الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في أول الوقت؛ لأن لفظه: "الصلاةُ على وقتها" و"الصلاةُ لوقتها"، وليس فيهما دليل لأفضلية الصلاة في أول الوقت، والله أعلم.
وأما الصبح: ففعلها في أول الوقت أفضلُ، وحديث:"أَسْفِروا بالفجر؛ فإنَّه أعظمُ للأجر"(1) -بتقدير ثبوته- لا يُعَدُّ معارضًا لأحاديث التبكير بها، مع أنه حمله على التبكير بالصبح، ويكون المراد بالإسفار: تيقنُ طلوعِ الفجر، ووضوحه، لا غلبة الضياء الظلمة.
وهو بعيد من حيث إن فعلها فعل تيقن طلوعه لا يجوز، فلا آخر فيه، ولفظةُ أفعل: تقتضي المشاركة في الأجر بقوله: "أعظم" مع رجحان أحد الطرفين حقيقة، وقد يرد أفعلُ التفضيل من غير اشتراك، وهو قليل، لكنه على وجه المجاز، فيُحمل الحديثُ عليه، ويرجح، وإن كان تأويلًا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تقديمها مغلِّسًا.
* * *
الحديث الرابع
عن أبي المِنْهَالِ سَيَّارِ بْنِ سَلامَةَ، قالَ: دَخَلْتُ أَنا وأَبِي عَلَى أَبي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبي: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي المَكْتُوبَةَ؟ فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الهَجِيرَ التي تَدْعُونَهَا الأُولَى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، ويُصَلِّي العَصْرَ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنا إلَى رَحْلِهِ في أَقْصَى المَدِينَة؛ والشَّمْسُ حَيَّةٌ، ونَسِيتُ ما قَالَ في المَغْرِبِ، وكان يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنَ العِشَاء الَّتي تَدْعُونَها العَتْمَةَ، وكان يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، والحَدِيثَ بَعْدَهَا، وكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاة الغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ، وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسِّتينَ إلى المِئَة (2).
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه البخاري (522)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: وقت العصر، ومسلم (461)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الصبح والمغرب، وهذا لفظ البخاري.
وأما سيَّار:
فهو -بتقديم السين على الياء المشددة-، وقد يشتبه بيسار -بتقديم الياء على السين-.
وهو تابعيٌّ بصريٌّ رياحيٌّ، من بني رِياح -بكسر الراء، والياء المثناة- ابنِ يربوعِ بنِ حنظلةَ.
روى عنه: جماعة من التابعين، وغيرهم، وثَّقه ابنُ معين، وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث، روى له: البخاري، ومسلم.
مات سنة تسعٍ وعشرين ومئة، ذكر وفاته وتبعيته ابن حِبَّان في "ثقاته"(1).
وأما أبو بَرْزَة:
فهو -بفتح الباء الموحدة، وسكون الراء، وفتح الزاي، ثم الهاء الملفوظ بها تاء، في الوصل-، وقد يشتبه بأبي بُرْدَة صورة لا لفظًا -بضم الموحدة، وبالدال المهملة-.
ولهم في الأسماء: بُرْزة مثل الأول، إلا أنه بضم الباء؛ جد شيخ دمشقي، سمع من ابن ماكولا، اسمه: عبد الجبار بن عبد الله بن برزة أردسقاني، مولده سنة ثمان وسبعين وثلاث مئة بالرَّي.
واسم أبي برزة: نَضْلةُ بنُ عبيد -بفتح النون، وسكون الضاد-، هذا المشهور في اسمه، واسم أبيه، وقيل عكسه: عبيد بن نضلة، وقيل: نضلة بن عبد الله.
وحكى الحاكم أبو عبد الله في "التاريخ" عكسه: عبد الله بن نضلة، وقال: وقيل: كان اسمه نضلة بن نيار؛ فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله، وقال:"نيار شيطان".
(1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 160)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 254)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 335)، و"تهذيب الكمال" للمزي (34/ 323)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 255)، و"تقريب التهذيب" له أيضًا (تر: 2715).
أسلم قديمًا، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة.
رُويَ له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستةٌ وأربعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم: على حديثين، وانفرد البخاري: بحديثين، ومسلم: بأربعة.
روى عنه جماعة من التابعين، وروى له أصحاب السنن والمساند.
نزل البصرة، وغزا خراسان، وعاد إليها، واختلف في تاريخ وفاته، فالذي عليه الأكثر: أنه مات سنة ستين قبل موت معاوية، وقيل: سنة أربع وستين، واختلف في مكان وفاته؛ فالمشهور: بالبصرة، وقيل: بخراسان، وقيل: بنيسابور، وقيل: في مفازة بين سجستان وهَراة.
وأما نسبته: الأسلميُّ، فإلى جد من أجداده اسمه أسلم.
واسم جد أبي برزة: الحارثُ بن حبال بن أنس بن جَزِيمة -بفتح الجيم، وكسر الزاي- بنِ مالك بنِ سلامان بن أسلمَ بنِ أَفْصى -بالفاء- بن حارثة، والله أعلم (1).
وأما الهجير: فهو اسم من أسماء الظهر.
ويسمَّى: الأُولى؛ كما ذكر في الحديث، سميت أولى؛ لأنها أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخمس المكتوبة في إمامة جبريل صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح.
وتسميتها الهجير؛ لكونها تصلى -غالبًا- في وقت الهجير، والهاجرة؛ وهو شدَّة الحر وقوَّته كما تقدَّم، فتكون تسميتها به من باب حذف المضاف، وإقامة
(1) وانظر ترجمة أبي برزة في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 9)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 118)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 499)، و "الثقات" لابن حبان (3/ 419)، و "حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 32)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1495)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 182)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (62/ 83)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 305)، و"تهذيب الكمال" للمزي (29/ 407)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 40)، و"الإصابة في تميز الصحابة" لابن حجر (6/ 433)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (10/ 399).
المضاف إليه مقامه، تقديره: كان يصلي صلاة الهجير، ولا شك أن "كان" تقتضي الدوام -عرفًا-، وتشعر بالتكرار كما يقال: كان فلان يكرم الضيف، ويقاتل العدو: إذا كان ذلك دأبه وعادته.
والألف واللام في "المكتوبة"؛ للاستغراق، ولهذا أجاب بذكر الصلوات كلها؛ لأنه فهم من السائل العموم.
وقوله: "حِينَ تَدْحَضُ الشَّمسُ"؛ أي: تزول وتدحضُ -بفتح التاء، والحاء- يقال: دَحَضَتِ الشَّمسُ، تدحض: إذا زالت، وظاهر اللفظ يقتضي: وقوعَ صلاته صلى الله عليه وسلم للظهر عند الزوال؛ فلا بدَّ من تأويله.
وقد يتمسك به مَنْ يقول من أصحاب الشَّافعيِّ: إنَّ فضيلَة أول الوقت إنما تحصل بأن تقع شروط الصلاة متقدمة على دخول الوقت، وتكون الصلاة واقعة في أوله؛ بهذا الحديث، وهو ضعيف؛ إذ لا يمكن وقوع جميع الصلاة حين الزوال؛ لتعذره [ولانضاف أول جزء من الصلاة على أول جزء من الوقت عند الزوال لعسره](1).
ولهذا كان الصحيح في المذهب: أنه إذا اشتغل عقب دخول الوقت بأسباب الصلاة، وسعى إلى المسجد، وانتظر الجماعة، ولم يشتغل إلا بما يتعلق بالصلاة؛ كان مدركًا للفضيلة أولَ الوقت، ويشهد له فعل السلف، والخلف، ولم ينقل عن أحد منهم أنه كان يُشدد في إدراك فضيلة أول الوقت هذا التشديد العسر.
ومنهم من قال: تمتدُّ فضيلة أول الوقت إلى نصف وقت الاختيار؛ فإن النصفَ السابقَ من الشيء يُطلق عليه: أولُ بالنسبة إلى المتأخر.
وقوله: "والشَّمسُ حَيَّةٌ" فهو مجاز عن نقاء بياضها، وعدم مخالطة الصفرة لها، وتقدم في الحديث قبله.
وقوله: "وكانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنَ العِشاءِ"، لفظة "من" هنا: للتبعيض الذي حقيقته راجعة إلى الوقت، أو الفعل المتعلق بالوقت.
(1) ما بين معكوفين ساقط من "ش".
وقوله: "الَّتي يَدْعونَها العَتْمَةَ" هو إشارة إلى اختيار تسميتها بالعشاء؛ لموافقة الكتاب العزيز في قوله تعالى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58].
وقد ثبت النهي عن تسميتها بالعتمة، وثبت في "الصحيح" تسميتها بالعتمة، في قوله:"ولو يعلَمونَ ما في النداء والعَتْمَةِ"(1)، وثبت النهي:"لا تغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرابُ عَلى تَسْمِيَتِها العِشاءَ، يَقُولونَ: العَتْمَةَ"(2).
فلعل تسميتها بها؛ لبيان الجواز، أو لعل المكروه: أن يغلب عليها اسم العتمة؛ بحيث يكون اسم العشاء لها مهجورًا، أو كالمهجور، وقد أباح تسمية العشاء بالعتمة: أبو بكر، وابن عباس رضي الله عنهم.
والمعنى في النهي عن تسميتها بالعتمة؛ تنزيهًا لهذه الصلاة الشريفة الدينية، وأن يطلق عليها ما هو اسم لفعلة دنيوية؛ وهي الحلبة التي كانوا يحلبونها في ذلك الوقت، ويسمونها العتمةَ؛ ويشهدُ لهذا قوله صلى الله عليه وسلم:"وَإِنَّها تُعْتِمُ بِحِلابِ الإِبِلِ"(3).
والمقصود من النهي في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تَغْلبنكم الأعرابُ على اسمِ صلاتكم العشاء" في "صحيح مسلم"(4).
و"لا تَغلبنكم الأعرابُ على اسم صلاتكم المغرب"، في "صحيح البخاري"(5)؛ لأنهم كانوا يطلقون العشاء على المغرب.
(1) رواه البخاري (590)، كتاب: الأذان، باب: الاستهام في الأذان، ومسلم (437)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه ابن ماجه (705)، كتاب: الصلاة، باب: النهي أن يقال: صلاة العتمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه وانظر: تخريج الحديث الآتي عند مسلم.
(3)
انظر: تخريج الحديث الآتي.
(4)
رواه مسلم (644)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: وقت العشاء وتأخيرها، عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ:"لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء، فإنها في كتاب الله العشاءُ، وإنها تعتم بحلاب الإبل".
(5)
رواه البخاري (538)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من كره أن يقال للمغرب: العشاء، عن عبد الله المزني رضي الله عنه.
ألا تتبع الأعراب في تسميتهم هاتين الصلاتين بذلك؛ لأنهم لم يقيدوا بتسميتها، لا بما جاء في كتاب الله تعالى، ولا بما جاء في السنة كما ثبت في حديث جبريل عليه السلام، وغيره تسميتها بالمغرب، والله أعلم.
وقوله: "وكان يَكْرَهُ النَّوْمَ قبلَها"؛ لأنه قد يكون سببًا لنسيانها، أو تأخيرها عن وقتها المختار، وغيره.
وقد كرهه: عمر، وابنه، وابن عباس، وغيرهم من السلف، وبه قال مالك، وأصحاب الشَّافعيِّ.
وقال الطحاوي: يُرَخَّصُ فيهِ بشرط: أن يكون معه من يوقظه، وروي عن ابن عمر: مثلُه، والله أعلم (1).
وقوله: "والحديثَ بعدَها"؛ لأنه قد يقع فيه من اللغو واللغط ما لا ينبغي ختمُ اليقظةِ به، ولهذا شرع من الذكر عند النوم ما لا يشرع في غيره من الحالات.
وهذا إذا كان الحديث لا يتعلق بمصلحة شرعية؛ كالحديث في مصالح المسلمين، ومع الضيفان، ومؤانسة الضعفاء، والإخوان، ومذاكرة العلم، وقد بوب البخاري عليه:"باب: السمر بالعلم"(2)، وكذلك الحديث فيما تدعو إليه حاجة الناس، وقد صح: أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه بعد العشاء (3).
ثم المراد بكراهة الحديث بعد العشاء: بعدَ فعلها، لا بعدَ دخولِ وقتها، واتفق العلماء على كراهته، إلا ما كان في خير.
وقد تكون الحكمة في كراهة الحديث بعدها: ما جعله الله من كون الليل
(1) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 329).
(2)
انظر: "صحيح البخاري"(1/ 55).
(3)
وقد روى البخاري (116)، كتاب: العلم، باب: السمر في العلم، ومسلم (2537)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تأتي مئة سنة .. "، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال:"أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مئة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد".
سكنًا ليسكن فيه، فإذا نحدث فيه، فقد جعله كالنهار الذي هو متصرف المعاش، فكأنه قصد إلى مخالفة حكمة الله التي أجرى عليها وجوده.
وقيل: الحكمة فيه إراحةُ الكتبةِ، ولهذا كان بعض السلف يقول لأصحابه إذا أرادوا الحديث بعدها: أَريحوا الكتبةَ، والله أعلم.
وقوله: "وكَانَ يَنْفَتِلُ من صَلَاةِ الغَداةِ حيَن يَعْرِفُ الرَّجُل جَلِيسَه"؛ تقدم أنه يقال لصلاة الصبح: صلاة الغداة، بلا كراهة، ونقل عن بعض السلف: كراهته، وهذا الحديث يرد عليه.
ومعرفة الرجل جليسَه حين يسلم: هو نظره إلى وجهه، ولهذا قال في رواية في "صحيح مسلم": وكان ينصرف حين يعرف بعضُنا وجهَ بعض (1)، وهذا كله ظاهر في شدة التبكير.
وليس فيه مخالفةٌ لقوله في النساء في الحديث الثاني: "ما يعرفهن أحدٌ من الغَلَس"(2)؛ لأن هذا إخبارٌ عن رؤية جليسه، وذاك إخبار عن رؤية النساء عن بُعد، وقد تقدم أن الغلسَ قبل الغَبَش، فيمكن رؤيةُ الجليسِ مع الغبش في أوله، ولا يمكن مع الغلس.
وأما انفتاله صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أن يكون مراد الراوي به: السلام؛ أي: انفتل بوجهه للسلام، ويحتمل أن مراده: انفتل بجميع بدنه، وأقبل على المأمومين، ولا شك أن كِلَا الأمرين جائز، لكن اختلف العلماء أيهما أفضل؟
فَذهب الشَّافعيُّ، ومن وافقه، وتبعه: إلى أَنَّ بقاءَه مستقبلَ القبلة إن لم يرد الانصراف أفضلُ، خصوصًا إن جلس للذكر، والدعاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"خيرُ المجالسِ ما اسْتُقْبِلَ به القبلةُ"(3).
(1) رواه مسلم (647)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان"(2/ 35)، والديلمي في "مسند الفردوس"(2901)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(25/ 29)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
ولحثِّه صلى الله عليه وسلم على نوع من الذكر بعدَ الصبح وهو ثانٍ رجلَيه على هيئة الجلوس في الصلاة قبل أن يقوم، ولأنه أجمعُ للقلب، وأبعدُ عن شغله.
فيكون انفتالهُ صلى الله عليه وسلم أحدَ الاحتمالين؛ لبيان الجواز، أو محمولًا على حالة دعت إليه مصلحتها متعدية عامة.
وذهب أحمد بن حنبل، ومن وافقه: إلى أن انفتال الإمام إلى المأمومين بجميع بدنه عقب السلام أفضل، واستدل بأحاديث أخرى قال فيها: فلما سَلَّمَ، انْفتلَ، وأَقَبلَ على جُلَسَائِه.
والذي يقتضيه الجمعُ بين الأدلة أنه إن كانت المصلحة الشرعية في الاستقبال أكثر، كان أفضل، [وإن كانت في الانفتال إلى المأمومين أكثرَ، كانَ أفضلَ](1)، والله أعلم.
وقوله: "وكانَ يقرأ بالستينَ إلى المئةِ"؛ معناه: يقرأ قراءة مرتلة بالستين من الآيات إلى المئة منها، وفي ذلك مبالغة في التقديم في أول الوقت، والتطويل، لا سيما مع ترتيل قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليس هذا الحكم خاصًّا به صلى الله عليه وسلم، وبصحابته الذين كانوا يصلون وراءه، بل هو عام في جميع أمته، إمامُهم، ومأمومُهم، ومنفردُهم، إذا لم يكن عذر من مرض، أو كبر، أو ضعف، أو حاجة، أو صغر.
ولهذا ثبت في الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا أَمَّ أَحَدُكُمُ النَّاسَ، فَلْيُخَفِّفْ؛ فإن منهم الكبيرَ، والضعيفَ، وذا الحاجةِ"(2)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إِني أَدْخلُ في الصلاة، وإني أُريدُ إطالَتَها، فَأسمعُ بكاءَ الصَّبِيِّ، فَأتَجَوَّزُ في صَلاتي كراهيةَ أَنْ أَشُقَّ على أُمه"(3).
وأحكام الحديث معلومة من شرحه، والله تعالى أعلم.
(1) ما بين معكوفين ساقط من "ش".
(2)
رواه البخاري (671)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء، ومسلم (467)، كاب: الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (678)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: من اختصر الصلاة عند بكاء الصبي، =