المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث السَّادس عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: - العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام لابن العطار - جـ ١

[ابن العطار]

فهرس الكتاب

- ‌المقدّمَة

- ‌ مصادر الكتاب:

- ‌ النسخ الخطية للكتاب:

- ‌ منهج التحقيق:

- ‌تَرْجَمَةُ المؤَلِّف

- ‌ اسمه ونسبه:

- ‌ ولادته ونشأته:

- ‌ تدريسُهُ وإفادتُهُ:

- ‌ شيوخه:

- ‌ آثاره العلمية:

- ‌ ثناء العلماء عليه:

- ‌ مرضه ووفاته:

- ‌ مصادر ترجمته:

- ‌كتاب الطَّهارة

- ‌الحديث الأوَّل

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثَّامن

- ‌الحديثُ التَّاسعُ

- ‌الحديث العاشر

- ‌باب الاستطابة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثّاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرَّابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السَّادس

- ‌باب السِّواك

- ‌الحديث الأوَّل

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب المسح على الخفين

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب في المَذْي وغيره

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب الجنابة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني والثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌باب التيمم

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌باب الحَيْض

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب المواقيت

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌باب فضل الجماعة ووجوبها

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب الأذان

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب استقبال القبلة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌باب الصُّفوف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب الإمامة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس، والسادس

- ‌باب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌باب وجوب الطُّمَأْنينة في الركوع والسجود

- ‌باب القراءة في الصَّلاة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب ترك الجهر بـ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- ‌باب سجود السَّهو

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌باب المرور بين يدَي المصلِّي

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب جامع

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

الفصل: ‌ ‌الحديث السَّادس عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ:

‌الحديث السَّادس

عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرَين فقالَ: "إنَّهُما لَيُعَذبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُما، فَكَانَ لا يَسْتنَزِهُ مِنَ البَوْلِ، وأَمَّا الآخَرُ، فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ"، فأخذَ جريدةً رطبةً، فشقها نصفين، فغرزَ في كل قبر واحدةً، فقالوا: يا رسولَ الله! لم فعلتَ هذا؟ قالَ: "لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُما مَا لَمْ ييبَسَا"(1).

أما عبدُ اللهِ بنُ عباسِ بنِ عبدِ المطلبِ، ابنُ عمِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فكنيتُه: أبو العباس، وهو أحدُ العبادلة الأربعة كما تقدم ذكرُه في الحديث قبله، كانَ يُقالُ له: الحَبْرُ، والبَحْرُ، دعا له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالحكمة والتَّفَقُّه في الدين وتعلم التأويل، فأخذ عنه الصحابة رضي الله عنهم ذلك.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: هو تَرْجُمانُ القرآن (2)، ودَعا له -أيضًا- صلى الله عليه وسلم فقال:"اللهُمَ بارِكْ فِيهِ وَانْشُرْ مِنْهُ، وَاجْعَلْهُ مِنْ عِبَادِكَ الصالحِينَ، اللهُمَّ زِدْهُ عِلْمًا وَفِقْها"(3)، قال أبو عمر: كلها أحاديثُ صِحاحٌ، قال: وقال مجاهدٌ عن ابن عباس: رأيتُ جبريلَ صلى الله عليه وسلم مرتين، ودعا لي بالحكمة مرتين (4).

وكان عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه يحبه ويُدنيه ويقربه ويُشاوره، ويقول: هو فتى الكُهول، له لسانٌ سؤول، وقلبٌ عَقول (5).

(1) رواه البخاري (213)، كتاب: الوضوء، باب: من الكبائر ألا يستتر من بوله، ومسلم (292)، كتاب: الطهارة، باب: الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه.

(2)

رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(2/ 366)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(32220)، والحاكم في "المستدرك"(6291)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(1/ 174).

(3)

ذكره بهذا السياق: ابن عبد البر في "الاستيعاب"(3/ 935). ورواه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ"(1/ 284) بلفظ: "اللهم آته الحكمة أو قال: اللهم زده علمًا.

(4)

رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(378)، والطبري في "تهذيب الآثار"(1/ 167)، والطبراني في "المعجم الكبير"(10615).

(5)

رواه عبد الرزاق في "المصنف"(8123)، والطبراني في "المعجم الكبير"(10620)،=

ص: 136

وقال القاسمُ بن محمد ومجاهد: ما سمعت فُتيا أحسنَ من فُتيا ابن عبَّاس، إلا أن يقولَ قائل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

وقال طاوس: أدركتُ خمسَ مئةٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكروا ابن عباس فخالفوه، لم يزلْ يقررهم حتى ينتهوا إلى قوله (2).

وقال يزيدُ بنُ الأصم: خرج مُعاوية حاجًّا معه ابنُ عباسِ، فكان لمعاوية موكب، ولابن عباسٍ موكب ممن يطلبُ العلم (3).

وقال مسروق: كنتُ إذا رأيتُ ابنَ عباس قلتُ: أجملُ الناس، فإذا تكلم، قلتُ: أفصحُ (4) الناس، وإذا تحدث، قلتُ: أعلمُ الناس (5).

وقال أبو وائل شقيق: خَطَبَنا ابنُ عباس وهو على الموسم، فافتتح سورةَ النور، فجعل يقرأ ويفسر، فجعلت أقول: ما رأيتُ ولا سمعتُ كلامَ رجلٍ مثله، لو سمعته فارس والرُّوم والتُّرك لأسلمت (6).

وقال عمرُو بنُ دينار: ما رأيت مجلسًا أجمعَ لكل خيرٍ من مجلس ابنِ عباس؛ الحلال والحرام والعربية والأنساب، وأحسبه قال: والشِّعر (7).

وقال عُبيدُ الله بنُ عباس: ما رأيتُ أحدًا كان أعلمَ بالسنة، ولا أجلدَ رأيًا، ولا أثقبَ نظرًا من ابن عباس (8)، ولقد كان عمرُ رضي الله عنه يُعِدُّه للمعضلات، مع اجتهادِ عمرَ ونظرِه للمسلمين.

= والحاكم في "المستدرك"(6298)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 318).

(1)

رواه الطبري في "تهذيب الآثار"(1/ 179)، وابن عبد البر في "الاستذكار"(8/ 386).

(2)

انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 935)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 351).

(3)

رواه عبد الله بن الإمام أحمد في "فضائل الصحابة"(2/ 983).

(4)

في "ح": "أفقه".

(5)

رواه الطبري في "تهذيب الآثار"(1/ 179)، وعبد الله بن الإمام أحمد في "فضائل الصحابة"(2/ 960)، لكن عن الأعمش.

(6)

رواه الحاكم في "المستدرك"(6290)، وعبد الله بن أحمد في "فضائل الصحابة"(2/ 980).

(7)

رواه عبد الله بن أحمد في "فضائل الصحابة"(2/ 954).

(8)

رواه عبد الله بن أحمد في "فضائل الصحابة"(2/ 971).

ص: 137

وقال القاسمُ بنُ محمدٍ: ما رأيت في مجلس ابنِ عباسٍ باطلًا قَطُّ، ولا سمعت قولًا أشبه بالسُّنة من فتواه، وكان أصحابُه يسمُّونه البحرَ، ويسمونه الحبرَ، وكان قد عَمِيَ في آخر عمره، ورُوي أنه رأى رجلًا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعرفه، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقالَ "أَرَأَيْتَهُ؟ "، قالَ: نَعَمْ، قالَ:"ذَاكَ جِبْرِيلُ، أمَّا إِنك سَتَفْقِدُ بَصَرَكَ"(1)، فعميَ بعدَ ذلكَ في آخرِ عمره، فقالَ:

إِنْ يَأخُذِ اللهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُما

فَفِي لِسَانِي وقَلْبِي مِنْهُما نُورُ

قَلْبِي ذَكِيٌّ وَعَقْلِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ

وَفي فَمِي صَارِمٌ كَالسيْفِ مَأثُورُ

وابنُ عباس من أكثرِ الصحابة حديثًا، رُوي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفُ حديثٍ، وست مئةِ حديثٍ، وستون حديثًا، اتَّفق البخاريُّ ومسلم على خمسة وتسعين، وانفردَ البخاريُّ بمئةٍ وعشرين، ومسلم بتسعةٍ وأربعين.

روى عنه جماعةٌ من الصحابة: عبدُ الله بنُ عمر، وأنسٌ، وأبو الطُّفيل عامرٌ، وثعلبةُ بنُ الحكم، وأبو أمامةَ بنُ سهل بنِ حُنيف، وخلق كثير من التابعين.

وروى عنه -أيضًا- أخوه كثيرُ بنُ العباس، وروى له أصحابُ المساند والسنن، وغيرُهم.

وُلد رضي الله عنه قبلَ الهجرة بثلاث سنين، وكان سنه يومَ ماتَ النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثَ عشرةَ سنةً، هذا هو الصحيح، وقيلَ غيرُ ذلك عن أحمدَ بنِ حنبلٍ وغيرِه.

ومات بالطَّائف سنةَ ثمانٍ وستين، ابنَ إحدى وسبعين سنةً على الصحيح، وقيلَ غيرُه، وصلى عليه محمدُ بنُ الحنفية، وقالَ: اليومَ ماتَ ربَّانيُّ هذه الأمة.

قال أبو حاتم بنُ حِبان: وقبرُه بالطَّائف مشهورٌ يُزار.

قالَ أبو عمرَ بنُ عبدِ البرِّ: ويُروى أن طائرًا أبيضَ خرجَ من قبره، فتأوَّلوه علمه خرج إلى الناس، ويُقال: بل دخلَ قبرَهُ طائرٌ أبيض، فقيلَ: إنه بصرُه في التأويل.

(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(10586)، بلفظ:"أما إنه سيذهب بصرك، ويرد عليك في موتك".

ص: 138

وروينا بإسنادنا إلى أبي الزبير، قال: مات ابنُ عباس بالطَّائف، فجاءَ طائرٌ أبيضُ، فدخل في نعشِه حين حُمل، فما رُئي خارجًا منه (1).

وله رضي الله عنه من الكلام في الحِكَمِ ما لم يُقَلْ مثلُه، قال رضي الله عنه: ما مِنْ مُؤمنٍ ولا فَاجر إلا وقد كتب الله رزقَه من الحلال، فإنْ صَبَرَ حتى يأتيَه، آتاه الله، وإنْ جزعَ فتناولَ شيئًا من الحرام، نقَّصَه الله من رزقِه من الحلال (2).

وعن بُرَيَدةَ قال: شتمَ رجلٌ ابنَ عباس فقال: إنَّك لتشتمني وفيَّ ثلاثُ خِصالٍ: إني لآتي على الآية من كتاب الله، فلوددْتُ أن جميعَ النَّاس يعلمون منها ما أعلم، وإني لأسمعُ بالحاكم من حُكَّام المسلمين يعدلُ في حكمِه، فأفرحُ به [وما لي به من سائمة](3)، ولعلي لا أقاضي إليه أبدًا، وإنِّي لأسمعُ بالغيثِ قد أصابَ البلدَ من بلاد المسلمين، فأفرحُ به وما لي بهِ من سائمة (4).

أمَّا ألفاظُه:

فقوله صلى الله عليه وسلم عند مروره بالقبرين: "إنهما لَيُعَذَّبانِ"؛ دليل على إثبات عذاب القبر؛ وهو مذهب أهل السنة، وهو مما يجب اعتقاد حقيقته، وهو مما نقلته

(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 365)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 3)، و"فضائل الصحابة" لعبد الله بن الامام أحمد (2/ 949)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 207)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 614)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 314)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 933)، و"تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (1/ 173)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (29/ 285)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 291)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 258)، و "تهذيب الكمال" للمزي (15/ 154)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 331)، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي أيضًا (1/ 40)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (8/ 295)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (17/ 121)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 141)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 242).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 326).

(3)

ما بين معكوفين ليس في "ح".

(4)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(10621)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 322).

ص: 139

الأمة متواترًا؛ فَمَنْ أنكرَ عذابَ القبر، أو نعيمَه، فهو كافرٌ؛ لأنه كذَّب الله تعالى، ورسولَه صلى الله عليه وسلم؛ في خبرهما.

ثمَّ إن في إضافة عذاب القبر إلى البول خصوصيةً، دون غيره من المعاصي؛ إن الله تعالى جعل ذلك في حقِّ بعض عباده؛ فإئه جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"تَنَزَّهُوا مِنَ البَوْلِ؛ فَإِن عَامَّةَ عَذَابِ القَبْرِ مِنْه"(1)، وجاء أن بعضهم ضمَّه القبر، أو ضغطه؛ فسئل أهله عنه، فذكروا: أنه كان منه تقصير في الطهور.

وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: "وما يُعَذَّبانِ في كَبِيرٍ"؛ ففيه تأويلات:

أحدُهَا: ليس بكبير عندكم، وهو عند الله كبير، ومعناه: أنه كبير في الذنوب، وإن كان صغيرًا عندكم، يدل عليه ما ثبت في البخاري:"بَلَى إِنهُ كَبيرٌ"(2)؛ أي: إنه كبير عند الله، مثل قوله تعالى:{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].

وثانيها: لا شك أن النميمةَ من الدَّناءات المستحقَرة؛ بالإضافة إلى المروءَة، وكذلك التلبس بالنجاسة؛ لا يفعلها إلا حقيرُ الهمَّةِ، فلعل قوله صلى الله عليه وسلم:"وما يُعَذَّبانِ في كَبِيرٍ"؛ إشارة إلى حقارتهما، بالنسبة إلى الذنوب.

وثالثها: أنه ليس بأكبر الكبائر، وإِنْ كانَ كبيرًا.

ورابعها: أنه ليس كبيرًا، في زعمهما، دون غيرهما.

وخامسها: أنه ليس كبيرًا تركُه عليهما؛ إذِ التنزهُ من البول، وتركُ النَّميمة لا يشق.

وقوله: "أما أَحَدُهُما فَكانَ لا يَستَتِرُ مِنْ بَوْلهِ"، اختلف في معنى لا يستتر؛ على وجهين (3):

(1) رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 127)، ومن طريقة ابن الجوزي في "التحقيق في أحاديث الخلاف"(1/ 325)، عن أنس رضي الله عنه. وفي الباب: عن ابن عباس، وأبي هريرة، وغيرهما.

(2)

تقدم تخريجه عند البخاري قريبًا.

(3)

في "ح": "قولين".

ص: 140

أحدهما -وهو الراجح-: أنه لا يستنزه من البول، وعليه حجابًا؛ من ماء، أو حجارة؛ فيكون مجازًا؛ لكونه عبَّر بالتستر بالماء، أو الأحجار، في إزالة النَّجو عن الاستتار عن الأعين (1) في كشف العورة، إذ هو حقيقة فيه؛ لما بين الحقيقة والمجاز هنا من العلاقة، وهي: أنَّ المستتر عن الشيء فيه بعد، واحتجاب عنه؛ وذلك تنبيه بالبعد عن ملامسة البول.

قال شيخنا القاضي أبو الفتح رحمه الله: ورجحنا المجاز، وإن كان الأصل الحقيقة؛ لوجهين:

أحدهما: لو كان المراد: العذاب على مجرد كشف العورة؛ لكان أمرًا خارجًا عن البول؛ لحصول العذاب على كشفها، وإن لم يكن [بول](2)، فتبقى خصوصية البول مطرحة عن الاعتبار، والحديث دال على خصوصية البول بعذاب القبر تصريحًا؛ فالحمل عليه أولى.

الثاني: أنَّ لفظة "من" من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ" حين أضيفت إليه؛ لابتداء الغاية حقيقة، أو مجازًا، المعنى ما يرجع إلى معنى ابتدائها، وهو أن عدم الاستتار بسبب العذاب إلى البول إذا هو ابتداء سببه من البول، وحمله على كشفها فقط، يزيل هذا المعنى (3).

ورواه أبو داود: "لا يَسْتنزِهُ مِنَ البَوْلِ"، وهو رواية لمسلم (4)، ورواه البخاري:"لا يَسْتبرِئُ مِنَ البَوْلِ"(5)؛ وكلها تقوِّي ترجيح الاستنزاه منه، لا الاستتار.

(1)"عن الأعين" ساقطة من "ح".

(2)

ما بين معكوفين ليس في "ح".

(3)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 62 - 63).

(4)

رواه أبو داود (20)، كتاب: الطهارة، باب: الاستبراء من البول، ومسلم (292)، كتاب: الطهارة، باب: الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه.

(5)

قلت: لم يروها البخاري في "صحيحه"، وقد نسبها الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(1/ 318) إلى ابن عساكر، وقد رواها من هو قبله؛ كالنسائي (2068)، كتاب: الجنائز، باب: وضع الجريدة على القبر، وابن أبي شيبة في "المصنف"(1304)، وغيرهما، والله أعلم.

ص: 141

ومعنى الاستبراء من البول، والاستنزاه منه: عدم اجتنابه، والتحرُّز منه؛ أي: لا يستفرغ بقيةَ بوله، وينقي موضعه ومجراه؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك، قد يخرج منه بعدَ الوضوء شيء، فينقضه، فيصلي بغير وضوء؛ ويكون الإثم فيه لأجل الصلاة.

ورُويَ: "يستتر" و"يستنثر" بالتاء المثناة، والمثلثة، وهما شاذتان، والله أعلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "وأمَّا الآخَرُ فكانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ"، النميمةُ: نقلُ كلام الناس بعضِهم إلى بعض، على جهة الإفساد؛ وهي المحرَّمة، أمَّا إذا كان فعله النميمة: في ترك مفسدة، أو دفع ضرر، أو إيصال خبر يتعلق بالغير؛ لم تكن محرمة، ولا مكروهة، بل قد تكون واجبة، أو مستحبة، كما نقول في الغيبة، إذا كانت نصيحة لدفع مفسدة، أو تحصيلِ مصلحة شرعية، ولو أن شخصًا اطَّلع من آخر على قولِ، يقتضي إيقاعَ ضرر بإنسان، وإذا نقل ذلك القول إليه، احترز عنه؛ وجب عليه ذكره له.

قال أهل اللغة: يقال: نمَّ الحديثَ، ينُمُّهُ، وينِمُّهُ -بالكسر والضم-، نَمًّا، فهو نَمَّام، والاسم: النميمة، ونمَّ الحديثُ: إذا ظهر؛ فهو لازمٌ، ومتعدٍّ (1).

والجريدة: السَّعْفَةُ، وجمعها: جريد، والعسيبُ من الجريد: ما لم ينبت عليه الخوصُ، وما نبت عليه؛ فهو: السعفُ.

وأما شقها نصفين، وغرز كل واحد على قبر، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لعَلهُ يُخَفَّفُ عَنهُما ما لَم ييبسا"، فلأن النباتَ يُسبِّح ما دامَ رطبًا، فإذا حصلَ التسبيح بحضرةِ الميت، حصلتْ له بركتُه بالتخفيف عنه؛ فلهذا اختص بحالةِ الرُّطوبة.

أو لأنه صلى الله عليه وسلم سأل الشفاعة لهما، ورجا إجابتَها، وارتفاعَ العذاب، أو تخفيفه عنهما مدَّةَ رطوبتهما؛ لبركة النبي صلى الله عليه وسلم.

(1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 119)، و"لسان العرب" لابن منظور (12/ 592)، و"المصباح المنير" للفيومي (2/ 626)، (مادة: نمم).

ص: 142

وقال الخطابي، وغيره: وليس ذلك من أجل أن في الجريد الرطب معنى ليس في اليابسِ، قال: والعوام في كثير من البلاد يجعل الخوص في قبور موتاهم، كأنهم ذهبوا إلى هذا، وليس لفعلهم وجهٌ، هذا آخر كلامه (1).

وقد ذكر البخاريُّ في "صحيحه": أنّ بُريدة بنَ الحصيبِ الصَّحابي رضي الله عنه أوصى: أن يجعل في قبره جريد (2)؛ فلعلَّه تبرك بفعل يُفْعَل مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

وقيل: لعله صلى الله عليه وسلم أوحي إليه بذلك، وقيل: بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو لهما مدة رطوبتهما.

واعلم أن العلماء اختلفوا في تسبيح اليابس:

فقال كثيرون، أو الأكثرون من المفسرين: لا يسبح، في قوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، قالوا معناه: وإن من شيء حي، ثمَّ قالوا: فحياة كل شيء بحسبه؛ فحياة الخشب ما لم ييبس، والحجر ما لم يقطع.

وذهب المحققون من المفسرين إلى أنه: على عمومه، ثمَّ اختلف هؤلاء؛ هل يسبح حقيقة، أم تسبيحه أن فيه دلالةً على الصَّانع؛ فيكون مسبحًا منزِّهًا، بصورة حاله.

والمحققون: على أنه يسبح حقيقة، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى:{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] فإذا كان العقل لا يحيل جعلَ التمييز فيها، وجاء النص به؛ وجبَ المصيرُ إليه.

واستحب العلماء من هذا الحديث: تلاوة القرآن عند القبر، قالوا: لأنه اذا

(1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 27).

(2)

رواه البخاري في "صحيحه"(1/ 457) معلقًا، ووصله ابن حجر في "تغليق التعليق" (2/ 492). ورواه موصولًا أيضًا: ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(7/ 8)، عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه.

ص: 143

كان الميت ينتفع بالتخفيف عنه بغرز الجريد الرطب، إمَّا بتسبيحه ما دام رطبًا، أو يابسًا؛ فتلاوة القرآن من الإنسان أولى.

وأمَّا أحكامُ الحديث، وفِقْهه:

ففيه: إثبات عذاب القبر.

وفيه: تحريم النَّميمة، وأنها من الكبائر، وقال بعضهم: ليست من الكبائر؛ فيكون العذاب عليها تنبيهًا على أن التعذيب بالكبائر أولى، وتحذيرًا من الذنوب مطلقًا.

وفيه: دليل على التنزه من النجاسات، أو وجوب ستر العورة، على حسب ما تقدَّم.

وفيه: دليل المذهب الشَّافعي، في نجاسة الأبوال كلها؛ لشمول البول بالألف واللام، وهو عام يتناول جميع الأبوال.

وفيه: جواز ذكر الموتى، إذا كان في ذكرهم بالمعاصي مصلحة؛ وهي: تنفير الناس عن فعلهم.

وفيه: جواز تعيينهم بالذكر، وأن هذا الحديث مخصص؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"اذْكُروا مَحَاسِنَ مَوْتاكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مَسَاؤِهمْ"(1)، ولا يجوز أن يقال: إن صاحبي القبر كانا كافرين، أو منافقين؛ لأنهما لو كانا كذلك، لم يدع لهما بما يُخفف العذاب، أو لم يَرْجُهُ لهما، ولو كان من خواصِّهِ في حقهما، لبيَّنَهُ، والله أعلم.

* * *

(1) رواه أبو داود (4900)، كتاب: الأدب، باب: في النهي عن سب الأموات، والترمذي (1019)، كتاب: الجنائز، باب:(34)، وابن حبان في "صحيحه"(3020)، والحاكم في "المستدرك"(1421)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 144