المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فَصْلٌ علم مما تقدم أن الصالحين هم أولياء الله تعالى الولاية - حسن التنبه لما ورد في التشبه - جـ ٣

[نجم الدين الغزي]

فهرس الكتاب

- ‌ فائِدَةٌ سادِسَةٌ:

- ‌ فائِدَة سابِعَةٌ:

- ‌ فائِدَةٌ ثامِنَةٌ:

- ‌ فائِدَةٌ تاسِعَةٌ:

- ‌ فائِدَةٌ عاشِرَةٌ:

- ‌ فائِدَةٌ حادِيَةَ عَشْرَةَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثانِيَةَ عَشْرَةَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثَالِثَةَ عَشْرَةَ:

- ‌ فائِدَةٌ رابِعَةَ عَشْرَةَ:

- ‌ فائِدَةٌ خامِسَةَ عَشْرَةَ:

- ‌ فائِدَةٌ سادِسَةَ عَشْرَةَ:

- ‌ فائِدَةٌ سابِعَةَ عَشْرَةَ:

- ‌ تَنبِيهٌ:

- ‌ فائِدَةٌ ثامِنَةَ عَشْرَةَ:

- ‌ فائِدَةٌ تاسِعَةَ عَشْرَةَ:

- ‌ فائِدَةٌ هِيَ تَمامُ عِشرينَ فائِدَةً:

- ‌ تَنْبِيهٌ:

- ‌ فائِدَةٌ حادِيَةٌ وِعِشرونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثانِيَةٌ وَعِشرونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثالِثَةٌ وَعِشرونَ:

- ‌ فائِدَةٌ رابِعَةٌ وَعِشرونَ:

- ‌ فائِدَةٌ خامِسَةٌ وَعِشرُونَ:

- ‌ فائِدَةٌ سادِسَةٌ وَعِشرُونَ:

- ‌ فائِدَةٌ سابِعَةٌ وَعِشرُونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثامِنَةٌ وَعِشرُونَ:

- ‌ فائِدَةٌ تاسِعَةٌ وَعِشْرونَ:

- ‌ فائِدَةٌ تَتِمُّ بِها ثَلاثونَ فائِدَةً:

- ‌ فائِدَةٌ حادِيَةٌ وَثَلاثونَ:

- ‌ فائِدَة ثانِيَةٌ وَثَلاثونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثالِثَةٌ وَثلاثونَ:

- ‌ فائِدَةٌ رابِعَةٌ وَثلاثونَ:

- ‌ فائِدَةٌ خامِسَةٌ وَثلاثونَ:

- ‌ فائِدَة سادِسَة وَثَلاثونَ:

- ‌ فائِدَةٌ سابِعَةٌ وَثلاثونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثامِنَةٌ وَثلاثونَ:

- ‌ فائِدَةٌ تاسِعَةٌ وَثلاثونَ:

- ‌ فائِدَةٌ هِيَ تَمامُ أَرْبَعينَ فائِدَةً:

- ‌ فائِدَةٌ حادِيَةٌ وَأَرْبعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثانِيَةٌ وَأَرْبَعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثالِثَةٌ وَأَربعونَ:

- ‌وفي معناه وجهان:

- ‌ فائِدَةٌ رابِعَةٌ وَأَرْبَعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ خامِسَةٌ وَأَربعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ سادِسَةٌ وَأَرْبعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ سابِعَةٌ وَأَرْبعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثامِنَةٌ وَأَرْبعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ تاسِعَةٌ وَأَربعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ هِيَ تَمامُ خَمسينَ فائِدَةً:

- ‌ فائِدَةٌ حادِيَةٌ وَخَمسونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثانِيَةٌ وَخَمسونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثالِثَةٌ وَخَمْسونَ:

- ‌ فائِدَةٌ رابِعَةٌ وَخَمسونَ:

- ‌ فائِدَةٌ خامِسَةٌ وَخَمسونَ:

- ‌ فائِدَةٌ سادِسَةٌ وَخَمسونَ:

- ‌ فائِدَةٌ سابِعَةٌ وَخَمسونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثامِنَةٌ وَخَمسونَ:

- ‌ فائِدَةٌ تاسِعَةٌ وَخَمسونَ:

- ‌ فائِدَةٌ هِيَ تَمامُ سِتِّينَ فائِدَةً:

- ‌ فائِدَةٌ حادِيَةٌ وَسِتُّونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثانِيَةٌ وَسِتُّونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثالِثَةٌ وَسِتُّونَ:

- ‌ فائِدَةٌ رابِعَةٌ وَسِتُّونَ:

- ‌ فائِدَةٌ خامِسَةٌ وَسِتُّونَ:

- ‌ فائِدَةٌ سادِسَةٌ وَسِتُّونَ:

- ‌ فائِدَةٌ سابِعَةٌ وَسِتُّونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثامِنَةٌ وَسِتُّونَ:

- ‌ فائِدَةٌ تاسِعَةٌ وَسِتُّونَ:

- ‌ فائِدَةٌ هِيَ تَمامُ سَبْعِينَ فائِدَةً:

- ‌ فائِدَةٌ حادِيَةٌ وَسَبْعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثانِيَةٌ وَسَبْعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثالِثة وَسبعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ رابِعَةٌ وَسَبعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ خامِسَةٌ وَسَبْعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ سادِسَةٌ وَسَبْعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ سابِعَةٌ وَسَبْعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثامِنَةٌ وَسَبعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ تاسِعَةٌ وَسَبْعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ هِيَ تَمامُ ثَمانِينَ فائِدَةً:

- ‌ فائِدَةٌ حادِيَةٌ وَثَمانونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثانِيَةٌ وَثَمانونَ:

- ‌ فائِدَة ثالِثَةٌ وَثَمانونَ:

- ‌ فائِدَةٌ رابِعَةٌ وَثَمانونَ:

- ‌ فائِدَةٌ خامِسَةٌ وَثَمانونَ:

- ‌ فائدَةٌ سادِسَةٌ وَثَمانونَ:

- ‌ فائِدَةٌ سابِعَةٌ وَثَمانونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثامِنَةٌ وَثَمانونَ:

- ‌ فائِدَةٌ تاسِعَةٌ وَثَمانونَ:

- ‌ فائِدَةٌ هِيَ تَمامُ تِسْعِينَ فائِدَةً:

- ‌ فائِدَةٌ حادِيَةٌ وتسعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثانِيَةٌ وتسعونَ:

- ‌ فائِدٌ ثالِثةٌ وتسعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ رابِعَةٌ وتسعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ خامِسَةٌ وتسعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ سادِسَةٌ وتسعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ سابِعَةٌ وتسعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثامِنةٌ وتسعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ تاسِعَةٌ وتسعونَ:

- ‌ فائِدَةٌ بِها تَتِمُّ مِئةُ فائِدَةٍ:

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌ تَتِمَّةٌ:

- ‌فَصْلٌ

- ‌ فائِدَةٌ لَطِيفَةٌ:

- ‌ لَطِيفَةٌ أخرَى:

- ‌ فائِدَةٌ ثالِثةٌ:

- ‌ فائِدةٌ رابِعَةٌ:

- ‌فَصْلٌ في أحكام تتعلق بالأولياء رضي الله عنهم

- ‌ تَنبِيهٌ:

- ‌ تَنبِيهٌ:

- ‌فَصْلٌ

- ‌ تَتِمَّةٌ:

- ‌ تَتِمَّةٌ

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌ فائِدَةٌ لَطِيْفَةٌ:

- ‌فَصْلٌ

- ‌ تَتِمَّةٌ:

- ‌فَصْلٌ

- ‌ تَتِمَّةٌ:

- ‌ تنبِيْهٌ أَوَّلٌ:

- ‌ تنبِيْهٌ ثانٍ:

- ‌[فائدة]

- ‌ فائِدَةٌ أُخْرَىْ:

- ‌ فائِدَةٌ ثالِثةٌ:

- ‌ فائِدَةٌ رابِعَةٌ:

- ‌ فائِدَةٌ خامِسَةٌ:

- ‌ فائِدَةٌ سادِسَةٌ:

- ‌ فائِدَةٌ سابِعَةٌ:

- ‌ فائِدَةٌ ثامِنةٌ:

- ‌ فائِدَةٌ تاسِعَةٌ:

- ‌ فائِدَةٌ عاشِرَةٌ:

- ‌ فائِدَة حاديةَ عَشْرَةَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثانِيةَ عَشْرَةَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثالِثَةَ عَشْرَةَ:

- ‌ فائِدَةٌ رابِعَةَ عَشْرَةَ:

- ‌ فائِدَةٌ خامِسَةَ عَشْرَةَ:

- ‌ فائِدَةٌ سادِسَةَ عَشْرَةَ:

- ‌ فائِدَةٌ سابِعَةَ عَشْرَةَ:

- ‌ فائِدَةٌ ثامِنَةَ عَشْرَةَ:

- ‌ فائِمَةٌ تاسِعَةَ عَشْرَةَ:

- ‌ فائِدَةٌ مُتَمِّمَةُ الْعِشْرِيْنَ:

- ‌ تنبِيْهٌ نَفِيْسٌ:

- ‌ تَتِمَّةٌ مُهِمَّةٌ، وَخاتِمَةٌ حَسَنَةٌ:

- ‌(4) باب التَّشَبُّه بِالشَّهَدَاءِ

- ‌عوداً على بدء:

- ‌ تَنْبِيْهٌ:

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌ تَنْبِيْهٌ:

- ‌فَصْلُ

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌فَصْلُ

- ‌فَصْلٌ

الفصل: ‌ ‌فَصْلٌ علم مما تقدم أن الصالحين هم أولياء الله تعالى الولاية

‌فَصْلٌ

علم مما تقدم أن الصالحين هم أولياء الله تعالى الولاية الخاصة، وهم المحفوفون بالعنايات، المتحفون بأنواع الكرامات الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون كما قال الله تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]؛ أي: لفقد الدنيا، أو لفقد ما سوى الله تعالى، أو:{وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] يوم القيامة كما قال الله تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103].

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [فصلت: 30].

وهذا الأخير أرجح.

ثم بين الله تعالى أولياءه من هم بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63].

فالإيمان والتقوى يجمعان جميع أوصاف الأولياء، وجميع أقسام الولاية بهذه الآية.

ولقوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ

ص: 213

الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19].

* وقد أحببت أن أذكر هنا جملًا من أوصاف الأولياء -وإن كانت هي أوصاف الصالحين المندرجة تحت الإيمان والتقوى- تحريكاً للعبد ليتحلى بحليتهم، ويتشبه بهم في طريقتهم:

روى الطبراني -ورجاله ثقات- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]؛ قال: "الَّذِينَ يُذْكَرُ اللهُ بِذِكْرِهِمْ"(1).

وفي لفظ: "الَّذِينَ إِذا رُؤُوا يُذْكَرُ اللهُ لِرُؤْيتِهِمْ".

وأخرجه الضياء في "المختارة"(2).

وفي لفظ آخر عنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من أولياء الله؟

قال: "الَّذِينَ إِذا رُؤُوا ذُكِرَ الله". أخرجه ابن المبارك، والبزار، وآخرون (3).

(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(12325). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 36): رواه الطبراني عن شيخه الفضل بن أبي روح، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.

(2)

ورواه الطبري في "التفسير"(11/ 131)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(6/ 1964).

(3)

رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 72)، والنسائي في "السنن الكبرى" (11235). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 78): رواه البزار =

ص: 214

وروى الإِمام أحمد، وابن ماجه، وابن أبي الدنيا في "الأولياء" عن أسماء بنت يزيد رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخِيارِكُمْ؟ ".

قالوا: بلى.

قال: "الَّذِينَ إِذا رُؤُوا ذُكِرَ الله"(1).

وروى أبو نعيم عن سعد رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أولياء الله؟

قال: "الَّذِينَ إِذا رُؤُوا ذُكِرَ الله"(2).

وروى سعيد بن منصور عن الحسن -مرسلاً- والطبراني في "الأوسط" عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "إِنَّ أَوْلِياءَ الله الْمُصَلُّونَ، وَمَنْ يُقِيمُ الصَّلَواتِ الْخَمْسَ الَّتِي كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَيْهِ، وَيصُومُ رَمَضانَ وَيحْتَسِبُ صَوْمَهُ، وُيؤْتي الزَّكاةَ مُحْتَسِباً طَيِّبَةً بِها نَفْسُهُ، وَيَجْتَنِبُ الكَبائِرَ الَّتِي نَهى اللهُ عَنْها".

فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله! وكم الكبائر؟

قال: "تِسْعٌ؛ أَعْظَمُهُنَّ الإِشْراك باللهِ، وَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ حَقٍّ،

= عن شيخه علي بن حرب، ولم أعرفه، وبقية رجاله وثقوا.

(1)

رواه الإِمام أحمد في "المسند"(6/ 459)، وابن ماجه (4119)، وابن أبي الدنيا في "الأولياء" (ص: 14).

(2)

أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 231).

ص: 215

وَالفِرارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَناتِ، وَالسِّحْرُ، وَأكلُ مالِ اليتيمِ، وَأَكْلُ الرِّبا، وَعُقوقُ الوالِدَيْنِ".

وأخرجه الطبراني -بسند جيد- بنحوه من حديث عبيد بن عمير الليثي عن أبيه (1).

وروى أبو داود، وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ مِنْ عِبادِ اللهِ لأُناسًا ما هُمْ بِأنْبِياءَ وَلا شُهَداءَ، يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِياءُ وَالشُّهَداءُ يَومَ القِيامَةِ بِمَكانِهِمْ مِنَ اللهِ عز وجل".

قيل: يا رسول الله! خبرنا من هم؟ وما أعمالهم؟ لعلنا نحبهم.

قال: "هُمْ قَوم تَحابُّوا في الله عَلى غَيْرِ أَرْحامٍ بَيْنَهُمْ وَلا أَمْوالٍ يَتَعاطَوْنَ بِها، فَوَاللهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لتنَوِّرُ، وَإِنَّهُمْ عَلى مَنابِرَ مِنْ نُورٍ، لا يَخافُونَ إِذا خافَ النَّاسُ، وَلا يَحْزَنونَ إِذا حَزِنَ النَّاسُ".

ثم قرأ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62](2).

وروى الإمام أحمد، وابن أبي الدنيا في كتاب "الإخوان"، وأبو يعلى -بإسناد حسن- والحاكم -وقال: صحيح الإسناد- عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيها النَّاسُ! اسْمَعُوا واعْقِلُوا

(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(17/ 47)، وكذا الحاكم في "المستدرك"(197).

(2)

رواه أبو داود (3527).

ص: 216

وَاعْلَمُوا: إنَّ لِلَّهِ عِباداً لَيسُوا بِأَنْبِياءَ وَلا شُهَداءَ، يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَداءُ عَلى مَنازِلِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللهِ تَعالَى".

فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس، فألوى بيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون على منازلهم وقربهم من الله تعالى؟ انعتهم لنا، حلهم لنا، شكلهم لنا.

فَسُرَّ وجه النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الأعرابي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هُمْ مِنْ أفناءِ النَّاسِ وَنَوازعِ القَبائِلِ، لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرحامٌ مُتَقارِبَةٌ، تَحابُّوا في اللهِ وَتَصادَقُوا، يَضَعُ اللهُ لَهُمْ يَومَ القيامَةِ مَنابِرَ مِنْ نُورٍ فَيَجْلِسُونَ عَلَيها، فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نوراً، وثيابَهُمْ نوراً، يَفْزَعُ النَّاسُ يَومَ القِيامَةِ وَلا يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِياءُ اللهِ الَّذِينَ لا خَوفٌ عَلَيهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنونَ"(1).

وروى الإِمام أحمد، والحاكم عن أبي إدريس الخولاني: أنه قال لمعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه: إني أحبك في الله، فقال له: أبشر، ثم أبشر؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يُنْصَبُ لِطائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ كَراسِيُّ حَولَ العَرْشِ يَومَ القِيامَةِ، وَمَنابِرُ مِنْ نُورٍ عَلَيها قَومٌ وُجُوهُهُمْ كَالقَمَرِ لَيلَةَ البَدْرِ، يَفْزَعُ النَّاسُ وَهُمْ لا يَفْزَعُونَ، وَيَخافُ النَّاسُ

(1) رواه الإِمام أحمد في "المسند"(5/ 343)، وابن أبي الدنيا في "الإخوان" (ص: 47).

ص: 217

وَلا يَخافونَ، وَهُمْ أَوْلِياءُ الله الّذِينَ لا خَوف عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنونَ".

فقيل: من هؤلاء؟

قال: "الْمُتَحابونَ في اللهِ"(1).

وروى ابن مردويه عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قالَ اللهُ تَعالَى: حَقَّتْ مَحَبتي لِلْمُتَحابينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتي لِلْمُتَزاوِرِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَتي لِلْمُتَجالِسِينَ فِيَّ، الَّذِينَ يَعْمُرونَ مَساجِدِي بِذِكْرِي، يُعَلِّمونَ النَّاسَ الْخَيْرَ، وَيدْعُونهمْ إِلَى طاعَتِي؛ أُوْلَئِكَ أَوْلِيائِيَ الَّذِينَ أُظِلُّهُمْ في ظِل عَرْشِي، وَأُسْكِنُهْم في جِوارِي، وَأُؤَمنُهُمْ مِنْ عَذابِي، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ قَبلَ الناسِ بِخَمْسِ مِئَةِ عامٍ يَتَنَعَّمُونَ فِيها، وَهُمْ فِيها خالِدُونَ".

ثم قرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62](2).

وروى الإِمام أحمد، والطبراني عن عمرو بن الجموح رضي الله تعالى عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يَجِدُ العَبْدُ صَرِيحَ الإِيْمانِ حَتى يُحبَّ لله ويبْغِضَ للهِ، فَإِذا أَحَبَّ لله وَأَبْغَضَ لله فَقَدِ اسْتَحَقَّ

(1) رواه الإِمام أحمد في "المسند"(5/ 229)، والحاكم في "المستدرك"(7314)، وكذا الإِمام مالك في "الموطأ"(2/ 953) واللفظ الذي ذكره المؤلف بالمعنى.

(2)

انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (4/ 372).

ص: 218

الولايَةَ لِلَّهِ" (1).

وأخرجه ابن أبي الدنيا بنحوه، وزاد:"قالَ اللهُ تَعالَى: إِنَّ أَوْلِيائِي مِنْ عِبادِي وَأَحِبَّائِي مِنْ خَلْقِي الَّذِينَ يُذْكَرُونَ بِذِكْرِي وَأُذْكَرُ بِذِكْرِهِمْ"(2).

وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: عادِ في الله ووالِ في الله؛ فإنه لا ينال ولاية الله إلا بذلك، ولا يجد رجل طعم الإيمان -وإن كثرت صلاته وصيامه- حتى يكون كذلك (3).

وروى ابن أبي الدنيا عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ اسْتَحَقَّ ولايَةَ اللهِ وَطاعَتَهُ: حِلْمٌ أَصِيلٌ يَدْفَعُ بِهِ سَفَه السَّفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَوَرَعٌ صادِقٌ يَحْجُزُهُ عَنْ مَعاصِي اللهِ، وَخُلُقٌ حَسَنٌ يُدارِي بِهِ النَّاسَ"(4).

وروى أبو نعيم عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله تَعالَى أَوْحَى إِلَيَّ: يا أَخا الْمُرْسَلِينَ! وَيا أَخا الْمُنْذِرِينَ! أَنْذِرْ قَوْمَكَ أَنْ لا يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ بُيوتي وَلأَحِدٍ عِنْدَهُمْ مَظْلَمَةٌ؛ فَإِنِّي ألعَنُهُ ما دامَ قائِمًا بَيْنَ

(1) رواه الإِمام أحمد في "المسند"(3/ 430)، وهو عند الطبراني في "المعجم "الأوسط" (651) من حديث عمرو بن الحمق رضي الله عنه. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 58): رواه الطبراني وفيه رشدين بن سعد، والأكثر على تضعيفه.

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأولياء"(ص: 16).

(3)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(9514).

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأولياء"(ص: 13).

ص: 219

يَدَيَّ يُصَلِّي حَتَّى يَرُدَّ تِلْكَ الْمَظْلَمَةَ إِلَى أَهْلِها، فَأكُونَ سَمْعَهُ الّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَأكُونَ بَصَرُهَ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَكُونَ مِنْ أَوْلِيائِي وَأَخِصَّائِي، وَيَكُونَ جارِيَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ في الْجَنَّةِ" (1).

وروى ابن المبارك في "الزهد والرقائق" عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: ثلاث من كن فيه دخل الجنة: من إذا عرف حقًّا لله عز وجل لم يؤخره إلى أيام لا يدركها، وكان عمله صالحا في العلانية على قوام من السريرة، وكان يجمع مع ما قد عمل صلاح ما يأمل؛ فهكذا ولي الله (2).

وروى الطبراني في "الأوسط" عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ مِنْ مُوجِباتِ ولايَةِ الله تَعالَى ثلاثًا: إِذا رَأى حَقًّا مِنْ حُقوقِ اللهِ تَعالَى لَمْ يُؤَخِّرْهُ إِلَى أَّيامٍ لا يُدْرِكُها، وَأَنْ يَعْمَلَ العَمَلَ الصَّالح في العَلانِيَةِ على قِوامٍ مِنْ عَمَلِهِ في السَّرِيرَةِ، وَهُوَ يَجْمَعُ مَعَ ما يَعْمَلُ صَلاحَ ما يَأْمَلُ".

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَهَكَذا وَلِيُّ اللهِ"؛ وعقد ثلاثًا (3).

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 116) وقال: غريب، وكذا ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(6/ 116).

(2)

رواه ابن المبارك في "الزهد"(2/ 98).

(3)

ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 17). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 269): رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه من لم أعرفهم.

ووقع في "أ" و "ت": "ثلاثين" بدلًا "ثلاثاً".

ص: 220

وروى هو وأبو نعيم عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيائِي عِنْدِي مُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحاذِّ (1)، ذُو حَظٍّ مِنْ صَلاةٍ وَصِيامٍ، أَحْسَنَ عِبادةَ رَبِّهِ عز وجل وَأَطاعَهُ في السِّرِّ وَالعَلانِيَةِ، وَكانَ غامِضاً في النَّاسِ لا يُشارُ إِلَيْهِ بِالأَصابعِ، وَكانَ عَيْشُهُ كفافاً، وَصَبَرَ على ذَلِكَ، فَعُجِّلَتْ مَنِيتُهُ، وَقَلَّتْ بَواكِيهِ، وَقَلَّ تراثُهُ"(2).

ورواه الإمام أحمد، والبيهقي، ولفظه:"إِنَّ أَحْسَنَ أَوْلِيائِي عِنْدِي مَنْزِلَةً رَجُلٌ ذُو حَظٍّ مِنْ صَلاةٍ، أَحْسَنَ عِبادةَ رَبهِ في السِّرِّ، وَكانَ غامِضاً في النَّاسِ لا يُشارُ إِلَيْهِ بِالأَصابعِ، عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ، وَقَلَّ تُراثُهُ، وَقَلَّتْ بَواكِيهِ"(3).

قلت: ولا شك أن من كان من أولياء النبي صلى الله عليه وسلم فهو من أولياء الله تعالى.

وقلت في معناه: [من الوافر]

(1) الحاذ: بطن الفخذ، وقيل هو الظهر، والموضع الذي يقع عليه اللبد من ظهر الفرس يقال له: حاذ، والمراد في الحديث: القليل الحظ من الدنيا.

(2)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(7829)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 25).

(3)

رواه الإِمام أحمد في "المسند"(5/ 255)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(5/ 329).

ص: 221

وَلِيُّ الله مَنْ والَى النَبِيَّا

وَكانَ بِالاقْتِداءِ بِهِ حَرِيَّا

غَمِيضٌ في الوَرى لَمْ يُوْمَ يَومًا

إِلَيْهِ وَلَمْ يَنَلْ صِيتًا عَلِيَّا

يُصَلِّي مُحْسِنًا في السِّرِّ ناجَى

بِإخلاصٍ وَإِشْفاقٍ خَفِيَّا

كَفافًا عَيْشُهُ قَدْ نالَ صَبراً

يَمُوتُ فَلَمْ تَجِدْ قَوما بُكِيَّا

وَلَمْ يَتْرُكْ مِنَ الدّنْيا تراثًا

وَلَكِنْ كانَ بِالتَّقْوى مَلِيَّا

وحديث أبي أمامة عند الإِمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم في "المستدرك"، ولكن لفظه:"إِنَّ أَغْبَطَ النَّاسِ عِنْدِي لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحاذِّ، ذُو حَظٍّ مِنَ الصَّلاةِ، أَحْسَنَ عِبادةَ ربهِ، وَأَطاعَهُ في السِّرِّ، وَكانَ غامِضًا في النَّاسِ لا يُشارُ إِلَيْهِ بِالأَصابعِ، وَكانَ رِزْقُهُ كفافًا فَصَبَرَ عَلى ذَلِكَ، عُجلَتْ مَنِيتُهُ، وَقَلَّتْ بَواكِيهِ، وَقَلَّ تراثُهُ (1) "(2).

وروى الثعلبي وغيره عن علي رضي الله عنه: أنه قال في أولياء الله تعالى: [من مجزوء الكامل]

صُفْرُ الوُجُوه مِنَ السَّهَر

عُمْشُ العُيونِ مِنَ العِبَر

(1) تراثه: أي ميراثه.

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 252)، والترمذي (2347) وقال: علي ابن يزيد ضعيف الحديث، ابن ماجه (4117)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 137).

ص: 222

خُمْصُ البُطُونِ مِنَ الطَّوَى

يُبْسُ الشِّفاهِ مِنَ الذَّوَى (1)(2)

وروى الدينوري في "المجالسة" عن المدائني قال: نظر علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إلى قوم ببابه، فقال لقنبر: يا قنبر! من هؤلاء؟

قال: هؤلاء شيعتك يا أمير المؤمنين.

قال وما لي لا أرى فيهم سيماء الشيعة؟

قال: وما سيماء الشيعة؟

فقال:

خُمْصُ البُطُونِ مِنَ الطوَى

يُبْسُ الشِّفاهِ مِنَ الظَّما

عُمْشُ العُيونِ مِنَ البُكا (3)

فوصف شيعته في هذا الخبر بما وصف به الأولياء في الخبر الآخر، فشيعة علي رضي الله تعالى عنه هم أولياء الله تعالى.

وكيف يكون من أوليائه من يبغض أولياءه؟ وأفضل أولياء الله الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأفضل الصحابة أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما.

(1) بياض في "ت".

(2)

انظر: "تفسير الثعلبي"(5/ 137).

(3)

رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 216).

ص: 223

وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" عن يوسف بن يعقوب الحنفي قال: بلغنا أن الله عز وجل يقول: يا أوليائي! طال ما نظرت إليكم في الدنيا وقد قَلَصَتْ شفاهكم عن الأشربة، وغارت أعينكم، وَخَمصَت بطونكم؛ فكونوا اليوم في نعيمكم، وكلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية (1).

وروى الإِمام أحمد في "الزهد"، وابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" عن وهب بن منبه قال: قال الحواريون لعيسى بن مريم عليهما السلام: مَنْ أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟

قال عيسى عليه السلام: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها، وأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، وتركوا ما علموا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالاً، وذكرهم إياها فواتاً، وفرحهم بما أصابوا منها حزنا، فما عارضهم من نائلها رفضوه، وما عارضهم من رفعتها بغير حق وضعوه، خلقت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها، وخربت بينهم فليسوا يعمرونها، وماتت في صدورهم فليسوا يحبونها، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، رفضوها فكانوا برفضها فرحين، وباعوها فكانوا ببيعها رابحين، ونظروا إلى أهلها صرعى قد خلت فيهم المَثُلات، فأحبوا ذكر الموت، وأماتوا ذكر الحياة، يحبون الله

(1) ورواه الثعلبي في "التفسير"(10/ 30).

ص: 224

ويحبون ذكره، يستضيئون بنوره، لهم الخبر العجيب، وعندهم الخبر العجيب، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وبهم علم الكتاب وبه علموا، ليسوا يرون نائلاً مع ما نالوا، ولا أمانًا دون ما يرجون، ولا خوفاً دون ما يحذرون (1).

وروى أبو نعيم عن وهب: أن الله عز وجل أوحى إلى داود عليه السلام: يا داود! إنما يكفي أوليائي اليسير من العمل، كما يكفي الطعام [القليل] من الملح.

يا داود! هل تدري متى أتولاهم؟ إذا طهَّروا قلوبهم من الشرك، ونزعوا قلوبهم من الشك، وعلموا أن لي جنة وناراً، وأني أحي وأميت، وأبعث من في القبور، وأني لم أتخذ صاحبة ولا ولدًا؛ فإن توفيتهم بيسير من العمل وهم موقنون بذلك جعلته عظيمًا عندي (2).

وروى ابن أبي الدنيا عن عثمان بن عمارة عن بعضهم قال: إن أولياء الله أرضى عن الله صلى الله عليه وسلم من أن يسألوه ينقلهم من حالة إلى حالة حتى يكون هو الذي ينقلهم (3).

وعن أحمد بن أبي الحواري قال: أخبرني محمَّد بن جعفر من

(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الأولياء"(ص: 15)، وكذا ابن أبي حاتم في "التفسير"(6/ 1964).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 46).

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأولياء"(ص: 24).

ص: 225

الأبناء قال: ذكروا عند رابعة عابداً من بني إسرائيل ينزل من متعبده في كل سنة، فيأتي مزبلة على باب الملك، فيلتقم من فضول مائدته، فقال رجل عندها: وما على هذا إذ كان له هذه المنزلة أن يسأل الله أن يجعل رزقه من غير هذا؟

فقالت رابعة: يا هذا! إن أولياء الله إذا قضي لهم قضاء لم يسخطوه (1).

وروى الإِمام أحمد في "الزهد"، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى: أن الله تعالى قال لموسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون: ولا تغرنكما بزَّته، ولا ما متع به، ولا تمدان إلى ذلك أعينكما؛ فإنها زهرة الدنيا وزينة المترفين، وإني لو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته [تعجز] عن مثل ما أوتيتما فعلت، ولكن أرغب بكما عن ذلك، وأزويه عنكما، وكذلك أفعل بأوليائي، وقديمًا ما خرت لهم في أمور الدنيا؛ فإني لأذودهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مواقع الهَلَكة، وإني لأجنبهم سكونها (2) وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة، وما ذلك لهوانهم علي، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفراً لم تكلمه

(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الأولياء"(ص: 24).

(2)

في "الزهد": "سلوتها" بدل "سكونها".

ص: 226

الدنيا، ولم يُطْغِه الهوى.

واعلم أنه لم يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا؛ فإنه زينة المتقين، عليهم منه لباس يعرفون به من السكينة والخشوع، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، أولئك هم أوليائي حقًا، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك، وذلل لهم قلبك ولسانك.

واعلم أن من أهان لي ولياً، أو أخافه فقد بارزني (1) بالمحاربة، وبادأني وعرض لي نفسه، ودعاني إليها، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم بي، أَوَيظن الذي يحاددني أو يعاديني أن يعجزني، أَوَيظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني؛ كيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة، لا أكِلُ نصرتهم إلى غيري (2).

وذكر حجة الإِسلام أبو حامد الغزالي في "الإحياء" أن ابن لقمان قال لأبيه: يا أبت! أي الخصال من الإنسان خير؟

قال: الدين.

قال: فإذا كانتا اثنتين؟

قال: الدين، والمال.

قال: فإذا كانت ثلاثًا؟

(1) في "أ" و "ت": "بارزته".

(2)

رواه الإِمام أحمد في "الزهد"(ع: 64)، وابن أبي الدنيا في "الأولياء" (ص: 47).

ص: 227

قال: الدين، والمال، والحياء.

قال: فإذا كانت أربعاً؟

قال: الدين، والمال، والحياء، وحسن الخلق.

قال: فإذا كانت خمساً؟

قال: الدين، والمال، والحياء، وحسن الخلق، والسخاء.

قال: فإذا كانت ستاً؟

قال: يا ولدي! إذا اجتمعت فيه الخمس فهو تقي نقي، لله ولي، ومن الشيطان بري (1).

وقلت في المعنى: [من الرجز]

الدّينُ ثُمَّ الْمالُ فَالْحَياءُ

فَالْخُلُقُ الْحَسَنُ فَالسَّخاءُ

خَيْرُ خِصالٍ هِيَ في الإِنْسانِ

كَما أَتَى في النَّقْلِ عَنْ لُقْمانِ

فَإِنْ تَكُنْ مَجْمُوعَةً في رَجُلِ

فَهْوَ التَّقِيُّ وَالنَّقِيُّ وَالوَليْ

وروى أبو الشيخ بن حيان في كتاب "الثواب" عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جُبِلَ وَلِيٌّ لِلَّهِ إِلَاّ عَلى السَّخاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ"(2).

(1) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 52).

(2)

ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(54/ 472)، وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 95) ونقل عن الدارقطني قوله: الحديث لا يثبت.

ص: 228

وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" عن عبد الواحد بن زيد رحمه الله تعالى قال: أولياء الله تعالى هم الألباء العقلاء، الحذِرون المسارعون في رضوان الله المراقبون لله (1).

وروى أبو نعيم عن أبي عمرو الرازي (2) قال: من صفات الأولياء ثلاث: الرجوع إلى الله في كل شيء، والفقر إلى الله في كل شيء، والثقة بالله في كل شيء (3).

وعن محمَّد بن أبي الورد رحمه الله تعالى قال: ولي الله إذا زاده (4) ثلاثة أشياء زاد منه ثلاثة أشياء: إذا زاد جاهه زاد تواضعه، وإذا زاد ماله زاد سخاؤه، وإذا زاد عمره زاد اجتهاده (5).

وعن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى قال: تضاحكت الأشياء إلى أولياء الله العارفين بأفواه القدرة عن مليكهم لما يرون من آثار صنعه فيها، ويعاينون من بدائع خلقه معهم، فلهم في كل شيء معتبر، وعند كل شيء مذكر (6).

(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الأولياء"(ع: 24) لكن عن عطاء بن مسلم عن رجل.

(2)

في "حلية الأولياء": "المروزي" بدل "الرازي".

(3)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 155).

(4)

غير واضحة في "ت".

(5)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 315).

(6)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 54).

ص: 229

وعن الربيع بن أنس قال: كنت عند صفوان بن محرز خاليًا، فدخل علينا شابٌّ من أصحاب الأهواء، فذكر أشياء، فقال: أيها الفتى! ألا أدلك على خاصة الله التي خص بها أولياءه؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] الآية (1).

وروى أبو الحسن بن جهضم عن عمرو بن عثمان المكي: قال: ثلاثة أشياء من صفات أولياء الله: الرجوع إلى الله في كل شيء

إلى آخر ما ذكره أبو نعيم عن ابن عمرو الرازي (2).

وروى أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقاته" عن معروف الكرخي رحمه الله تعالى أنه سئل ما علامة الأولياء؟

قال: ثلاثة: همومهم الله، وشغلهم فيه، وفرارهم إليه (3).

وعن أحمد بن خضرويه قال: ولي الله لا يَسِم (4) نفسه بسيماء، ولا يكون له اسم يتسمى به (5).

وعن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى قال: ثلاث خصال من خصال الأولياء: الثقة بالله في كل شيء، والغنى به عن كل شيء،

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 215).

(2)

ورواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(12/ 223).

(3)

رواه السلمي في "طبقات الصوفية"(ص: 85).

(4)

في "أ": "يوسم".

(5)

رواه السلمي في "طبقات الصوفية"(ص: 95).

ص: 230

والرجوع إليه في كل شيء (1).

وعن أبي القاسم الجنيد رحمه الله تعالى قال: الحياء من الله أزال عن قلوب أوليائه سرور المنة (2).

وعن شاه الكرماني رحمه الله تعالى قال: لأهل الفضل فضلٌ ما لم يَرَوْهُ، فإذا رأوه فلا فضل لهم، ولأهل الولاية ولايةٌ ما لم يروها، فإذا رأوها فلا ولاية لهم (3).

وعن محمَّد بن حامد الترمذي رحمه الله تعالى قال: الولي في ستر حاله أبدًا، والكون كله ناطق عن ولايته، والدَّعِي ناطق به؛ أي: بنفسه، والكون كله ينكر عليه (4).

وعن أبي عبد الله محمَّد بن أحمد بن سالم صاحب سهل التُّسْتَري رحمهما الله تعالى أنه سئل: بم تعرف الأولياء في الخلق؟

قال: بلطف لسانهم، وحسن أخلاقهم، وبشاشة وجوههم، وسخاوة أنفسهم، وقلة اعتراضهم، وقبول عذر من اعتذر إليهم، وتمام الشفقة على جميع الخلائق؛ بَرِّهِم وفاجرهم (5).

(1) رواه السلمي في "طبقات الصوفية"(ص: 100).

(2)

رواه السلمي في "طبقات الصوفية"(ص: 133).

(3)

رواه السلمي في "طبقات الصوفية"(ص: 157).

(4)

رواه السلمي في "طبقات الصوفية"(ص: 218).

(5)

رواه السلمي في "طبقات الصوفية"(ص: 313).

ص: 231

وعن عبد الله الرازي قال: الخلق كلهم يدعون المعرفة، لكنهم عن صدق المعرفة بمعزل.

قال: وصدق المعرفة خص بها الأنبياء عليهم السلام، والسادة من الأولياء رضي الله عنهم (1).

وعن أبي الحسن البوشنجي رحمه الله تعالى قال: الناس على ثلاث منازل:

الأولياء: وهم الذين باطنهم أفضل من ظاهرهم.

والعلماء: وهم الذين سرهم وعلانيتهم سواء.

والجهال: وهم الذين علانيتهم تخالف أسرارهم، وهم لا ينصفون من أنفسهم ويطلبون الإنصاف من غيرهم (2).

ونقل الثعلبي عن ابن كيسان في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} [يونس: 62] الآية؛ قال: هم الذين تولى الله هداهم بالبرهان، وتولوا القيام بحقه والدعاء إليه (3).

وهذا مبني على جعل الولي بمعنى المفعول وبمعنى الفاعل جميعًا.

وقال أبو القاسم القشيري في باب الولاية من "رسالته": الولي له معنيان:

(1) رواه السلمي في "طبقات الصوفية"(ص: 338).

(2)

رواه السلمي في "طبقات الصوفية"(ص: 343).

(3)

انظر: "تفسير الثعلبي"(5/ 138).

ص: 232

أحدهما: فعيل بمعنى مفعول، وهو من يتولى الله سبحانه أمره.

قال تعالى: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]، فلا يكله إلى نفسه لحظة، بل يتولى الحق رعايته.

والثاني: فعيل مبالغة من الفاعل، وهو الذي يتولى عبادة الله بطاعته، فعبادته تجري على التوالي من غير أن يتخللها عصيان.

قال: وكذا الوصفين واجب حتى يكون الولي ولياً يجب قيامه بحقوق الله على الاستقصاء والاستيفاء، ودوام حفظ الله إياه في السراء والضراء.

قال: ومن شرط الولي أن يكون محفوظا كما أن من شرط النبي أن يكون معصوماً، وكل من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخدوع.

قال: وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله تعالى يقول: قصد أبو يزيد البسطامي رحمه الله تعالى بعض من وُصف بالولاية، فلما وافى مسجده قعد ينتظر خروجه، فخرج الرجل وتنخم في المسجد، فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه، وقال: هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة؛ فكيف يكون أمينا على أسرار الحق؟ انتهى (1).

وذكر نحو ذلك في "عيون الأجوبة"، وزاد فيه: إن الولي من حيث الاستحقاق -يعني: للولاية- من يكون لربه ولا يكون لنفسه.

قال: ومعناه سقوط حظوظه، وقيام حقوق الحق بعد زوال نفسه

(1) انظر: "الرسالة القشيرية"(ص: 292).

ص: 233

كما قيل: [من الوافر]

فَسِرْتُ إِلَيْكَ في طَلَبِ الْمَعالِي

وَسارَ سِوايَ في طَلَبِ الْمَعاشِ (1)

وقد علمت من كلامنا السابق أن الولاية لا تتم إلا بولاية الله تعالى للعبد، فإذا تولى الله العبد تولى العبد طاعة الله تعالى فصار ولياً.

وهذا معنى قوله: وكذا الوصفين واجب حتى يكون الولي وليا.

وذكر في "التحبير": من علامات من يكون الحق وليّه أن يصونه ويمونه، ويعينه على قلبه في كل نفس بتحقيق آماله عند إشارته، وتعجيل مآربه عن خطراته، وأن يديم توفيقه حتى لو أراد سوءًا أو قصد محذوراً عصمه عن ارتكابه، ولو مال إلى تقصير في طاعته لم يتسهل له، بل ينقلب ذلك توفيقا وتأييدًا، وأن يرزقه مودة في قلوب أوليائه تجلب له زيادة الإفضال والإنعام من الله عز وجل.

قلت: وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستنصر بتولي الله تعالى له، فقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 195، 196]؛ أي: الذي يتولى نصرتي وحفظي الله، فالولي بمعنى الناصر والحفيظ، فإذا تولى الله العبد وفقه لولايته فيكون ناصرًا لله تعالى ولأمره، حفيظا لحقوقه وحقوق

(1) انظر: "تفسير القشيري"(1/ 428).

ص: 234

خلقه، فإذا كان كذلك زاده الله تعالى نصرة وحفظًا وتوفيقاً.

قال الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40].

وقال: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ، احْفَظِ الله تَجِدْهُ تُجاهَكَ"(1).

فالغالب على الولي في حال صحوه كما قال القشيري في باب كرامات الأولياء من "رسالته" صدقُه في أداء حقوق ربه سبحانه، ثم رفقه والشفقة على الخلق في جميع أحواله، ثم انبساط رحمته لكافة الخلق، ثم دوام تحمله عنهم بجميل الخلق، وانتدابه لطلب الإحسان من الله إليهم من غير التماس منهم، وتعليق الهمة تجاه الخلق، وترك الانتقام منهم، والتوقي عن استشعار حقه عليهم مع قصر اليد عن أموالهم، وترك الطمع بكل وجه فيهم، وقبض اللسان عن بسطه بالسوء فيهم، والتصاون عن شهود مساوئهم، وترك الانتقام منهم، ولا يكون خصماً لأحد في الدنيا والآخرة (2).

هذا ما ذكره القشيري، ويستثنى من قوله: وترك الانتقام منهم والتوقي عن استشعار حقه عليهم: ما لو انتهكت محارم الله؛ فيجب الغضب عند ذلك على المنتهك من حيث جرأتُه على الله تعالى، لا من

(1) تقدم تخريجه.

(2)

انظر: "الرسالة القشيرية"(1/ 382).

ص: 235

حيث إن الله تعالى قلبه في ذلك، فيرحمه من هذه الحيثية ويود أن لو عوفي من ذلك.

وكذلك انبساط رحمته لكافة الخلق من حيث ضعفهم، لا من حيث إن الله تعالى أراد ما أراد فيهم، فليس له أن يريد خلاف ما أراده الله تعالى.

قال القشيري: وقيل: إن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى قال لرجل: أتحب أن تكون لله وليًا؟

قال: لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة، وفَرغ نفسك لله عز وجل، وأقبل بوجهك عليه ليقبل عليك ويواليك (1).

وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" عن مسمع بن عاصم قال:

اختلف العابدون عندنا في الولاية، فقال بعضهم إذا استحقها عبد لم يهم بشيء إلا ناله في دين كان أو دنيا.

وقال الآخر: الولي لا يعصى غير أنه لا يدرك الشيء الذي يريده من الدنيا بهمه، ولا يدركه إلا بطلبه كأنهم يقولون: يدعو فيجاب.

وقال آخرون: المستحق للولاية لا يعرض لانتقاص حظه من الآخرة.

فتكلموا في ذلك بكلام كثير، فأجمعوا على أن يأتوا امرأة من بني عدي يقال لها: أمة الجليل بنت عمرو العدوية، وكانت منقطعة جداً من طول الاجتهاد، فاستأذنوا عليها، فأذنت لهم، فعرضوا عليها اختلافهم،

(1) انظر: "الرسالة القشيرية"(1/ 293).

ص: 236

فقالت: ساعات الولي ساعات شغل عن الدنيا، ليس للولي المستحق في الدنيا من حاجة.

ثم أقبلت على بعضهم فقالت: من حدثك، أو أخبرك أن وليّه له هم غيره فلا تصدقه (1).

وفي معناه أنشدوا: [من البسيط]

كانَتْ لِقَلْبِيَ أَهْواء مُشَتَّتَةٌ

فَاسْتَجْمَعَتْ مُذْ رَأتكَ النَّفْسُ أهْوائِي

وَصارَ يَحْسُدُنِي مَنْ كُنْتُ أَحْسُدُهُ

وَصِرْتُ مَولَى الوَرى مُذْ صِرْتَ مَوْلائِي (2)

وأنشدوا أيضًا: [من الخفيف]

لِي شُغُلٌ وَلِلْعَوالِمُ شُغْلُ

شُغْلُها فَضْلَةٌ وَشُغْلِيَ فَضْلُ

أَنْتَ يا واهِبَ الْمَحامِدِ شُغْلِي

حَبَّذا الشُّغْلُ شُغْلُ مَنْ لا يَمَلُّ

(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الأولياء"(ص: 36).

(2)

البيتان لأبي المعالي عبد الملك بن أبي نصر الجيلي، كما في "ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار (16/ 146).

ص: 237

كُلّ ما هامَتِ الْعَوالِمُ فيه

فَهْوَ فَرْعٌ وَأَنْتَ لِلْكُلِّ أَصْلُ

وذكرت بذلك ما رواه الدارقطني في "الأفراد" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهلُ شُغْلِ الله في الدُّنْيا هُمْ أَهْلُ شُغْلِ الله في الآخِرَةِ، وَأَهْلُ شُغْلِ أَنْفُسِهِمْ في الدنْيا هُمْ أَهْلُ شُغْلِ أَنْفُسِهِمْ في الآخِرَةِ"(1).

وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "الزهد" عن شميط بن عجلان قال: إن أولياء الله آثروا رضي ربهم عز وجل على هوى أنفسهم، فأرغموا أنفسهم كثيرًا لرضى ربهم تبارك وتعالى، فأفلحوا وأنجحوا (2).

وروى أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقاته"، وأبو نعيم عن أبي يزيد البسطامي رحمه الله تعالى: اطلع الله على قلوب أوليائه فمنهم من لم يكن يصلح لحمل المعرفة صرفًا فشغلهم بالعبادة (3).

وذكر السلمي في "الحقائق" عنه قال: ولي الله الذي يأخذ كتاب الله بيمينه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بشماله، ويتزر بالدنيا، ويرتدي بالآخرة، ويلي

(1) رواه الدارقطني في "الأفراد" كما في "أطراف الغرائب والأفراد"(5/ 257)، وكذا الديلمي في "مسند الفردوس"(1660).

(2)

ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 127).

(3)

رواه السلمي في "طبقات الصوفية"(ص: 71)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 39).

ص: 238

من بينهما للهولى؛ أي: يجيبه إلى أوامره.

ونقل القشيري عنه قال: حظوظ الأولياء مع تباينها من أربعة أسماء، وقيام كل طائفة منهم من اسم منها؛ وهي الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، فمن فني عنها بعد ملابستها فهو الكامل التام.

فمن كان حظه من اسمه الظاهر لاحظ عجائب قدرته.

ومن كان حظه من اسمه الباطن لاحظ ما جرى في السرائر من أنواره.

ومن كان حظه من اسمه الأول كان شغله بما سبق.

ومن كان حظه من اسمه الآخر كان مرتبطاً بما يستقبله.

وكلٌّ كوشف على قدر طاقته إلا من تولاه الله ببره وقام عنه بنفسه (1).

قال القشيري رحمه الله تعالى: هذا الذي قاله أبو يزيد يشير إلى أن الخواص من عباده سبحانه ارتفعوا عن هذه الأقسام، فلا العواقب هم في ذكرها، ولا السوابق هم في فكرها، ولا الطوارق هم في أسراها.

قال: وكذا أصحاب الحقائق يكونون محواً عن نعوت الخلائق.

قال الله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18] ، انتهى (2).

(1) انظر: "تفسير السلمي"(1/ 306).

(2)

انظر: "الرسالة القشيرية"(ص: 294).

ص: 239

ونقل أبو طالب المكي عن سهل بن عبد الله التُّستري رحمه الله تعالى أنه قال: مخالطة الولي للناس ذل، وتفرده عز، وقَلَّما رأيت ولياً لله إلا منفردًا (1).

ونقل القشيري عنه قال: الولي الذي توالت أفعاله على الموافقة (2).

ونقل عنه غيره أنه قال: الولاية ملك (3) النفس وسعة الصدر (4).

وروى أبو نعيم عن أبي يزيد رحمه الله تعالى قال: أولياء الله مخدرون معه في جمال (5) الأنس به، لا يراهم أحد في الدنيا والآخرة إلا من كان محرمًا لهم، وأما غيرهم فلا إلا منتقبين من وراء حجبهم (6).

وروى القشيري عنه قال: أولياء الله عرائس الله، ولا يرى العرائس إلا المحرمون، وهم مخدرون عنده في جمال الإنس، لا يراهم أحد في الدنيا ولا في الآخرة (7)؛ فلا يراهم أحد على ما هم عليه وإن رأوا أجسادهم وخالطوهم وهم غير عارفين بهم.

(1) انظر: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (1/ 174).

(2)

وانظر: "تفسير السلمي"(1/ 306).

(3)

في "تفسير السلمي": "طيب" بدل "ملك".

(4)

ذكره السلمي في "تفسيره"(1/ 313) لكن عن محمَّد بن الفضل.

(5)

في "حلية الأولياء": "حجال" بدل "جمال".

(6)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 41).

(7)

انظر: "الرسالة القشيرية"(ص: 294).

ص: 240

أما في الدنيا فالولي يكون بين ظهرانيهم وهم يحسبونه كواحد منهم، وهو مشاهد لمولاه ملاحظ لرضاه.

وأما في الآخرة فالولي يراه من يراه فيما يكون فيه بظاهره، ولا يعلمون ما بينه وبين الله من القرب والمسارة.

بل من أولياء الله تعالى من يستره الله تعالى في الدنيا بما يخيِّله إلى حُسَّاده من الركون إليها والعكوف عليها، والعصيان فيها، وهو فيما بينه وبين الله تعالى في طاعة (1).

وفي المعنى قلت: [من الهزج]

يَلُومُوني على فِعْلِي

بِفَرْطِ اللَّوْمِ وَالعَتَبِ

وَلا يَدْرُونَ ما بَيْني

وَبَيْنَ اللهِ في قَلْبِي

تَرانِي مُبْعِداً عَنْهُ

وَإِنِّي مِنْهُ في قُرْبِ

وروى [القشيري عن] النصرآبادي قال: ليس للأولياء سؤال، إنما هو الذبول والخمود.

قال: نهايات الأولياء بدايات الأنبياء عليهم السلام (2).

(1) تقدم للمؤلف رحمه الله نقده لمن يخيل للناس هذه الأفعال، وأنها ليست من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في شيء.

(2)

انظر: "الرسالة القشيرية"(ص: 294)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (7/ 106).

ص: 241

قال القشيري: وقال أبو عثمان المغربي: الولي قد يكون مشهوراً، ولكن لا يكون مفتونًا.

قال: وقال يحيى بن معاذ: الولي لا يرائي ولا ينافق، وما أقل صديق من كان هذا خلقه.

قال: وقال أبو علي الجوزجاني: الولي هو الفاني في حاله، الباقي في مشاهدة الحق، تولى الله سياسته (1) فتوالت عليه أنوار التولي، لم يكن له عن نفسه أخبار ولا مع غيره قرار (2).

قال: وقال يحيى بن معاذ. الولي ريحان الله في الأرض يشمه الصديقون، فتصل رائحته إلى قلوبهم، فيشتاقون به إلى مولاهم، ويزدادون عبادة على تفاوت أخلاقهم (3).

قلت: وهذا من معاني قوله صلى الله عليه وسلم في الأولياء: "الَّذِينَ يُذْكَرُ اللهُ لِرُؤْيتهِمْ أَوْ بِذِكْرِهِمْ" كما تقدم.

قال القشيري: وقال يحيى في صفة الأولياء: هم عباد تسربلوا بالأنس بعد المكابدة، واعتنقوا الرَّوح بعد المجاهدة بوصولهم إلى مقام الولاية (4).

(1) في "الرسالة": "أسبابه" بدلًا "سياسته".

(2)

انظر: "الرسالة القشيرية"(ص: 294).

(3)

انظر: "الرسالة القشيرية"(ص: 295).

(4)

انظر: "الرسالة القشيرية"(ص: 293).

ص: 242

قال: وسئل الواسطي رحمه الله تعالى: كيف يغذى الولي في ولايته؟

قال: في بدايته بعبادته، وفي كهولته بستره بلطافته، ثم يجذبه إلى ما سبق له من نعوته وصفاته، ثم يذيقه طعم قيامه به في أوقاته.

قال: وقال الخرّاز رحمه الله تعالى: إذا أراد الله أن يوالي عبدًا من عبيده فتح عليه باب ذكره، فإذا استلذ الذكر فتح عليه باب القرب، ثم رفعه إلى مجالس الأنس، ثم أجلسه على كرسي التوحيد، ثم رفع عنه الحجب، وأدخله دار الفردانية، وكشف عنه الجلال والعظمة، فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة بقي بلا هو، فحينئذ صار العبد زمِناً فانيًا، فوقع في حفظه سبحانه، وبرئ من دعاوى نفسه (1).

وقال في باب الذكر: سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله تعالى يقول: الذكر منشور الولاية؛ فمن وفق للذكر فقد أعطي المنشور، ومن سلب الذكر فقد عزل (2).

وقال جدي رضي الدين رضي الله تعالى عنه في "ألفيته" في معناه: [من الرجز]

وَالذِّكْرُ مِنْهُ مَدَدُ الكَرامَة

وَهْوَ عَلى وِلايَةٍ عَلامَة

ويؤيده ما رواه الشيخان، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن

(1) انظر: "الرسالة القشيرية"(ص: 295).

(2)

انظر: "الرسالة القشيرية"(ص: 256).

ص: 243

أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهُ تَعالَى: أَنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنا مَعَهُ إِذا ذَكَرَني"(1).

وروى ابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي من حديثه، والحاكم -وصححه - من حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل يقول:"أَنا مَعَ عَبْدِي إِذا هُوَ ذَكَرَني وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتاه"(2).

وصحح الحاكم أيضًا عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قالَ اللهُ تَعالَى: عَبْدِي! أَنا عِنْدَ ظَنكَ بِي وَأَنا مَعَكَ إِذا ذَكَرْتَنِي"(3).

وهذه المعية معية النظرة والحفظ والمعونة، وهو معنى ولاية الله تعالى لعبده؛ فمن ذكر الله تعالى ذِكْرَ طاعة وتعظيم وإجلال، فتوفيقه للذكر دليل ولاية الله تعالى.

وروى أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقاته" عن أبي حفص الحداد

(1) رواه البخاري (6970)، ومسلم (2675)، والترمذي (3603)، والنسائي في "السنن الكبرى"(7730)، وابن ماجه (3822).

(2)

رواه ابن ماجه (3792)، وابن حبان في "صحيحه"(815)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(509)، وذكره البخاري في "صحيحه"(6/ 2736) معلقًا عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ورواه الحاكم في "المستدرك"(1824) عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

(3)

رواه الحاكم في "المستدرك"(1828).

ص: 244

رحمه الله تعالى قال: الولي من أيد بالكرامات وغيب عنها (1).

وروى أبو الحسن بن جهضم عن أبي محمَّد الجريري رحمه الله تعالى قال: من لم تكن فيه خصلتان فلا يطمع في الولاية: نزاهة طبع، وخلقه ظرف.

قلت: نزاهة الطبع طهارته ونظافته من الأخلاق السيئة والخلال القبيحة، فإما أن يكون ذلك في أصل الطبع والجبلة كحال ابني الخالة عيسى ويحيى عليهما السلام.

وإما أن يكون ذلك مخالفًا لطبعه، وهو أعظم أجرًا من الأول لأنه في جهاد، ولا يعذر في موافقة طبعه المخالف لما أمر به كما قال أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى: الإنسان لا يعاب بما في طبعه، إنما يعاب إذا فعل ما في طبعه. رواه أبو نعيم (2).

والمراد بالظرف ما رواه ابن جهضم عن الجنيد رحمه الله تعالى: أن رجلًا وقف عليه في حلقته فقال له: جئتك من أقصى خراسان في مسألة.

فقال له: سل.

فقال له: ما الظرف؟

فأطرق أبو القاسم رأسه، ثم قال: الاجتناب لكل خلق دنِيٍّ،

(1) رواه السلمي في "طبقات الصوفية"(ص: 107).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 269).

ص: 245

واستعمال كل خلق سنِيٍّ، وأن يعمل لله ثم لا ترى أنك عملت.

وسئل الحسن عن الظريف، فقال: هو الحسن الدين، المتنزه عن القبيح. رواه ابن جهضم أيضًا.

وأنشدوا: [من الكامل]

لَيْسَ الظَّرِيفُ بِكامِلٍ فِيْ ظُرْيفهِ

حَتَّى يَكُونَ عَنِ الْحَرامِ عَفِيفا (1)

فالظرف (2): في اللسان البلاغة، وفي الوجه الحسن، وفي القلب الذكاء؛ كما في "النهاية"(3).

وذكر السلمي في "حقائقه" عن أبي عبد الله السِّجزي رحمه الله تعالى قال: علامة الأولياء ثلاث: تواضع عن رفعة، وزهد عن قدرة، وإنصاف عن قوة.

وكل واعظ يقوم الغني من مجلسه فقيرًا والفقير غنيًّا فليس بواعظ (4).

وعن أبي بكر الواسطي رحمه الله تعالى قال: علامة الولي أربعة:

أولها: أن يحفظ سرائره التي بينه وبين ربه مما يرد عليه من

(1) البيت لأبي عبد الله الواسطي، انظر:"زهر الآداب" للقيرواني (2/ 126).

(2)

في "أ" و "ت" زيادة: "لغة".

(3)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 157).

(4)

انظر: "طبقات الصوفية" للسلمي (ص: 202).

ص: 246

المصائب فلا يشكو.

والثاني: أن يصون كرامته له، فلا يتخذها رياء ولا سمعة، ولا يغفل عنها هواناً.

والثالث: أن يحتمل أنس خلقه فلا يكافئهم.

والرابع: أن يداري عباده على تفاوت أخلاقهم لأنه رأى الخلق لله، وفي أسر القدرة، فعاشرهم على رؤية ما منهم إليه (1).

وعن جعفر الصادق رحمه الله تعالى قال: لا بد للعبد المؤمن من ثلاث سنن: سنة الله، وسنة الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، وسنة الأولياء.

فسنة الله كتمان السر.

قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26].

وسنة النبي صلى الله عليه وسلم مداراة الخلق.

وسنة الأولياء الوفاء بالعهد، والصبر في البأساء والضراء (2).

وقال الأستاذ أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى: الإيمان بطريقنا هذا ولاية.

وروى أبو القاسم الأصبهاني عن عبد الصمد بن معقل قال: سمعت

(1) انظر: "تفسير السلمي"(1/ 306).

(2)

انظر: "تفسير السلمي"(1/ 152).

ص: 247

رجلًا يسأل وهبًا (1) -يعني: ابن منبه- في المسجد الحرام، فقال: حدثني عن زبور داود عليه السلام.

فقال: وجدت في آخره ثلاثين سطراً: يا داود! اسمع مني والحق أقول؛ من لقيني وهو يحبني أدخلته جنتي.

يا داود! اسمع مني والحق أقول؛ من لقيني وهو مستحي من معاصيَّ أنسيت حفظَتَه ذنوبه.

يا داود! اسمع مني والحق أقول؛ لو أن عبدًا من عبادي عمل حشو الدنيا ذنوبًا، ثم ندم حلب شاة، واستغفرني مرة واحدة، فعلمت من قلبه أنه لا يريد أن يعود إليها، ألقيتها عنه أسرع من هبوط (2) المطر من السماء على الأرض.

يا داود! اسمع مني والحق أقول؛ لو أن عبدًا من عبادي أتاني بحسنة واحدة حكمته في جنتي.

قال داود عليه السلام: إلهي! من أجل ذلك لا يحل لمن عرفك أن يقطع رجاءه منك.

قال: يا داود! إنما يكفي أوليائي اليسير من العمل كما يكفي الطعام القليل من الملح.

هل تدري يا داود متى أتولاهم؟ إذا طهروا قلوبهم من الشرك،

(1) في "أ" و "ت": "عن وهبًا".

(2)

في "أ" و "ت": "هبط".

ص: 248

ونزعوا من قلوبهم الشك، وعلموا أن لي جنةً وناراً، وأني أحي وأميت، وأبعث من في القبور، ولم أتخذ صاحبة ولا ولدًا؛ فإن توفيتهم بيسير من العمل وهم يوقنون بذلك جعلته عظيمًا.

هل تدري يا داود من أسرع الناس مَرًّا على الصراط؟ الذين يرضون بحكمي وألسنتهم رطبة من ذكري.

هل تدري يا داود أي المؤمنين أحب إلي؟ الذي إذا قال: لا الله إلا الله اقشعر جلده، إني أكره له الموت كما يكرهه (1) الوالد لولده، ولا بد له منه، إني أريد أن أُسره في دار سوى هذه [الدار]؛ فإن نعيمها فيها بلاءً، ورخاءها فيها شدة، فيها عدو لا يألوهم فيها خَبالاً، من أجل ذلك عجلت أوليائي إلى الجنة، لولا ذلك ما مات آدم وولده حتى ينفخ في الصور.

يا داود! [إني أدري] ما تقول في نفسك؛ تقول: قطعت عنهم عبادتهم؛ أما تعلم ما أثيب المؤمن على عشرة يعثرها؟ فكيف إذا ذاق الموت، وهو أعظم المصيبات، وهو بين أطباق التراب؟ إنما أحبسه طول ما أحبسه لأعظم له الأجر، وأجري عليه أحسن ما كان يعمل إلى يوم القيامة.

يا داود! من أجل ذلك سميت نفسي أرحم الراحمين (2).

(1) في "أ" و"ت": "يكره".

(2)

رواه وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 46)، وروى طرفا منه ابن أبي الدنيا =

ص: 249

قلت: جميع ما في هذا الأثر موافق لما جاء مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يناقض قوله فيه: وأجري عليه أحسن ما كان يعمل إلى يوم القيامة؛ حديثَ مسلم: "يَنْقَطِعُ عَمَلُ ابْنِ آدَمَ إِلَاّ مِنْ ثلاثٍ"(1)، ونحوه لأن قوله: وأجري عليه أحسن ما كان يعمل؛ أن الله تعالى يجري على المؤمن بعد موته ثواب ما نوى أن يعمله وأدركه الأجل قبل العمل.

ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْر مِنْ عَمَلِه". رواه الطبراني في "الكبير" من حديث سهل بن سعد، والبيهقي في "الشعب" من حديث أنس رضي الله تعالى عنه (2).

وقال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: مَن همَّ بصلاة أو صيام، أو حج أو عمرة، أو غزو، فحيل بينه وبين ذلك، بلَّغه الله ما نوى (3).

وقال ثابت البناني رحمه الله تعالى: نية المؤمن أبلغ من عمله؛ إن المؤمن ينوي أن يقوم الليل، ويصوم النهار، ويخرج من ماله، فلا تتابعه

= في "الأولياء"(ص: 23). رضي الله عنه

(1)

رواه مسلم (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(5942) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وضعف العراقي إسناده في "تخريج أحاديث الاحياء"(2/ 1171).

والبيهقي في "شعب الإيمان" من حديث أنس رضي الله عنه، وقال: هذا إسناد ضعيف.

(3)

ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 52).

ص: 250

نفسه على ذلك، فنيته أبلغ من عمله (1).

وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: إن للمؤمن نية في الخير هي أبدًا أمامه لا يبلغها عمله، وإن للفاجر نية في الشر هي أبدًا أمامه لا يبلغها عمله، والله مبلغ بكل ما نوى (2).

وقال الحسن رحمه الله تعالى: المؤمن تبلغ نيته وتضعف قوته، والمنافق تضعف نيته وتبلغ قوته (3).

روى هذه الآثار ابن أبي الدنيا في كتاب "الإخلاص والنية".

قلت: وفي قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: "إِنَّما الأَعْمالُ بِالنيَّاتِ، وَإِنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى"(4) إشارة إلى مسألتين عظيمتين:

الأولى: أن النية تارة تكون مع العمل، وتارة تكون دون عمل، فأشار إلى الأول بقوله:"إِنَّما الأَعْمالُ بِالنِّيَّاتِ"، وإلى الثاني بقوله:"وَإِنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى"؛ أي: سواء عمل أو لم يعمل.

والمسألة الثانية: أن العمل لا ينفع مستقلًّا دون نية، وأن النية تنفع مستقلة دون العمل، ومن ثم كانت نية المؤمن خيراً من عمله

(1) ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 326).

(2)

انظر: "ربيع الأبرار" للزمخشري (1/ 219).

(3)

انظر: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (2/ 263).

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 251

وأبلغ من عمله.

وروى الإِمام أحمد، والترمذي -وصححه، واللفظ له - عن أبي

كبشة الأنماري رضي الله تعالى عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ثَلاثٌ

أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوه" قال:"ما نَقَصَ مالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْها إِلَاّ زادهُ اللهُ عِزًّا، وَلا فَتَحَ عَبْدٌ بابَ مَسْأَلَةٍ إِلَاّ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بابَ فَقْرٍ"؛ أو كلمة نحوها.

قال: "وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ؛ إِنَّما الدُّنْيا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ؛ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا؛ فَهَذا بِأفْضَلِ الْمَنازِلِ.

وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مالًا، فَهُوَ صادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ؛ فَأَجْرُهُما سَواءٌ.

وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ في مالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلا يتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا؛ فهُوَ بِأَخْبَثِ الْمَنازِلِ.

وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مالًا وَلا عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلانٍ، فَهُوَ بِنِّيَّتِهِ؛ فَوِزْرُهُما سَواءٌ" (1).

قلت: وفي هذا الحديث دليل على أن العلم هو الذي ينفع العبد

(1) رواه الإِمام أحمد في "المسند"(4/ 231)، والترمذي (2325) وقال: حسن صحيح.

ص: 252

-سواء كان له مال، أو لا مال له- وأن الجهل مع المال ودونه ضار، وإذا كان كذلك فكيف بعالم عَمِل عمَل هذين الجاهلَين، فهو أخبث منهما.

وسيأتي في (1) القسم الثاني من الكتاب الكلام على قباحة تشبه العالم بالجاهل.

ثم يعلم من الحديث أن الولاية لا تكون مع الجهل؛ لأنَّ من آمن ونوى خيرًا، وعمل صالحًا هو الولي بعينه، فإذا جهل في نيته وجهل في عمله فليس له من الولاية نصيب.

ومن ثم قال الإِمام أبو حنيفة، والإمام الشافعي رضي الله تعالى عنهما: إن لم يكن العلماء العاملون أولياءَ الله فليس لله ولي (2).

وقال بعض السلف: ما اتخذ الله من ولي جاهل، ولو اتخذه لعلَّمه.

وليس هذا بحديث، ولكنه مشهور على الألسنة.

قال السخاوي في "المقاصد الحسنة": قال شيخنا؛ يعني: قاضي القضاة ابن حجر العسقلاني: ليس بثابت في المرفوع، ولكن معناه صحيح (3).

والمراد بقوله: ولو اتخذه لعلَّمه؛ يعني: لو أراد اتخاذه وليًا لعلمه ثم اتخذه وليًا.

(1) في "ت": "من" بدل "في".

(2)

رواه عنهما الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"(1/ 150).

(3)

انظر: "المقاصد الحسنة" للسخاوي (ص: 574).

ص: 253

قلت: وحكى السخاوي في ترجمة ابن حجر: أنه مر بالشيخ محمَّد ابن أحمد الصعيدي المعروف بالفرغل، وكان يومئذ بمصر دخلها في شفاعة، فقال ابن حجر في سره: ما اتخذ الله من ولي جاهل، ولو اتخذه لعلَّمه؛ على طريق الإنكار.

فقال له الشيخ محمَّد: قف يا قاضي، فوقف، فأمسكه وأخذ يقول: بل اتخذني وعلمني! بل اتخذني وعلمني (1)!

قلت: ويكفي الولي من العلم قدر ما يحتاج إليه في إصلاح طريقه من علوم الشريعة، ثم إن لجماعة من أولياء الله تعالى علومًا خصهم الله بها من علوم المعاملات، أو علوم المكاشفات، وهو حقيقة العلم، ومطلوب كل متعلم أخلص في طلبه.

روى ابن باكويه الشيرازي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: جرى ذكر معروف الكرخي في مجلس والدي، فقال واحد من الجماعة: هو قصير العلم.

فقال له والدي: أمسك عافاك الله؛ وهل يراد العلم إلا لما وصل إليه معروف؟

ورواه الخطيب من طريق آخر وقال: وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف (2)؟

(1) انظر: "الطبقات الكبرى" للشعراني (ص: 427).

(2)

رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(13/ 200).

ص: 254

وقال المعافى بن زكريا: حدثت عن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: قلت لأبي: هل كان مع معروف شيء من العلم؟

فقال: يا بني! كان معه رأس العلم، خشية الله تعالى. رواه ابن الجوزي في ترجمة معروف رضي الله تعالى عنه (1).

وقال أبو سعيد الخرّاز رحمه الله تعالى عن الأولياء في الدنيا: يطيرون بقلوبهم في الملكوت، يرتادون (2) ألوان الفوائد والحكمة، ويشربون من عين المعرفة، فهم يفرون من فضول الدنيا، ويأنسون بالمولى، ويستوحشون من نفوسهم إلى وقت موافاة الرحيل (3).

وأقول: [من المجتث]

لله أَهْلُ الرِّعايَة

نالُوا الرِّضا بِالرِّعايَة

بِالعِلْمِ حازُوا الوِلايَة

رِوايَةً أَوْ دِرايَة

عُوفُوا مِنَ الْجَهْلِ حَتَّى

نالُوا التُّقَى وَالْهِدايَة

أَوْلاهُمُ اللهُ مِنْهُ

حِمايَةً وَكِفايَة

بِدايَةُ القَوْمِ مِنْهُ

كَما إِلَيهِ النِّهايَة

***

(1) انظر: "الجليس الصالح والأنيس الناصح" للمعافى بن زكريا (ص: 334).

(2)

في "أيضا و"ت": "يزدادون".

(3)

انظر: "تفسير السلمي"(1/ 307).

ص: 255