الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غيره صلى الله عليه وسلم علمُه به، وتقريره إياه، وجائز ألا يكون صلى الله عليه وسلم علم بصلاة معاذ بقومه؛ إذ لو علم، لأنكر، وهذا الاعتراض بعيد جدًّا؛ لما ذكرناه أولًا، وبما ثبت في "الصحيح": أنه صلى الله عليه وسلم علم بصلاته بشكوى قومه من التطويل عليهم، وغضبه صلى الله عليه وسلم لذلك، وتكرير قوله:"أَفَتَّانٌ أنْتَ يا مُعاذُ؟! "(1)، ولم يثبت صريحًا أنه صلى الله عليه وسلم منعه من الصلاة بقومه وإلزامه بالصلاة معه، بل خيره بين الصلاة معه، والتخفيف في صلاته بقومه، وبين تركِ صلاتهِ بقومه، والصلاةِ معه صلى الله عليه وسلم، لا أنه خيره بين الصلاة معه وتركِ الصلاة بقومه، وبين الصلاة بقومه وترك الصلاة معه، والله أعلم، ولهذا كان استدلال جمهور العلماء بحديث معاذ على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل، وعكسه؛ لأن المحذور إنما هو وقوع الاختلاف على الأئمة ظاهرًا، ولا اختلاف ظاهرًا هنا، واختلاف النيّات أمر باطن لا يظهر فيه كبير محذور، والاستدلالُ للمسائل العمليات إنما هو بما ظهر من الأفعال أو الأقوال أو التقريرات، لا بالمعتقدات المجوزات، والله أعلم.
* * *
الحديث السادس
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي شِدَّةِ الحَرِّ، فَإذَا لَمْ يَسْتَطعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ في الأَرْضِ، بَسَط ثَوْبَهُ، فَسَجَدَ عَلَيْهِ (2).
تقدم ذكر أنس رضي الله عنه.
وقوله: "كنا نصلِّي معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، هذا حكمه حكمُ المرفوع، بلا خلاف؛ إذ الظاهرُ تقريرُ النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وعلمُه به، ولهذا صرح أنس بالمعية في صلاتهم.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه البخاري (1150)، كتاب: العمل في الصلاة، باب: بسط الثوب في الصلاة للسجود، ومسلم (620)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر.
وقوله: "بسطَ ثوبَه فسجدَ عليه"، لا شكَّ أن الثوب لغة إنما هو غير المَخيط؛ كالرداء والإزار، وقد تطلق على المخيط؛ كالقميص وغيره، وقد فسر عمر رضي الله عنه الثوبين بالمخيط وغيره في قوله صلى الله عليه وسلم:"أَوَكُلُّكُمْ يجدُ ثوبينِ؟ "(1) حين سئل عن الصلاة في الثوب الواحد، فقال: هو إزار ورداء، أو إزارٌ وقميص، وغير ذلك، إذا ثبت هذا، فقول أنس:"بسط ثوبه"، يعمُّ ذلك [كل] ما يسمى ثوبًا، لكنه ليس فيه تعرض لاتصاله بلبس المصلي، أو بسطه منفصلًا عن لبسه، لكن الظاهر انفصاله عنه، فإنه إذا صلى على ثوب منفصل عن لبس المصلي، فإنه يجوز الصلاة عليه بلا خلاف، وإن كان متصلًا به، فإن كان المبسوط المصلَّى عليه يتحرك بحركة المصلي، لم يصحَّ الصلاة عليه، وإن لم يتحرك بحركته، صحت، فبسطُ الصحابة ثيابَهم لاتقاء الحر في الصلاة، محمولٌ على أنهم لم يكونوا لابسيها، ولو كانوا لابسيها، كانت محمولة على أنها لم تتحرك بحركتهم في الصلاة، والله أعلم.
وقد أجاز أبو حنيفة والجمهور السجودَ على طرف ثوبه المتصل به، ولم يجوزه الشافعي، وتأول الحديث على السجود على ثوبٍ منفصل عنه، وحمله الأصحاب على المتصل إذا لم يتحرك بحركته، والله أعلم.
وفي الحديث فوائدُ:
منها: أنه يقتضي تقديم الظهر في أول الوقت مع الحر، ولا شك أن ذلك صحيح إن قلنا: إن الإبراد رخصة، فيكون تقديمها سنة، والإبراد جائز، وإن قلنا: إن الإبراد عزيمة مسنونة، فقد ردد بعضهم القول في أن صلاتهم للظهر في أول الوقت في شدة الحر منسوخ، أو يكون على الرخصة.
قال شيخنا أبو الفتح رحمه الله: ويحتمل عندي عدم التعارض؛ لأنا إذا
(1) رواه البخاري (358)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في القميص والسراويل والتبّان والقباء، ومسلم (515)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.