الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في المَذْي وغيره
الحديث الأول
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبي طالِبٍ رضي الله عنه قال: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ لمكانِ ابْنَتِهِ، فَأَمَرْتُ المِقْدَادَ بنَ الأَسْوَدِ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ:"يَغْسِلُ ذَكَرَهُ، وَيَتَوَضَّأ"(1)، وللبخاريِّ:"اغْسِلْ ذَكَرَكَ، وَتَوَضَّأْ"(2)، ولمُسْلِمٍ:"تَوَضَّأ، وَانْضَحْ فَرْجَكَ"(3).
* أمَّا عليٌّ، فهو أمير المؤمنين، أبو الحسن، وكنَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا تُرَابٍ، وكانت أحبُّ أسمائِه إليه.
واسم أبي طالب: عبدُ منافِ بنُ عبدِ المطَّلبِ، يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فكان هو أبا أبي النبي صلى الله عليه وسلم.
وقالت طائفةٌ: اسمُ أبي طالب: عمرانُ، مستندين فيه إلى قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]؛ وهو تحريف على الله تعالى، وعلى رسوله، وعلى علماء التفسير، لا يعرف عن أحد من العلماء.
(1) رواه مسلم (303)، كتاب: الحيض، باب: المذي.
(2)
رواه البخاري (266)، كتاب: الغسل، باب: غسل المذي والوضوء منه، لكن بلفظ:"توضأ واغسل ذكرك".
(3)
رواه مسلم (303)، كتاب: الحيض، باب: المذي.
أُمُّه: فاطمةُ بنتُ أسدِ بنِ هاشمِ بنِ عبدِ مناف، أبي جدِّ عبدِ المطلب جدِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أولُ هاشمية ولدت هاشميا، أسلمت، وهاجرت إلى المدينة، وتوفيت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى عليها، وبرك في قبرها صلى الله عليه وسلم.
وعليٌّ رضي الله عنه رابعُ الخلفاءِ وأحدُ العشرةِ المشهودِ لهم بالجنة، وأقضى الأمة، وهو أولُ خليفةٍ، كان أبواه هاشميين، ولم يك بعده مَنْ أبواه هاشميان غيرُ محمدٍ الأمينِ بنِ زبيدة، وهو من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى في الأخوة، وشد الأزر -ليس في النبوة- في حياته، وبعد موته (1).
وشبَّهَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيسى صلى الله عليه وسلم في كونه يهلك فيه طائفتان من اليهود والنصارى حيث جعلته إحداهما: ولد زنية؛ فكفروا بذلك، والأخرى: ابن الله تبارك وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا-، فكفروا بذلك.
فكذلك هَلَكَ في عليٍّ طائفتان: محبٌّ مفرطٌ، ومبغضٌ مفرطٌ، فمن كفَّره، أو بدَّعه، أو استنقصه؛ فهو ضالٌّ هالك، ومن رقاه إلى الإلهية، أو النبوة، أو التقدمة في الخلافة على من تقدمه من الخلفاء، أو التفضيل عليهم؛ فهو ضال هالك.
فعيسى عبدُ الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وعليٌّ ابنُ عم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وزوجُ ابنته فاطمةَ البتول رضي الله عنهما، وأولُ من أسلم وصلَّى مع النبي صلى الله عليه وسلم من الصبيان، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاهده كلها، إلَّا تبوك.
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 19)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 259)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 61)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1089)، و"الثقات" لابن حبان (2/ 302)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 133)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (72/ 7)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 308)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 87)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 315)، و"تهذيب الكمال" للمزي (20/ 472)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 564)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 294).
وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ"، "مَنْ كُنْتُ نَاصِرَه وَمُؤَازِرَهُ، فعليٌّ كَذَلِكَ".
وكان عُمْرُه مبدأَ النبوةِ: عشرَ سنين، وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين، ومدة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وخلافته: ثلاثون سنة، فكان عمره ثلاثًا وستين سنة، هذا هو الصحيح المختار في مدة عمره.
رُوِيَ له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسُ مئة حديثٍ، وستةٌ وثمانون حديثًا، اتفقا منها على عشرين حديثًا، وانفرد البخاريُّ بتسعةٍ، ومسلم بخمسةَ عشرَ.
ورَوَى عنه بَنُوه: الحسنُ، والحسينُ، ومحمدٌ، وعبدُ الله بنُ مسعود، وابن عباس، وابنُ عمرَ، وابنُ قيس، وأبو موسى الأشعريُّ، وابن جعفر، وأبو سعيدٍ الخدريُّ، وأبو رافعٍ، وصُهيب، وزيدُ بن أرقم، وجابرٌ، وأبو أمامةَ الباهليُّ، وأبو هريرةَ، وأبو سريحةَ حذيفةُ بن أسيدٍ الغفاريُّ، وسفينةُ، وجابرٌ بنُ سمرة، وعَمْرُو بن حُريث، وأبو ليلى الأنصاريُّ، والبراءُ بنُ عازبٍ، وطارقُ بن شهابٍ الأحمسيُّ، وطارق بن أشْيَم الأشجعيُّ، وعبد الرحمن بن أَبْزى، وسيرينْ بنُ سحيم، وأبو جُحيفة السوائيُّ؛ وكلُّهم صحابة، وخلق كثيرٌ من التابعين، روى له أصحاب السنن والمساند.
وصنف العلماء في مناقبه تصانيفَ مفردةً فيه، ومضافةً إلى غيره، وكان رضي الله عنه من ينابيع الحكم في الصحابة.
وُلِّيَ الخلافةَ خمسَ سنين، وقيلَ: خمس سنين إلَّا أربعةَ أشهر، وقيل: إلَّا شهرين وأيامًا، وقُتِلَ ليلة الجمعة، لسبعَ عشرةَ بقيت من رمضان، سنة أربعين؛ وهو عام الجماعة، قتله عَبْدُ الرَّحمَن بنُ مُلْجِمٍ المراديُّ.
قال ابن حِبَّان في "تاريخه": وكان لعلي رضي الله عنه يوم مات اثنتان وستون سنة، وكانت خلافتُه خمسَ سنين وثلاثةَ أشهرٍ، إلَّا أربعةَ عشرَ يومًا، واختلفوا في موضع قبره، ولم يَصحَّ عندي شيءٌ من ذلك فأذكره، وقد قيل: إِنَّه
دُفن بالكوفة في قصر الإمارة عند مسجد الجماعة، وهو ابنُ ثلاثٍ وستين سنةً، هذا آخر كلامه.
وذكر أيضًا: أنَّ لعليٍّ من الولد يومَ مات: خمسًا وعشرين ذكرًا وأنثى؛ خمسة من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحسنُ، والحسينُ، ومُحَسِّنٌ، وأمُّ كلثوم الكبرى، وزينبُ الكبرى، والباقون من غيرها.
قال أبو عبد الله محمدُ بن سلامة القضاعيُّ في "عيون الأخبار" له: كان لعليٍّ أربعةَ عشرَ ذكرًا، وثمانيةَ عشرَ أنثى؛ النسلُ منهم لخمسةٍ، وهم: الحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفية، وعمر، والعباس، وذُكِرَ -أيضًا-: أنَّه دفن ليلًا، وعُمِّيَ قَبرُه.
ولم يقمْ بالمدينة بعدَ الخلافة غيرَ أربعةِ أشهرٍ، ثم سار إلى العراق في سنة ست وثلاثين.
قال أبو القاسم إسماعيلُ بنُ محمد التيميُّ، قال عبدُ الله بن سلام رضي الله عنه: وهو ممن شهد له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالجنة: "ما قتَلَتْ أُمَّةٌ نبَيَّهَا، إلَّا قُتِلَ بهِ منهم سبعون ألفًا، ولا قتَلُوا خَلِيفَتَهم، إلَّا قُتِلَ بِهِ مِنْهُم خمسةٌ وثلَاثونَ ألفًا"(1).
وكان عليٌّ رضي الله عنه من زُهَّادِ المسلمين، يلبس ثيابًا رثَّة؛ فعابوا عليه ثيابه، فقال: يَعيبون عليَّ لباسي؛ وهو أبعدُ لي من الكِبْر، وأجدَرُ أَنْ يقتديَ بي المسلمُ (2).
ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالرحمة، وأَنْ يدورَ الحقُّ معه حيث دار.
وقال رضي الله عنه يومًا وقد فرَّق جميعَ ما في بيت المال على الناس، حتى كنسه، ثم أمر بنضحه، ثم صلى فيه ركعتين؛ رجاء أن يشهد له يوم القيامة: يا صفراء! يا بيضاء! غُرِّي غَيْرِي (3).
(1) رواه الفاكهي في "أخبار المدينة"(2/ 224)، وأبو عمرو الداني في "الفتن"(1/ 153)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(39/ 353).
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك"(4687).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 81)، والخطيب البغدادي في "موضح أوهام الجمع =
وقال رضي الله عنه: ليس الخيرُ أَنْ يَكثُرَ مالُكَ، وولدُك؛ ولكنَّ الخيرَ أَنْ يَكثُرَ عملُكَ، وَيعْظُمَ حِلْمُكَ، وأَنْ تباهيَ الناسَ بعبادةِ ربِّكَ؛ فإنْ أَحسنْتَ، حَمِدْتَ الله، وإِنْ أَسَأتَ، اسْتَغْفَرْتَ الله، ولا خيرَ في الدنيا، إلَّا لأحدِ رَجُلَين: رَجلٌ أَذْنَبَ ذنوبًا؛ فهو مداركٌ ذلك بتوبةٍ، أو رجلٌ يسارعُ في الخيراتِ، ولا يَقِلُّ عملٌ في تقوى؛ وكيف يَقِلُّ ما يُتَقَبَّلُ؟! (1).
وقال علي رضي الله عنه: احفظوا عني خمسًا، فلو ركبتم الإبل في طلبهن، لا تصيبوهن قبل أَنْ تدركوهن، لا يرجو عبدٌ إلا ربَّه، ولا يخافن إلا ذنبه، ولا يستحيي جاهل أَنْ يسألَ عمَّا لا يعلم، ولا يستحيي عالمٌ إذا سُئِلَ عَمَّا لا يعلم، أَنْ يقولَ: اللهُ أعلم، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمانَ لِمَنْ لا صبرَ له (2).
وقال: إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم: اتِّبَاعُ الهوى، وطولُ الأمل؛ فأمَّا اتِّبَاعُ الهوى، فيصدُّ عن الحق، وأمَّا طولُ الأمل، فيصدُّ عن الآخرة، ألا وإنَّ الدنيا قد ترحَّلَتْ مُدْبِرَةً، وإنَّ الآخرةَ قَدْ تَرَحَّلتْ مقبلةً، ولكلِّ واحدةٍ منها بنون، فكونوا من أبناءِ الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل (3).
وقال: أشدُّ الأعمال ثلاثة: إعطاءُ الحقِّ من نفسك، وذكر الله تعالى على كل حال، ومواساةُ الأخ في المال (4).
= والتفريق" (1/ 140)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (24/ 401).
(1)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 75)، والبيهقي في "الزهد الكبير"(2/ 276).
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(21031)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(34504)، وأبو نعيم في:"حلية الأولياء"(1/ 75 - 76)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(9718)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(42/ 510).
(3)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 130)، والبيهقي في "الزهد الكبير"(2/ 193)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(42/ 494).
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 85).
وقال: لقد رأيتُني أربِطُ الحجرَ على بطني من شدَّةِ الجوع على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإِنَّ صَدَقَتِي اليومَ أربعون ألفَ دينارٍ (1).
أمَّا ألفاظه:
فقوله: "كُنْتُ رَجُلًا مَذّاءً"؛ أي: كثيرَ المذي، وهو بفتح الميم، وتشديد الذال المعجمة، وبالمدِّ، صيغةُ مبالغة، على وزن فعَّال.
وفي المذي لغتان؛ مَذْي: بفتح الميم، وإسكان الذال، ومَذِيٌّ: بكسرها، وتشديد الياء، ومَذِي: بكسر الذال، وتخفيف الياء؛ فالأوليان مشهورتان، أصحهما وأشهرهما: الأولى، والثانية حكاها أبو عمرِو الزَّاهدُ عن ابن الأعرابي.
ويقال: مَذِيَ، وأَمْذى: يَمذِي، ويُمذي، ومَذَّى، الثالثة بالتشديد (2).
والمذي: ماء أبيض رقيق لزج، يخرج عند شهوة؛ لا بشهوة، ولا دفق، ولا يعقبه فتور، وربما لا يحس بخروجه؛ ويكون ذلك للرجل والمرأة، وهو في النساء أكثرُ منه في الرجال.
وقوله: "فَاسْتَحْيَيْتُ": هذه اللغة الفصيحة فيه بالياءين، وقد يقال: استَحَيْتُ بياء واحدة، والمِرادُ بالحياء هنا: تغيرٌ وانكسارٌ يعرِض للإنسان من تخوف ما يُعاتب به، أو يُذم عليه.
وأمَّا الحياءُ الشرعيُّ الممدوحُ عليه الَّذي لا يأتي إلا بخير: فهو رؤية النِّعَم، ورؤيةُ التقصير، فتتولد بينهما حالةٌ تسمَّى حياءً وتلك حالةٌ حاملة على: مزيدِ الشكر، واستقصاء الأعمال.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وَانْضَحْ فَرْجَكَ"، وهو بالحاء المهملة، لا يعرف غيره؛ أي:
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 159)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 85)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(42/ 375).
(2)
انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (3/ 300)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 312)، و"لسان العرب" لابن منظور (15/ 274)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 38).
اغسلْه، والنضح: يكون غسلًا، ويكون رشًّا، لكن الغسل هنا متعين ببيان الرواية الأخرى في الأمر به؛ فحُمل النضح عليه.
وقولُ عليٍّ رضي الله عنه: "لِمَكَانِ ابْنَتِهِ"؛ تنبيهٌ على العلَّة في عدمِ سؤاله عن حكم المذيِ بنفسه؛ لكونه عِلْمًا.
والعلمُ وتعلُّمه عبادة لا ينبغي أن تدخلَه النيابةُ، وعدم مواجهة العلماء، والسؤالُ عنه، ولهذا أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نساء الأنصار؛ لكونهن لم يمنعْهنَّ الحياءُ من التفقُّه في الدين؛ لمَّا سَأَلْنَه عن أشياءَ تتعلق بأنفسهنَّ ممَّا يُسْتَحيا من ذكره -عادة-.
لكنَّ عليًّا لمَّا رأى أنَّ هذه المسألةَ يتعلق بها مواجهةُ النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال عن حالة تعرِض عندَ مقدمات الجماع؛ أرسل غيره يسأل، أدبًا مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لمكان ابنته منه.
وقوله: "فَأَمَرْتُ المِقْدادَ بْنَ الأَسْوَدِ"؛ إنَّما قيل: ابن الأسودِ؛ لأنَّه كان في حِجْرِ الأسودِ بنِ [عبد] يغوثَ بنِ وَهْبِ بنِ عبدِ منافِ بنِ زهرةَ الزهريِّ، فتبناه وحالفه في الجاهلية؛ وإلا فهو المقدادُ بن عَمْرِو بنِ ثعلبةَ بنِ مالكِ بنِ ربيعةَ بنِ ثمامةَ، بهرانيٌّ من بهرا بنِ عمرٍو، وقيل: كنديٌّ من كندةَ، وقيل: حضرميٌّ من حضرموت، وقيل: حالف أبوهُ كندة فنسبَ إليها، وحالف هو بني زهرة فقيل له: الزهريّ -أيضًا-، وقيل: كان عبدًا حبشيًّا للأسودِ بنِ عبدِ يغوثَ؛ فتبناه، والصحيح: ما ذكرناه أولًا، ولا يصحُّ كونه عبدًا.
كنيته: أبو الأسود، ويقال: أبو عمرو، ويقال: أبو معبد.
وشهد المشاهدَ كلَّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت أنَّه شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فارسٌ غيرُه، وقيل: كان الزبير -أيضًا- فارسًا معه، وهو أحد السبعين الذين هم أولُ من أظهر الإسلام.
قال أبو عمرَ بنُ عبد البرِّ رحمه الله: وكان من الفضلاء النجباء الكبار الأخيار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد الأربعة عشر النجباء الوزراء
الرفقاء الذين أعطيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان للأنبياء قبله.
رَويَ له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: اثنان وأربعون حديثًا؛ اتفق البخاري ومسلم على حديث واحد، وانفرد مسلم بثلاثة.
روى عنه: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، والسَّائب بن يزيد، وغيرُهم من الصحابة، وكبار التابعين، وروى له أصحاب السنن، والمساند -أيضًا-.
مات بالجرف على عشرة أميال من المدينة، وحُمل على رقاب الرجال إليها سنة ثلاث وثلاثين في خلافة عثمان، وهو ابن سبعين سنة، وصلَّى عليه عثمان رضي الله عنه (1).
قال ابن مسعود: شهدتُ من المقداد مشهدًا، لأَنْ أكونَ صاحبَه، أحبُّ إلَيَّ مما طلعتْ عليه الشمسُ، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّا -واللهِ- لا نقولُ لك كما قالتْ أصحابُ موسى: اذهبْ أنتَ وربُّك، فقاتلا، إنَّا هاهنا قاعدون -لما ذكر المشركين-، ولكنَّا نقاتل بين يديك، ومِنْ خلفِك، وعن يمينك، وعن شمالك؛ قال: فرأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُشرق وجهه لذلك، وسرّه وأعجبه (2).
وقال بريدة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، وعليًّا، وسلمان، وأبا ذر (3)، وسمعه
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 161)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 371)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 172)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1480)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (60/ 159)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 423)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 242)، و"تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 414)، و"تهذيب الكمال" للمزي (28/ 452)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 385)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 202)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (10/ 254).
(2)
رواه البخاري (3736)، كتاب: المغازي، باب: قول الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9].
(3)
رواه الترمذي (3718)، كتاب: المناقب، باب:(21)، عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم، قيل: يا رسول الله! سمهم لنا، قال: علي منهم، وأبو ذر، والمقداد، وسلمان ..... " قال الترمذي: هذا حديث حسن.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ رافعًا صوته، فقال:"أواب"(1).
قوله صلى الله عليه وسلم: "يَغْسِلُ ذَكَرَهُ"؛ برفع اللام، خبرٌ بمعنى الأمر، وهو مجاز جائز؛ لِما يشتركان فيه من معنى الإثبات، ولو روي مجزومًا؛ [جاز على ضعف.
ومنهم من منعه إلَّا في ضرورة الشعر بحذف الحرف عن المجزوم، وانفعاله؛ كقول الشاعر: مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ] (2)
وفي الحديث فوائد:
منها: أنَّ المذيَ لا يوجب الغسل؛ وهو مجمَع عليه.
ومنها: أَنَّه ينقضُ الوضوء؛ وهو مذهبُ أبي حنيفة، والشَّافعيِّ، وأحمدَ، والجماهير قالوا: ويوجب الوضوء.
ومنها: نجاستهُ؛ لإيجاب الغسل، لَكِنْ قالَ الشَّافعي، والجماهير: يجب غسل ما أصابه المذي، لا غسل جميع الذَّكَر.
وحكي عن مالك، وأحمد -في رواية عنهما-: إيجابُ غسل جميعِ الذكر؛ لكونه حقيقةً في العضو كله، وزاد الإمام أحمد: وجوبَ غسل الأنثيين أيضًا؛ لحديث رواه أبو داود - منقطعًا -: في غسله جميعِ الذكر.
ثم من قال بوجوب غسل الجميع، اختلفوا في معناه: هل هو لتبريد العضو؛ فيضعف المذي، أو هو تعبد؟ وبنوا على ذلك فرعًا، وهو وجوب النية لغسله.
إن جعلناه تعبدًا، وجبت؛ حيث لا نجاسة على ما زاد على محل خروجه، فليس بإزائه نجاسة، وإنما هو عبادة؛ فافتقر إلى النية؛ كالوضوء.
وعدولُ جمهور العلماء عن استعمال الحقيقة في الذَّكَر كلِّه نظرًا إلى المعنى الموجِب للغسل، وهو خروجُ الخارج، فاقتضى الاقتصار عليه.
ومن جعل الحكمة في غسل جميعه التبريد، اقتضى عدم وجوبه -أيضًا- والله أعلم.
(1) ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب"(4/ 1482)، عن حماد بن سلمة، عن ثابث، عن أنس.
(2)
ما بين معكوفين ساقط من "ح".
ومنها: وجوبُ غسل المذي بالماء، ولا يجوزُ فيه غيرُه، ممَّا لا يجوز الاستجمارُ به، في الغائطِ والبول؛ لكونه نادرًا، فأشبه الدمَ، وهو أصحُّ القولين عند الشَّافعي رحمه الله، والقول الآخر: جوازُه؛ قياسًا على المعتاد، ويجعل الحديث بالأمر بالغسل: أنه خرج مخرجَ الغالب المعتاد، فيمن هو في بلد، أو يحمله على الاستحباب.
وقد استدل به من قال: يجب الوضوءُ على من به سلسُ البول؛ لكون المذاء: من كثر منه المذي، وقد أُمر بالوضوء منه، فكذلك من بهِ سلسُ البول.
لكنَّ المذاء الَّذي يكثر مذيه يكون لصحته، وعلته شهوته -غالبًا-؛ وقد تكون لمرضه، واسترساله لا يمكن إزالته، وهو نادر، خلاف سلس البول؛ فإنَّه مرض لا يزول -غالبًا- فافترقا، والله أعلم.
ومنها: جوازُ الاستنابة في الاستفتاء؛ للعذر، سواءٌ كان المستفتي حاضرًا، أو غائبًا.
ومنها: جوازُ الاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على المقطوع به؛ لأنَّ عليًّا رضي الله عنه اقتصر على قول المقداد مع تمكُّنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد يعترض على ذلك: بأنَّ عليًّا كان حاضرًا مجلسَ سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستحيا أَنْ يكونَ السؤالُ منه بنفسِه.
وأورد على ذلك: أنَّه يلزمُ من قبول قول المقداد من غير أَنْ يكونَ عليٌّ حاضرًا مجلس السؤال؛ إثبات خبر الواحد بخبر الواحد.
وجوابه: أنَّ المراد ذكرُ صورةٍ من صور خبرِ الآحاد؛ تدلُّ على قبوله، وهي: فردٌ من أفراده غير منحصرة فيه؛ والحجة تقوم بجملتها؛ لأنه منها، وإلَّا لكان ذلك إثبات الشيء بنفسه، وهو محال.
لكنه يذكر للتنبيه على أمثاله؛ لا للاكتفاء به، مع أنَّ عليًّا رضي الله عنه إنَّما أمر المقداد بالسؤال استحياء، لا لأجل قبول خبره، فإن ثبت أنَّ عليًّا
- رضي الله عنه أخذ هذا الحكم عن المقداد من غير حضوره، ولا قرينة أوجبت قبولَ خبره، ففيه حجة.
ومنها: استحبابُ حُسْن العشرة مع الأصهار، وأنَّ الزوجَ ينبغي له ألَّا يذكر ما يتعلق بأسباب الجِماع ومقدماته، والاستمتاع بالزوجة، بحضرة أبيها، وأخيها، وابنها، وغيرهم من أقاربها.
ولهذا قال علي رضي الله عنه: فاستحييت أَنْ أسألَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لمكان ابنته؛ لأنَّ المذي يكون غالبًا حالَ مداعبة الزوجة، وقبلتها، ونحو ذلك من أنواع الاستمتاع، مع كونه سؤالًا عن حكم شرعي، فما ظنك بذكر ذلك لغير حاجة؟! والله أعلم.
ومنها: وجوب الغسل من خروج المني.
ومنها: أنَّ الفرج يراد به شرعًا: القُبُلَ، ولا شكَّ أنَّه مأخوذٌ من الانفراج، في اللغة، فدخل في عمومه: لفظُ الدبر، وقد تمسك به الشافعيةُ في انتقاض الوضوء بمسِّه في قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ مَسَّ فَرْجَه؛ فَلْيَتَوَضَّأْ"(1).
لكنَّ المرادَ به في حديث المذي: القُبُلَ فقط، وإن كان في العُرْف يغلب استعمالهُ فيه من الرجل والمرأة، فصار فيه الوضع اللغوي، غلبة العرفي؛ فرجح المراد الشرعيُّ منه.
لكنْ يحتمل أنَّ المخالفَ في انتقاضِ الوضوء بمس الذكر، لم يثبتْ عندَه عُرفٌ يخالفُ الوضعَ العرفي، والله أعلم.
ومنها: أنَّه قد يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات المذكورة: "تَوَضَّأْ، وانْضَحْ فَرْجَك" جواز تأخير الاستنجاء على الوضوء، وذلك إنما يتم على قول
(1) رواه أبو داود (181)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء من مس الذكر، والنسائي (444)، كتاب: الغسل والتيمم، باب: الوضوء من مس الذكر، وابن ماجه (479)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء من مس الذكر، والامام أحمد في "المسند"(6/ 406)، من حديث بسرة بنت صفوة رضي الله عنها.