الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب جامع
الحديث الأول
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ (1).
تقدم الكلام على اسم أبي قتادة ونسبه ونسبته.
وفي هذا الحديث مسائل:
الأولى: في حكم الركعتين عند دخول المسجد.
وقد نقل إجماع المسلمين على أنهما سنة.
وقال شيخنا أبو الفتح رحمه الله: وجمهور العلماء على عدم الوجوب لهما، ثم اختلفوا، فظاهر مذهب مالك: أنهما من النوافل، وقيل: إنهما من السنن، وهذا على اصطلاح المالكية في الفرق بين السنن والنوافل والفضائل، ونقل عن بعض الناس أنهما واجبان؛ تمسكًا بالنهي عن الجلوس قبل الركوع، وعلى الرواية الأخرى التي وردت بصيغة الأمر، ولا شك أن ظاهر الأمر الوجوب، وظاهر النهي التحريم، ومن أزالهما عن الظاهر، فهو يحتاج إلى الدليل، وهذا آخر كلامه (2).
(1) رواه البخاري (1110)، كتاب: التطوع، باب: ما جاء في التطوع مثنى مثنى، ومسلم (714)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تحية المسجد بركعتين.
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 48 - 49).
قلت: ولعل مراد الشيخ - رحمه الله تعالى - ببعض الناس المنقول عنه وجوبهما: داود وأصحابه؛ فإن القاضي عياضًا رحمه الله حكاه عنهم، لكن اصطلاح البخاري إذا قال: فقال بعض الناس: أنه الإمام أبو حنيفة، لكنه ليس مرادًا هنا؛ لأن المنقول عن أبي حنيفة استحبابهما، وكراهتهما في وقت النهي، وإن كان قال بوجوب الوتر، ونقل عن الحسن البصري وجوب ركعتي الفجر، لكن العلماء استدلوا على عدم الوجوب في غير الصلوات الخمس بقوله صلى الله عليه وسلم:"خمسُ صلواتٍ كتبهنَّ اللهُ على العباد"(1)، وقول السائل: هل عليَّ غيرُها؟ قال: "لا إلا أن تطوع"(2)، فحملوا بذلك صيغة الأمر على الندب في الوتر، وركعتي التحية، والفجر؛ لدلالة ما ذكرنا من حديث السائل، وكتب الخمس على العباد على عدم الوجوب في غيرها، لكن يشكل عليهم بإيجابهم الصلاة على الميت تمسكًا بصيغة الأمر.
الثانية: لا تكره صلاةُ التحية في وقت من أوقات كراهة إذا دخل المسجد، بل هي مستحبة مشروعة، وكرهها أبو حنيفة، والأوزاعي، والليث، وقال مالك: لا يركعهما في الأوقات المكروهة، وحكي وجه بالكراهة في مذهب الشافعي، وطريقة أخرى أن محل الخلاف بين العلماء فيهما إذا قصد الدخول في هذه الأوقات لأجل أن يصليهما فيها، أما إذا لم يقصد الدخول لفعلهما، فلا كراهة، وليس هو محل الخلاف، والمعروف من مذهب الشافعي رحمه الله وأصحابه: أنه يركعهما فيها، وأما ما حكاه القاضي عياض رحمه الله عن الشافعي رحمه الله في جواز صلاتهما بعد العصر ما لم تصفرَّ الشمس، وبعد الصبح ما لم تُسفر؛ إذ هي عنده من النوافل التي لا سبب لها، وإنما يمنع من هذه الأوقات ما لا سبب له، ويُقصد ابتداء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تَحَرَّوْا بصلاتِكم طلوعَ الشمسِ ولا غُروبَها"(3). انتهى ما حكاه عن الشافعي، فهو غير معروف في نقل
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه البخاري (558)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، =
أصحابه عنه على هذه الصورة، لكنه أقرب الأشياء إليه، خصوصا على ما حكيناه من الطريقة في مذهبه، وإن كان ليس هو بعينه.
واستدل من قال بكراهتهما: بنهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعدَ العصر حتى تغرب الشمس، وأجاب أصحاب الشافعي عن ذلك: بأن النهي إنما هو عما لا سبب لها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر ركعتين قضاء سنة الظهر، فخص وقت النهي، وصلى به ذات السبب، ولم يترك التحية في حال من الأحوال، بل أمر الَّذي دخل المسجد يومَ الجمعة وهو يخطب، فجلس، أن يقوم فيركع ركعتين، مع أن الصلاة في حال الخطبة ممنوع منها إلا التحية، فلو كانت التحية تُترك في حال من الأحوال، لتركت الآن؛ لأنه قعد، وهي مشروعة قبل القعود، ولأنه كان يجهل حكمها، ولأنه صلى الله عليه وسلم قطع خطبته، وكلمه، وأمره أن يصلي التحية، فلولا شدةُ الاهتمام بالتحية في جميع الأوقات، لما اهتم بها هذا الاهتمام، ولا شك أن الكلام في هذه المسألة مبني على مسألة أصولية، وهي ما إذا تعارض نصان، كلُّ واحد منهما بالنسبة إلى الآخر عامٌّ من وجه، خاصٌّ من وجه، وليس المعنى بالنصين هنا ما لا يحتمل التأويل، بل ما حكمه حكم النص في وجوب العمل؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: لا إذا دخلَ أحدُكم المسجدَ" الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاةَ بعدَ الصُّبح" (1) الحديث، فالأول خاصٌّ بالنسبة إلى صلاة التحية، عامٌّ بالنسبة إلى الأوقات، والثاني خاص بالنسبة إلى الأوقات، عامٌّ بالنسبة إلى الصلوات، فوقع الإشكال في هذه المسألة من هاهنا، وهي من أشكل مسائل الأصول، ولا بد من تحقيق ذلك، فنقول:
مدلولُ النص إن لم يتناول مدلولَ الآخر، ولا شيئًا منه، فهما كلفظ
= ومسلم (828)، كتاب: الصلاة، صلاة المسافرين وقصرها، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، عن ابن عمر رضي الله عنه.
(1)
رواه البخاري (561)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس، ومسلم (827)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
المشركين والمؤمنين مثلًا، وإن كان مدلول أحدهما يتناول كلَّ مدلول الآخر، فهما متساويان؛ كلفظة الإنسان والبشر مثلًا، وإن كان مدلول أحدهما يتناول كل مدلول الآخر، ويتناول غيرَه، فالمتناولُ له ولغيره عامٌّ من كل وجه بالنسبة إلى الآخر، والآخر خاصٌّ من كل وجه، وإن كان مدلولهما يجتمع في صورة، وينفرد كلُّ واحد منهما بصورة أو صور، وكل واحد منهما عام من وجه، خاص من وجه؛ كهذين الحديثين، فهو من هذا القبيل؛ فإنهما يجتمعان في صورة، وهي ما إذا دخل المسجد بعد الصبح أو العصر، وينفردان بأن توجد الصلاة في ذلك الوقت من غير دخول المسجد، أو دخوله في غير ذلك الوقت، فإذا وقع مثل هذا، فالإشكال قائم؛ لأن أحد الخصمين لو قال: لا تكره الصلاة عند دخول المسجد في هذه الأوقات؛ لأن هذا الحديث دل على جوازها عند دخول المسجد، وهو خاصٌّ بالنسبة إلى الحديث الأول المانعِ من الصلاةِ بعد الصبح، فخصّ قوله:"لا صلاةَ بعدَ الصبح" بقوله: "إذا دخلَ أحدُكم المسجدَ"، فلخصمه أن يقول: قوله: "إذا دخل أحدكم المسجد" عام بالنسبة إلى الأوقات، فخصّه بقوله:: "لا صلاة بعد الصبح"، فإن هذا الوقتَ أخصُّ من عموم الأوقات، فتحقق الإشكال، وذهب بعض المحققين في هذا إلى الوقف حتى يأتي بترجيح خارج بقرينة أو غيرها، فمن ادعى أحد هذا الحكمين من الجواز أو المنع، فعليه إبداء أمر زائد على مجرد الحديث، وقدمناه في جواب أصحاب الشافعي في هذه المسألة أولًا، والله أعلم.
الثالثة: إذا دخل المسجد بعد فعل ركعتي الفجر في بيته، هل يركع تحية المسجد؟
اختلف فيه قول مالك رحمه الله، وظاهر هذا الحديث يقتضي أنه يركعهما، وهو قول جمهور العلماء، واستدل من منع ركوعهما بحديث رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا صلاةَ بعدَ الفجر إلا ركعتي الفجر"(1)، وعارض به هذا
(1) رواه ابن حبان في "صحيحه"(1587)، عن حفصة رضي الله عنها بلفظ: كان رسول الله =
الحديث، وهو أضعف من المسألة الثانية؛ لضعف هذا الحديث، ولا بد من صحته وقوته في الصحة قوة تعارض الحديثين الأولين في المسألة قبلها؛ فإنهما صحيحان، ثم بعد التجاوز عن هذه المطالبة، وتقدير تسليم الصحة له يعود الأمر إلى تعارض أمرين كما ذكرنا، فيصير كل واحد عامًّا من وجه، خاصًّا من وجه، والله أعلم.
الرابعة: إذا دخل المسجد مجتازًا، هل يركعهما؟
حقق ذلك مالك.
قال شيخنا أبو الفتح رحمه الله: وعندي أن دلالة هذا الحديث لا تتناول هذه المسألة، فإنا إن نظرنا إلى صيغة النهي، فهو يتناول جلوسًا قبل الركوع، فإذا لم يحصل الجلوس أصلًا، لم يعقل النهي، وإن نظرنا إلى صيغة الأمر، فالأمر يوجد بركوع قبل جلوس، فإذا انتفيا معا، لم يخالف الأمر، والله أعلم (1).
الخامسة: ركعتا التحية مشروعة لكل مسجد يدخله:
لتناولِ لفظِ الحديث كل مسجد، وقد أخرجوا عنه المسجدَ الحرام، وجعلوا تحيته الطوافَ، وقد كره أبو حنيفة وأحمد ركعتي الطواف في أوقات النهي بمكة، فإن كان في تحية المسجد خلاف فيهما، فلمخالفهم أن يستدل بهذا الحديث، وإن لم يكن خلاف، فالسبب في ذلك النظر إلى المعنى، وهو أن المقصود افتتاح دخول المسجد بعبادة، وافتتاحُ دخول المسجد الحرام بالطواف عبادةٌ تحصل هذا المقصود، مع أن غيره من المساجد لا يشاركه فيها، فاجتمع فيه تحصيلُ المقصود معَ الاختصاص، كيف وهو الموجود من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في
= صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر، لا يصلي إلا ركعتي الفجر. وأصله في "الصحيحين"، فقد رواه البخاري (593)، كتاب: الأذان، باب: الأذان بعد الفجر، ومسلم (723)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتي سنة الفجر، عن حفصة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بدا الصبح، صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة.
(1)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 51).
حجته حين دخل المسجد، فابتدأ بالطواف؛ على ما تقتضيه الأحاديث، واستمر عليه العمل، وذلك أخص من عموم دخول المسجد، مع أنه يأتي بعد طوافه بركعتيه، فيكون ذلك جريًا على ظاهر اللفظ، ومشيًا على السنة، وتوفية للعمل بمقتضى الحديث، والله أعلم.
السادسة: ركعتا التحية هل تشرعان لمن صلى العيد في المسجد عند دخوله إليه؟
ظاهر لفظ هذا الحديث أنها تشرع، ونقل الإمام أبو بكر الشاشي رحمه الله في "حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء" (1) عن الشافعية: أنه يكره للإمام التنفل قبلها وبعدها، ولا يكره للمأموم، قال: وقال مالك وأحمد: يكره للمأموم أيضًا، وعن مالك رواية أخرى: أنه إذا صلى في المسجد، يجوز له التنفل، وقال أبو حنيفة والحسن: يكره له التنفل قبلها، ولا يكره بعدها، وقد جاء في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ قبلها ولا بعدها -يعني: صلاة العيد-، وهو حديث صحيح متفق عليه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل العيد في المسجد، ولا نقل ذلك، فلا معارضة بين الحديثين، إلا أن يقول قائل، أو يفهم فاهم: أن ترك الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها من سنتها من حيث هي هي، لا كونها واقعة في الصحراء ولا في المسجد، فحينئذ لم يبق أثر في ذلك الحكم، فيقع التعارض بين الصلاة عند دخول المسجد وعدم الصلاة قبل صلاة العيد في المسجد، غير أن ذلك القول أو الفهم يتوقف على أمر زائد وقرائن تشعر به، والله أعلم.
السابعة: هل تشرع التحية لمن تردد إلى المسجد وتكرر مرارًا كما مر مأمورًا به؟
فيه وجهان لأصحاب الشافعي: قال بعضهم: لا تشرع، وقاسه على من تكرر دخوله إلى مكة من الخطابين والفكاهين من غير إحرام، وفيه -أيضًا- اختلاف قول الشافعي، والحديث يقتضي تكرر الركوع بتكرر الدخول، وهذا القياس
(1) انظر: "حلية العلماء" لأبي بكر القفال الشاشي (2/ 255).