الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن بدائع حكم ذوي الألباب ما ذكره محمود الوراق في قوله: [من المتقارب]
تَمَثَّلَ ذُوْ اللُّبِّ فِيْ نَفْسِهِ
…
مَصائِبَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلا
فَإِنْ نزلَتْ بِهِ لَمْ يَرْعُه
…
لِما كانَ فِيْ نَفْسِهِ مَثَّلا
رَأى الأَمْرَ يُفْضِيْ إِلَى آخِر
…
فَصَيرَ آخِرَه أَوَّلا
ومن معناه أن اللبيب العاقل وَطَّنَ نفسه على مصائب الدنيا، وأنَّ ما قُدِرَ منها نازل لا محالة، فلم يجزع لما دهمه من خطوبها، ولم يفرح لما نأى منها، وعلم أن آخرها للانقضاء والزوال، فعمل لما بعدها، وتجافى عنها، وأناب إلى الآخرة، وانتظر الموت، كما قال الحسن رحمه الله تعالى: إن الموت فضح الدنيا، فلم يترك لذي لب فرحاً. رواه عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد"(1).
*
تَتِمَّةٌ:
قال الله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [ق: 36].
(1) انظر: "الزهد"(ص 258).
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فَنَقَّبُوا} : أثروا؛ أي: تركوا آثارهم {فِي الْبِلَادِ} (1).
وقال مجاهد: ضربوا في الأرض. رواهما ابن جرير (2).
وقال الضحاك في قوله: {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} : هل من مهرب يهربون إليه من الموت. رواه ابن المنذر (3).
وقال قتادة في الآية: حاص أعداء الله، فوجدوا أمر الله لهم مدركًا. رواه عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر (4).
ثم قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِك} [ق: 37]؛ أي. ما ذكرناهم به من أمر الأمم الماضية، وما أثروا في البلاد، وتصرفوا فيها، وخربوا في أرجائها، فلم يجدوا لهم مهربا من الموت، بل أدركتهم آجالهم التي قدرناها لهم، وكان مصيرهم إلينا {لَذِكْرَى} [ق: 37]؛ أي: تذكرة {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]؛ أي: لمن كان له قلب يستمع به فيتذكر، أو ألقى السمع إلى ما يملى عليه بحيث يصغي إليه، ويستمع له وهو شهيد؛ أي: القلب.
(1) رواه الطبري في "التفسير"(26/ 176).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(26/ 176).
(3)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 608).
(4)
رواه عبد الرزاق في "التفسير"(3/ 239)، والطبري في "التفسير"(26/ 177)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور"(7/ 608) إلى ابن المنذر.
فقسم المنتفعين بالذكرى إلى قسمين: على ذي قلب يتذكر به ما عليه، ومستمع شهد القلب ما يسمعه؛ فالواعظ والمستمع إذا كانا من أهل القلوب تمت سعادتهما.
وقد قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إن الكلام إذا خرج من القلب دخل القلب (1).
قال مجاهد في قوله: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} ؛ قال: لا يحدث نفسه بغيره؛ أي بغير ما يسمعه، وهو شهيد؛ أي: شاهد بالقلب؛ أي: لما سمعه. رواه ابن جرير (2).
وقال محمَّد بن كعب في الآية: يستمع وقلبه شاهد، لا يكون قلبه مكاناً آخر. رواه ابن المنذر (3).
ففي الآية دليل على أن قصص القرآن لا ينتفع به إلا ذوو القلوب، وأولو الألباب من قارئ ومستمع، ومن قرأ بلسانه، وقلبه غافل عن تدبر ما يقرأه، أو يسمع بأذنه، وقلبه غافل عما يسمعه فهو لما أن [ .... ](4) بما قرأ أو سمع أقرب من أن ينتفع.
ومثل ذلك قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11]؛
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 288) ولفظه: لا ينفع القلب إلا ما خرج من القلب.
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(26/ 178).
(3)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 609).
(4)
كلمة غير واضحة في "م".
هي سفينة نوح عليه السلام {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12].
قال أبو عمران الجوني رحمه الله تعالى: أذن عقلت عن الله. رواه ابن المنذر (1).
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الآية: قال لي رسول صلى الله عليه وسلم: "سَأَلتُ الله أَنْ يَجْعَلَهَا أُذُنكَ يَا عَليُّ"، فقال علي: ما سمعت من رسول الله شيئًا فنسيته. رواه سعيد بن منصور، وأبو نعيم في "المعرفة"(2).
والأذن الواعية: هو الذي يعي الشيء فيحفظه، وينتفع به، ثم لا ينساه، ولا يغفل عنه، كحال علي رضي الله عنه، ولذلك كان بابَ العلم كما روى الحاكم، وغيره من حديث جابر، وابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَناَ مَدِيْنةَ العِلْمِ، وعَلى بَابُهَا؛ فَمَنْ أَرَادَ العِلمَ فَليَأتِ البَابَ"(3).
(1) كذا عزاه السيوطي في "الدر المنثور"(8/ 268) إلى ابن المنذر.
(2)
رواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة"(1/ 88). قال الذهبي في "المنتقى"(ص: 446): موضوع.
(3)
رواه الحاكم في "المستدرك"(4639) عن جابر، و (4637) عن ابن عباس. وكذا رواه الترمذي (3723) بلفظ:"أنا دار الحكمة وعلي بابها" وقال: غريب منكر. قال ابن طاهر المقدسي في "ذخيرة الحفاظ"(1/ 500): هذا حديث ابتكره أبو الصلت الهروي عبد السلام بن صالح، وسرقه منه جماعة من الكذبة. ثم قال -بعد أن ذكر طرقه-: وفي الجملة فالحديث معضل، عن الأعمش، إنما يعرف بأبي الصلت، وكل من رواه إنما سرقه منه، وإن غير إسناده وطريقه.
وحمله بعض الصوفية على العلم اللَّدُنِّيِّ (1) أو لذلك تنتهي معظم طرق الصوفية إلى سيدنا علي رضي الله عنه، وأكثرها من طريق الحسن البصري، ولقد كان من أبواب العلم اللَّدُنِّيِّ النافع.
ولقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب "قصر الأمل"، وابن حيان في "الثقات"، وأبو نعيم عن أبي عبيدة الناجي رحمه الله تعالى قال: دخلنا على الحسن في مرضه الذي مات فيه فقال: مرحبًا بكم وأهلًا، وحياكم الله بالسلام، وأدخلنا وإياكم دار المقام، هذه علانية حسنة إن صبرتم وصدقتم، وأيقنتم، فلا يكن حظكم من هذا الخير أن تسمعوه بهذه الأذن، وتخرجوه من هذه؛ فإنَّه من رأى محمد صلى الله عليه وسلم فقد رآه غاديًا ورائحًا، لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، ولكن رفع له علم
(1) قال ابن القيم في "مدارج السالكين"(2/ 475) "العلم اللدني ثمرة العبودية والمتابعة والصدق مع الله والإخلاص له، وبذله الجهد في تلقي العلم من مشكاة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكمال الانقياد له، فيفتح له منْه فهم الكتاب والستة بأمر يخصه به، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل: هل خصكم رسول الله بشيء دون الناس؟ فقال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه. فهذا هو العلم اللدني الحقيقي.
وأما علم من أعرض عن الكتاب والسنة ولم يتقيد بهما: فهو من لدن النفس والهوى والشيطان، فهو لدني لكن من لدن من! وإنما يعرف كون العلم لدنيا رحمانيا: بموافقته لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل، فالعلم اللدني نوعان: لدني رحماني، ولدني شيطاني بطناوي، والمحكُّ هو الوحي، ولا وحي يعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فشمر إليه؛ الوَحَاءَ الوَحَا (1)، النجاء النجاء، على ما تعرجون أنتم ورب الكعبة كأنكم والأمر معا، رحم الله عبدًا جعل العيش عيشا واحدًا، وأكل كسرة، ولبس خرقًا، ولزق بالأرض، واجتهد في العبادة، وبكى على الخطيئة، وهرب من العقوبة، وابتغى الرحمة، حتى يأتيَه أجله وهو على ذلك (2).
ومعنى قوله: جعل العيش عيشًا واحدًا؛ أي: لم يلتفت إلا إلى عيش واحد وهو عيش الآخرة؛ إذ لا عيش إلا عيش الآخرة، كما في الحديث.
وقوله: وكل كسرة، ولبس خَلِقًا؛ أي: أكل ما وجد ولو كسرة، ولبس ما وجد ولو خَلِقًا؛ أي: لم يتقيد في طعام أو لباس بهوى نفسه، بل يكتفي بالميسور.
وقوله: ولزق بالأرض معناه: ترك السعي في طلب الدنيا، والتأنق في تحصيل ملاذها بحيث لا يهتم بشيء منها، بل يكون اهتمامه واجتهاده فيما خلق له من العبادة.
وبكى على خطيئته، وهرب من موجبات العقوبة، وابتغى الرحمة من الله تعالى من مظانها؛ ومن أهم مظانها البكاء على الخطيئة، والخوف من العقوبة.
(1) الوحاء: السرعة.
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "قصر الأمل"(ص: 121) واللفظ له، وابن حبان في "الثقات"(6/ 261)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 154).
قال الحسن: إن البكاء داع إلى الرحمة (1).
وقال أبو حازم رحمه الله: بلغنا أن البكاء من خشية الله مفتاح الرحمة (2).
وقال محمَّد بن واسع رحمه الله: بلغنا أن الباكي مرحوم (3).
وقال الحسن رحمه الله: بلغنا أنَّ الباكي من خشية الله مرحوم يوم القيامة (4).
وقال فرقد السبخي: قرأت في بعض الكتب: قل للبكائين من خشية الله عز وجل: أبشروا؛ فإنكم أول من تنزل عليه الرحمة إذا نزلت (5).
وقال رشدين (6) بن سعد عن بعض أصحابه: قرأت في بعض الكتب: قل للمريدين من عبادي فليجالسوا البكائين من خشيتي؛ لعلي أصيبهم برحمتي إذا أنا رحمت البكائين (7).
وقال الحسن: لو بكى عبد من خشية الله عز وجل لرحم من حوله ولو
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الرقة والبكاء"(38).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الرقة والبكاء"(34).
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في "الرقة والبكاء"(33).
(4)
رواه ابن أبي الدنيا في "الرقة والبكاء"(16).
(5)
رواه ابن أبي الدنيا في "الرقة والبكاء"(18).
(6)
في "م": "رشد".
(7)
رواه ابن أبي الدنيا في "الرقة والبكاء"(27).
كانوا عشرين ألفًا (1).
وقال هو، وشهر بن حوشب رحمهما الله تعالى: لو أنَّ عبدًا بكى في ملأ من الناس لرحموا ببكائه (2).
روى هذه الآثار ابن أبي الدنيا في كتاب "الرقة والبكاء".
واعلم أنَّ البكاء النافع الداعي إلى الرحمة هو البكاء من خشية الله، ومحله القلب، وقد يكون الباعث عليه رؤية الآثار بالبصر، أو سماع الأخبار والعبر، أو تذكر الأحوال والفكر، وهو من أعمال أفضل أعضاء البشر، ولها رابع وهو اللسان، وقد يكون عمله باعثًا على البكاء أيضًا، وسلطانها القلب، والثلاثة وزراؤه ونصراؤه، فإذا صلحت هذه الأربعة عمرت مدينة إنسانيته، وقد نهى الله تعالى ما دون اللسان منها إلى [التلهي عن] ما خلق له، وعاتب أصحابها على [إيقافها] (3) عن أدائها بقوله:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
روى البيهقي في "شعبه"، وغيره عن عبد الله بن جراد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الأَعْمَى مَنْ يَعْمَى بَصَرُهُ، وَلَكِنَّ الأَعْمَى مَنْ
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الرقة والبكاء"(9).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الرقة والبكاء"(10) عن الحسن، و (13) عن شهر ابن حوشب.
(3)
الكلمة غير واضحة في "م".
تَعْمَى بَصِيرَتُه" (1)
وقد تبيَّن أن اللسان والسمع والبصر لا فائدة للإنسان فيها إلا إذا توافقت مع القلب الصالح، وإلا شارك فيها البهائم وصار من أهل النار.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
***
(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(1372).