الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونقل ابن الجوزي عن عثمان بن زكريا المؤدب: أن معنى "فكتم": كتم من يحبه أنه يُحِبُّه (1).
وقد جنح إلى هذا المعنى الإمام أبو بكر الظاهري، فقال ملمحًا بالحديث:[من الطويل]
سَأَكْتُمُ ما أَلْقاهُ يا نُوْرَ ناظِرِيْ
…
مِنَ الْحُبِّ كَيْلا يَذْهَبَ الأَجْرُ باطِلا
فَقَدْ جاءَنا عَنْ سَيَّدِ الْخَلْقِ أَحْمَدٍ
…
وَمَنْ كانَ بَرًّا بِالأَنامِ وَواصِلا
بِأَنْ مَنْ يَمُتْ بِالْحُبَّ يَكْتُمُ أَمْرَهُ
…
يَكُوْنُ شَهِيْداً فِيْ الْفَرادِيْسِ نازِلا (2)
*
تنبِيْهٌ:
ربما فهم من لم ينور الله بصيرته أن التوصل إلى الشهادة بالتعرض إلى العشق بالنظر ونحوه، فيباشر هذه الأسباب، فيقع فيما لم يكن له في حساب كما قال الشاعر:[من التقارب]
تَعَلَّقَ بِالْعِشْقِّ حَتَّىْ عَشِقْ
…
فَلَمَّا اسْتَقَلَّ بِهِ لَمْ يُطِقْ
(1) انظر: "ذم الهوى" لابن الجوزي (ص: 327).
(2)
انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (6/ 30).
رَأَىْ لُجَّةً ظَنَّها مَوْجَةً
…
فَلَمَّا تَوَسَّطَ فِيْها غَرِقْ (1)
فقد يعشق ولا يقدر على العفاف، فيقع في الفسق، بل ربما انتهى به العشق إلى الكفر، وكم إنسان أدى به العشق إلى الخروج من دينه، ثم لم يظفر بما خرج لأجله عن الدين حتى هلك.
والعشق من حيث هو مذموم، والتعرض له بالنظر وغيره حرام، ولا يدخل فيه النظر والتمتع بالحلائل؛ لأن ذلك لا يؤدي به إلى العشق، بل إلى الحب، والحب محمود بخلاف العشق.
وليس الثواب المنصوص عليه في الحديث على العشق، ولكنه على العفاف والصبر عن مقتضى العشق إذا دهم العبد الابتلاء بالعشق، لا إذا تعرض له بما هو حرام، وكيف يتوصل إلى درجات الشهادة بالمعاصي؟ هذا مما لا يكون أصلاً.
وأكثر الواقعين في هذه المنزلة متصوفة هذه الأزمنة المتأخرة، القائلون بالشاهدة، المعرضون عن أمر الواحد الماجد، وأكثرهم حلولية، اتحادية، بطلة، جهلة، إلحادية إلا من عصمه الله تعالى وحفظه، وأقام له من قلبه واعظًا وعظه.
وقد قال شيخ الطائفة أبو القاسم القشيري رحمه الله في "رسالته":
(1) انظر: "ذم الهوى" لابن الجوزي (ص: 586)، و"تاريخ الإسلام" للذهبي (30/ 389).
ومن أصعب الآفات في هذه الطريقة صحبة الأحداث، ومن ابتلاه الله تعالى بشيء من ذلك، فبإجماع من الشيوخ أنَّ ذلك عبد أهانه الله وخذله، بل عن نفسه شغله ولو بألف ألف كرامة أَهَّلَهُ، وهب أَنَّهُ بلغ رتبة الشهداء لما في الخبر تلويح بذلك، أليس قد شغل ذلك القلب بمخلوق، فأصعب من ذلك تهوين ذلك على القلب حتى يعد ذلك يسيرًا؛ قال الله تعالى:{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)} [النور: 15].
إلى أن قال: ومن ارتقى في هذا الباب عن حالة الفسق - وأشار إلى أن ذلك من بلايا الأرواح، وأنه لا يضره - فما قالوه من وساوس القائلين بالشهادة.
قال: وإيراد حكايات عن الشيوخ بما كان الأولى بهم الستر على هناتهم وآفاتهم، فذلك نظير الشرك، وقرين الكفر؛ فليحذر المريد من مجالسة الأحداث ومخاطتهم؛ فإن اليسير منه فتح باب الخذلان، ويد وِصال الهجران، ونعوذ بالله من قضاء السوء.
هذا نص القشيري رضي الله عنه بحروفه (1).
وقد أشرت إلى تحرير هذا الموضع بأبسط من ذلك في كتاب "منبر التوحيد"، فليراجَع.
(1) انظر: "الرسالة القشيربة"(ص: 431 - 432).