الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: فقلت لها: لا أنزلك العمران، ولا أنزل على معرفة، فأجابت، فأسأت الظن بها وقلت: الله أصدق، فقلت: أقاتل العدو حاسرًا لتكون في أول قتيل، فأجابت.
وعد أشياء مما أرادها فأجابت إلى ذلك كله، فقلت: يا رب! نبهني لها؛ فإني متهم لها، مصدق ذلك، فكوشفت كأنها تقول لي: يا أحمد! أنت تقتلني كل يوم بمنعك إياي من شهواتي، ومخالفتك، ولا يشعر به أحد، فإن قاتلت قُتِلت مرة واحدة فنجوت منك، وتسامع الناس بي، فيقال: استشهد أحمد، فيكون لي شرفًا وذكراً.
قال: فقعدت، ولم أخرج إلى الغزو في ذلك العام.
قال حجة الإِسلام الغزالي: وانظر إلى خدل النفس وغرورها! ترائي الناس بعد الموت بعمل لم يكن بعد.
قال: ولقد أحسن القائل هنا: [من البسيط]
تَوَقَّ نَفْسَكَ لا تَأْمَنْ غَوائِلَها
…
فَالنَّفْسُ أَخْبَثُ مِنْ سَبْعِيْنَ شَيْطانًا (1)
*
تَنْبِيْهٌ:
روى الإِمام محمَّد بن جرير الطبري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مُؤْمِنُوْ أُمَّتىْ شُهَدَاءُ"، ثم تلا
(1) انظر: "منهاج العابدين" للإمام الغزالي (ص: 144).
النبي صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19](1).
قلت: وهذا الحديث يحتمل وجهين:
الأول: أن يكون معنى قوله: "شهداء" أنهم شهداء للأنبياء عليهم السلام على أممهم بالتبليغ، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]؛ فإن الظاهر أن هذه الشهادة تكون يوم القيامة من عامة الأمة على وجه الاتفاق وإن كان من الأمة من هو ذو عصيان؛ لأنَّ إطباق أمة هي أعظم الأمم على الشهادة أبلغ في نصرة الأنبياء عليهم السلام في إثبات الحجة على الأمم.
وهي شهادة صحيحة مقبولة لأنها من لازم الإيمان، وقد وصفنا العاصي من هذه الأمة بالإيمان مع العصيان ما لم يكن مشركًا.
ويؤيد هذا الوجه: استشهاد النبي صلى الله عليه وسلم بالآية، وقد قال تعالى فيها:{وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19]؛ إذ الأحسن أن يكون الظرف متعلقًا بنفس الشهداء؛ أي: الذين يشهدون عند ربهم.
والوجه الثاني: أن يكون المراد أن مؤمني هذه الأمة في رتبة الشهداء من غير هذه الأمة، بل في رتبة الصديقين من غيرهم أيضًا.
وعليه يُحملُ ما أخرجه ابن المنذر عن ابن مسعود رضي الله عنه، وعبد الرزاق عن مجاهد، وعبد بن حميد عنه، وعن عمرو بن ميمون: أنهم قالوا:
(1) رواه الطبري في "التفسير"(27/ 231).
"كل مؤمن صِدِّيْقٌ، وشهيد"، ثم قرأ كل منهم الآية (1).
وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه قال يومًا وهم عنده: كلكم صِدّيْقٌ، وشهيد، قيل له: ما تقول يا أبا هريرة؟ قال: اقرؤوا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ (19)} [الحديد: 19](2).
فإن قلت: هل من دليل على هذا الاحتمال؟ وهل في لفظ حديث البراء ما يفهم منه ذلك؟
قلت: نعم، يفهم من قوله:"مُؤْمِنُو أُمَّتِيْ"، ولم يقل:"المؤمنون".
ثم رأينا أن الله تعالى قسم المؤمنين إلى صِدِّيْقِين، وشهداء، وصالحين، وأظهر في آيات خصوصيات الشهداء على عامة المؤمنين، فحملنا قول النبي صلى الله عليه وسلم:"شهداء" في قوله: "مُؤْمِنُوْ أُمَّتِي شُهَدَاءُ" على شهداء غير هذه الأمة على وجه التشبيه؛ أي: مثل شهداء سائر الأمم.
ونظير ذلك: ما رواه الطبراني في "الأوسط" عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رَاحَ مِنَّا سَبْعُوْنَ رجُلاً إلى الْجُمُعَةِ كَانُوْا كَالسَّبْعِيْنَ (3) الذِيْنَ وَفَدُوْا عَلى رَبّهِمْ، أَوْ أَفْضَلَ"(4).
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 61).
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 60).
(3)
في "المعجم الأوسط" للطبراني (5802): "كسبعين موسى".
(4)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(5802). قال الهيثمي في "مجمع=
و"أو" بمعنى: بل.
وقد قلت في منظومتي في "خصائص يوم الجمعة": [من الرجز]
وَإِنْ إِلَىْ الْجُمُعَةِ رأَيْ مِنَّا
…
سَبْعُوْنَ إِنْساناً فَقَدْ سَمِعْنا
بِأَنَّهُمْ كَقَوْمِ مُوْسَىْ السَّبْعِيْنْ
…
إِذْ وَفَدُوْا لِرَبِّهمْ مُجِدِّيْنْ
بَلْ إِنَّهُمْ يا صاحِ مِنْ أُوْلَئِكْ
…
أَفْضَلُ فِيْ الأَحْوالِ وَالْمَسالِكْ
= الزوائد" (2/ 176): فيه أحمد بن بكر البالسي، قال الأزدي: كان يضع الحديث.