الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ترك الجهر بـ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبا بكرٍ، وَعُمَرَ رضي الله عنهما كَانُوا يفتتَحُونَ الصَّلَاةَ، بـ: الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. وفي رواية: صلَّيت مع أبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ولمسلم: صلَّيت خلف النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يفتتحون الصَّلاة بالحمد لله رب العالمين، لَا يَذكُرُونَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ؛ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ، وَلَا فِي آخِرِهَا (1).
قد تقدم الكلام على أنس، وعلى افتتاح الصَّلاة بـ: الحمد لله رب العالمين، وتأويله؛ فيما مضى، وأنه كان يبتدئ بالفاتحة، قبل السورة.
واعلم: أن القراء، والفقهاء من الصحابة، والتابعين، وهَلُمَّ جَرًّا؛ قد اختلفوا في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هل هي آية من الفاتحة، أم لا؟ وهل يجهر بها في الصَّلاة الجهرية، أم لا؟
مع اتفاقهم على: أنها ليست آية أول براءة، وعلى: أنها بعضُ آية في سورة النمل.
(1) رواه البُخاريّ (710)، كتاب: صفة الصَّلاة، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (399)، كتاب: الصَّلاة، باب: حجة من قال: لا يجهر بالبسملة، وهذا لفظ مسلم، إلَّا أن فيه:"يستفتحون بـ: الحمد لله رب العالمين .... " الحديث.
واختلفوا في: أنها آية من أول كل سورة، أو بعض آية، أو ليست بآية؛ على أوجه، وقد صنف فيها جماعة كتبًا من المتقدمين، والمتأخرين، المثبتين لها، والمخالفين، وفي الجهر بها.
ولا شك أنها ثابتة في رسم المصحف؛ أول الفاتحة، وكل سورة إلَّا براءة.
قال الشعبي: كان يكتب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الأمر؛ على رسم قريش: باسمك اللهم، حتى نزلت:{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} [هود: 41]، كتب: باسم الله، حتى نزلت:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110]، كتب: باسم الله الرحمن، حتى نزلت:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30]، كتب مثلها (1).
وأما من قال: إنها ليست من الفاتحة، ولا من غيرها من السور، قال: الافتتاح بها للتيمن والتبرك، ومن قال: بأنها من الفاتحة، وليست من سائر السور، قال: إنَّما كتبت للفصل.
وقال الثوري، وابن المبارك: هي آية من الفاتحة، ومن كل سورة، إلَّا سورة التوية.
واتفق العلماء على: أن الفاتحة سبع آيات:
فالآية الأولى عند من يعدها منها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وابتداء الآية الأخيرة:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، إلى آخرها.
ومن لم يعدها من الفاتحة، قال: ابتداؤها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وابتداء الآية الأخيرة:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} .
واحتج من جعلها من الفاتحة، ومن السور: بأنها كتبت في المصحف، بخطِّ القرآن.
(1) رواه ابن سعد في "الطقات الكبرى"(1/ 263)، وعبد الرَّزاق في "تفسيره"(3/ 81)، وأبو عبيد في "فضائل القرآن"(6/ 354 - الدر المنثور للسيوطي).
قال ابن عباس، وسعيد بن جبير:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الآية السابعة (1).
روى الدارقطني بإسناد صحيح؛ كلهم ثقات، من رواية أبي هريرة، مرفوعًا: الأمر بقراءتها في الفاتحة، وأنها آية منها؛ وكذلك روى بإسناد صحيح، ورجاله ثقات، عن أم سلمة؛ من فعله صلى الله عليه وسلم (2).
وقوله: "كانوا يفتتحونَ الصلاةَ، بـ: الحمدُ لله ربِّ العالمين":
الحمدُ: مرفوع الدال على الحكاية، وإن كان مجرورًا بالباء.
وقد استدل به، وبما بعده من الأحاديث؛ على عدم الجهر بالبسملة في الصَّلاة، وقد اختلف العلماء في ذلك؛ على ثلاثة مذاهب:
أحدها: ترك البسملة سرًّا وجهرًا؛ وهو مذهب مالك.
الثَّاني: قراءتها سرًّا، لا جهرًا؛ وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد.
والثالث: الجهر بها، فيما يجهر فيه؛ وهو مذهب الشافعي، وطوائف من السلف، والخلف.
والمتيقن من هذا الحديث؛ عدم الجهر، فأما الترك أصلًا؛ فمحتمل مع ظهوره في قوله:"لا يذكرون: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، في أول قراءة، ولا آخرها".
والأحاديث الواردة في قراءتها، والجهر بها في الصَّلاة؛ معتلٌّ أكثرُها، وبعضُها فيه ما يدل على قراءتها في الصَّلاة، إلَّا أنه ليس بصريح الدلالة على خصوص التسمية.
ومن صحيحها: حديث المعتمر بن سليمان: أنه كان يجهر بـ: بسم الله
(1) رواه الإمام الشافعي في "مسنده"(ص: 36)، وعبد الرَّزاق في "المصنف"(2609)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 200)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 44)، والحاكم في "المستدرك"(2022).
(2)
وقد تقدم تخريجه عند الدارقطني وغيره.
الرحمن الرحيم؛ قبل فاتحة الكتاب، وبعدها، ويقول: ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي، وقال أبي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس، وقال أنس: ما آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه الحاكم أبو عبد الله، وقال: رواة هذا الحديث كلهم ثقات (1).
ومن صحيحها -أيضًا-: حديث نعيم بن عبد الله المجمر قال: كنت وراء أبي هريرة، فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثم قرأ بأُمِّ القرآن، حتَّى بلغ: ولا الضالين، ثم قال: آمين، وقال النَّاس: آمين، ويقول كما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس: الله أكبر، ويقول إذا سلم: والذي نفسي بيده! إنِّي لأشبهُكم صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه الدارقطني، بأسانيد كل رجالها ثقات (2).
ومن صحيحها ما رواه الدارقطني بإسناد كلهم ثقات:
عن أنس رضي الله عنه قال: صلَّى معاويةُ بالمدينة صلاة، فجهر فيها بالقراءة؛ فلم يقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لأم القرآن، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها، ولم يكبر حتَّى يهوي، حتَّى قضى تلك الصَّلاة، فلما سلم، ناداه من سمع ذلك من المهاجرين، والأنصار، من كل مكان: يا معاوية! أسرقت الصَّلاة، أم نسيت؟! قال: فلم يصلِّ بعد ذلك، إلَّا قرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لأم القرآن، وللسورة التي بعدها، وكبر حتَّى يهوي ساجدًا (3).
فهذه أحاديث صحاح ثابتة مثبتة للبسملة، والجهر بها؛ فهي مقدمة على الأحاديث بنفيها، ولا يلزم من عدم سماع أنس للبسملة، والجهر بها؛ عدمُ ثبوتها، والجهر بها.
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(854)، والدارقطني في "سننه"(1/ 308).
(2)
رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 305)، ورواه أيضًا: النَّسائيّ (905)، كتاب: الافتتاح، باب: قراءة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وابن خزيمة في "صحيحه"(688)، وابن حبان في "صحيحه"(1797).
(3)
رواه الإمام الشافعي في "مسنده"(ص: 36)، ومن طريقه الدارقطني في "سننه"(1/ 311)، والحاكم في "المستدرك"(851)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 49).
كيف وهي ثابتة في رسم المصحف بخطه؛ باتفاق الصحابة، وإجماعهم على: ألا يثبتوا فيه غيره، وأجمع المسلمون بعدهم عليه، في كل الأعصار إلى يومنا، مع اجتماعهم على: أنها ليست من براءة، ولا يكتب فيها؟!
ودليل المالكية على تركها: عملُ أهل المدينة، لكن حديث أنس، وغيره يرد عليه، وليس لهم دليل صريح يدل على الترك مطلقًا، والله أعلم.
* * *