإسناد حسن؛ لأن النَّهي فيه إنما هو في استقباله فقط، ولفظُه: نَهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نستقبلَ القبلتين ببولٍ أو بغائطٍ (1)، ولأن القبلةَ عندَ الإطلاقِ تُصرَفُ إلى الكعبة في
(1) رواه أبو داود (10)، كتاب: الطهارة، باب: كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، وابن=
شرعنا، لا على القبلة المنسوخة، ولأن النهي في الكعبة عن الاستقبال والاستدبار في محلِّه على ما فيه من الخلاف، وسيأتي، فلا يجوز أن تكون للجنس في القبلتين، بل للعهد، والله أعلم، ثم إنّ النهي في استقبال الكعبة واستدبارها للتحريم في الصحراء والبنيان، وهو قولُ أبي أيوبَ الأنصاري راوي هذا الحديث، ومجاهد، وإبراهيم والنخعي التابعيين، وسفيان الثوري، وأبي ثور، وأحمد في رواية، وهؤلاء حملوا النَّهي على العموم، وجعلوا العلَّة فيه للتَّعظيم والاحترام للقبلة؛ لأنَّه معنًى مناسبٌ، ورد النَّهي على وقفه، فتكون علَّةً له.
وقد رُويَ من حديثِ سُراقةَ بنِ مالك، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "إِذَا أتَى أَحَدُكُمُ البَرَازَ، فَلْيُكْرِمْ قِبْلَةَ الله عز وجل"(1)، وهذا ظاهر قوي في هذا التعليل، [فلا فرقَ فيه بين الصحراء والبُنيان](2)، ولو كان الحائلُ كافيًا في جوازه في البنيان، لكانَ في الصَّحراء [من](3) الجبال والأودية ما هو أكفى.
وفيه مذهب ثانٍ: أنهما جائزان مطلقًا، وهو قولُ: عروةَ بن الزبير، وربيعةَ الرَّأْيِ شيخِ مالك، وداودَ الظَّاهريِّ، ورأى هؤلاءِ حديثَ أبي أيوبَ منسوخًا، وزعموا أن ناسخَه حديثُ مجاهدٍ عن جابرٍ رضي الله عنه قال: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نستقبلَ القبلةَ ببولٍ، فرأيتُهُ قبلَ أن يُقبَضَ بعامٍ يستقبلُها، وهو حديثٌ حسنٌ بلا شكٍّ، رواه أبو داود، والتّرمذي، وابنُ ماجَهْ، والحاكمُ في "مستدركه"، وقال: صحيحٌ على شرطِ مسلمٍ (4)، والصَّوابُ أنه حسنٌ ليس على
= ماجه (319)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن استقبال القبلة بالغائط والبول، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 210).
(1)
رواه الخطابي في "غريب الحديث"(2/ 559)، وذكر الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 103): أن الطبري أخرجه في "تهذيب الآثار"، ونسبه ابن حجر في "تلخيص الحبير"(1/ 105)، إلى الدارمي.
(2)
ما بين معكوفين ليس في "ح".
(3)
ما بين معكوفين ليس في "ح".
(4)
رواه أبو داود (13)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في ذلك، والترمذي (9)، كتاب:=
شرط مسلم؛ لأنَّ أَبانَ بنَ صالحٍ أحدَ رُواته روى له البخاريُّ دون مسلم، ولا يجوزُ أن يقولَ: على شرط البخاري؛ لأن في إسناده محمدَ بنَ إسحاق، والبخاري لم يروِ له أصلًا ولا متابعةً، فتعين أَنْ يكونَ حسنًا، لكن استدلالَ هؤلاءِ به على النسخ ضعيفٌ فيهما، ولا يُصار إليه إلا بعدَ تعذر الجمع، والجمعُ ممكن كما سيأتي.
وفيه مذهبٌ ثالثٌ: أنه لا يجوزُ الاستقبالُ فيهما، ويجوزُ الاستدبارُ فيهما، وهو إحدى الرِّوايتين عن أبي حنيفة، وهو ضعيفٌ جدًّا، ويكفي في الرَّدِّ عليه حديثُ أبي أيوب هذا.
وفيه مذهبٌ رابع: وهو قول الجمهور، وبه قال مالكٌ والشّافعي، وأحمدُ -في إحدى الروايتين- أنه يَحْرُمُ استقبالُ القبلة في الصحراء بالبول والغائط، ولا يحرم ذلك في البنيان، وهو مرويٌّ عن العباس بنِ عبد المطلب، وابنِ عمرَ رضي الله عنهم، ورأى هؤلاءِ الجمعَ بين الأحاديث، وأنه لا يُصار إلى النسخ إلا بالتَّصريح به، أو بمعرفة تاريخه، وأن الجمع أولى من إلغاء بعضِ الأحاديث، واستدلُّوا بحديث ابنِ عمرَ الآتي، وبأحاديثَ أخر، ولِمَا في المنع في البنيان من المشقَّة والتكلُّف لترك القبلة، بخلاف الصحراء.
واعلمْ أن الغائطَ استُعمل في الخارج، وغلبَ على الحقيقة الوضعية، فصار حقيقةً عُرفيَّةً، لَكنْ لا يُقصدُ به إلا الخارجُ من الدُّبر فقط، ويقال: إنه يُقصَدُ به الخارج من القُبل والدُّبر كيفَ كانَ.
وقولهُ صلى الله عليه وسلم: "وَلكِنْ شَرِّقُوا أَو غَرِّبُوا" هذا الخطابُ لأهلِ المدينة ومَنْ في معناهم؛ كأهل الشَّام واليمنِ وغيرِهم ممَن قبلتُه على هذا [السَّمْتِ](1)، فأمَّا من كانت قبلتُه في جهة المشرق أو المغرب، فإنه يتيامنُ أو يتشاءمُ -والله أعلم-.
= الطهارة، باب: ما جاء في الرخصة في ذلك، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (325)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في ذلك في الكنيف، وإباحته دون الصحارى، والحاكم في "المستدرك"(552).
(1)
ما بين معكوفين ليس في "ح".
وقولُ أبي أيُّوبَ: فقدمنا الشَّامَ
…
إلى آخره، يدلُّ على أن للعموم صيغةً عندَ العربِ وأهلِ الشَّرع، على خلاف ما ذهب إليه بعضُ الأصوليِّين في ذلك، والمعني به استعمالُ صيغة العموم في بعض أفراده كما فعله الجمهور في حديث أبي أيوب هذا.
قال شيخنا أبو الفتح الحافظُ رحمه الله: أولع بعضُ أهل العصر وما يقربُ منهم (1) بأَنْ قالوا: صيغةُ العموم إذا وردتْ على الذوات مثلًا، أو على الأفعال، كانت عامَّة في ذلك، مطلقةً في الزَّمان والمكان، والأحوال والتَّعلقات، ثمَّ يقال: المطلق يكفي في العمل به صورة واحدة، فلا يكون حجَّة فيما عداه، وأكثروا من هذا السؤال فيما لا يُحصَى من ألفاظِ الكتاب والسُنَّة، وصار ذلك دَيْدَنًا لهم في الجدال، وهذا باطل عندنا، بل الواجبُ أنَّ ما دل على العموم في الذوات مثلًا يكون دالًّا على ثُبوت الحكم في كلِّ ذات تناولها اللفظ، ولا يخرجُ عنها ذات إلَّا بدليل يخصُّه، فمن أخرج شيئًا من تلك الذَّوات، فقد خالف مقتضى العموم، نعم يكفي في العمل المطلق مرَّةٌ؛ كما قالوه، ونحن لا نقول به في هذه المواضع من حيث الإطلاق، وإنما قلنا به من حيثُ المحافظةُ على ما تقتضيه صيغةُ العموم في كل ذات، فإن كان المطلق لا يقتضي العمل به في مرَّة مخالفة لمقتضى صيغة العموم، اكتفينا في العمل به مرَّةً واحدةً، مما يخالف مقتضى صيغة العموم، قلنا بالعموم محافظة على مقتضى صيغة الأمر، لا من حيثُ إن المطلق يعمُّ، مثال ذلك إذا قال: مَنْ دَخَلَ داري فأعطِه درهمًا، فمقتضى الصِّيغة العمومُ في كلِّ ذاتٍ صدقَ عليها أنَّها الدَّاخلة، فإذا قال قائل: هو مطلقٌ في الأزمان، فأَعملُ به في الذَّواتِ الدَّاخلة في أول النَّهار مثلًا، ولا أعملُ به في غير ذلك الوقت، لأنه مطلق في الزَّمان، وقد عملت به مرَّةً، فلا يلزمُ أَنْ أعملَ به أخرى؛ لعدمِ عمومِ المطلقِ.
قلنا له: لمَّا دلَّت الصيغةُ على العموم في كلِّ ذاتٍ دخلت الدَّار، ومن جملتها
(1) في "ح": "ومنهم".
الذوات الدَّاخلة في آخر النهار، فإذا أَخْرَجْتَ تلكَ الذَّواتِ، فقد أَخْرَجْتَ ما دلَّت الصيغةُ على دخوله، وهي كل ذات، وهذا الحديث أحد ما يُستدلُّ به على ما قلناه؛ فإن أبا أيوبَ من أهل اللسان والشَّرع، وقد استعمل قوله:"ولا تَسْتَقْبِلُوا وَلا تسْتدبِرُوا" عامًّا في الأماكن، وهو مطلقٌ فيها، وعلى ما قال هؤلاء المتأخِّرون لا يلزمُ منه العموم، وعلى ما قلناه يعمُّ؛ لأنه إذا خرج عنه بعض الأماكن، خالف صيغَة العموم في النَّهي عن الاستقبال والاستدبار. هذا آخرُ كلامه، وهو نفيس - والله أعلم - (1).
أمَّا استغفارُ أبي أيوبَ وأصحابه، فلأن مذهبَه تحريمُ الاستقبال في البنيان كما ذكرنا، ولا يتأتَّى له الانحراف الكاملُ في قعوده إلا بحسب إمكانه، فاستغفرَ احتياطًا، ولا يُظَنُّ به أنه كان يفعلُ ما يعتقد تحريمَه، وقيل: استغفارهم لبانيها، وفيه بُعدٌ من وجهين:
أحدهما: أن تعقيبَ الوصفِ للحكم بالفاء والعطف عليه يشعرُ بالعلِّيَّة، فالحكم: المنعُ من الجلوس إلى القبلة، والوصفُ: الانحرافُ المعقَّبُ بالفاء، والعطفُ عليه بالاستغفار.
الثاني: الظَّاهر أن المراحيض بناءُ الكفار في الجاهلية، فكيف يجوز الاستغفار لهم؟ مع أنَّه صلى الله عليه وسلم استأذَن ربه في الاستغفار لأمِّه، فلم يُؤذَنْ له، واعتذر في الكتاب العزيز عن استغفارِ إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه، وأنه تبرَّأ منه -والله أعلم-.
ويُحتَملُ: أَن استغفارَه لِمَنْ بناها من المسلمين جاهلًا على اعتقاده.
وقيل: استغفارُه من ذنوبه، فالذَّنبُ يُذَكِّرُ بالذَّنب، لكِن احتمالَ استغفارِه لِمَنْ بناها من المسلمين جاهلًا أو غالطًا أو ساهيا بعيدٌ جدًّا؛ لكونه غيرَ آثمٍ، إلا أَنْ يكونَ استغفرَ على مذهب أهل الورع والرُّتب العليَّة في نسبتهم التقصير إلى أنفسهم في التَّحفظ منه -والله أعلم-.
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام"(1/ 54 - 55).