الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده، وهو الإنشاد السابع والعشرون بعد الخمسمائة:
(527)
يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنَ مَهَابَتِهِ
…
فَمَا يُكَلَّمُ إِلا حِينَ يَبْتَسِم
على أن من فيه للتعليل، وأورده المصنف والمرادي في شرحه على أن نائب الفاعل ضمير المصدر وهو الإغضاء، قال ابن يعيش: ولا يكون "من مهابته" نائب الفاعل؛ لأن المفعول له لا يقوم مقام الفاعل، لئلا تزول الدلالة على العلة فاعرفه، انتهى، وكذا في "إعراب الحماسة" لابن جني أيضًا، قال ابن الحاج في نقد "المقرب" لابن عصفور: نص أبو الفتح في "التنبيه" على مشكل "الحماسة" على أن قوله: من مهابته، ليس نائب الفاعل؛ لأنه مفعول له، وليس مثل: سير بزيد؛ لأن بزيد مفعول في المعنى، وهذا خطأ، بل كل مجرور يقوم مقام الفاعل، فيجوز: ذهب مع فلان، وامتلئ من الماء، وأغضي من مهابة زيد، وسير في حال إقامته، انتهى، نقله أبو حيان في "تذكرته" وله مذاهب قد انفرد بها، ويغضي بالبناء للفاعل، وفاعله ضمير راجع على الممدوح علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، كما يأتي، والإغضاء: إرخاء الجفون، وحياء: مفعول له، ويجوز أن يكون نائبًا عن المفعول المطلق، أي: إغضاء حياء، ويكلم بالبناء للمفعول، يقول: لا يبدأ الناس بالكلام لهيبته إلا إذا تبسم.
والبيت من قصيدة للفرزدق، قل السيد المرتضى في "أماليه": أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني قال: حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثني جدي يحيى بن الحسن العلوي، قال: حدثنا الحسن بن محمد بن طالب، قال حدثني غير
وحد من أهل الأدب أن علي بن الحسين حج، فاستجهر الناس جماله، وتشوقوا له، وجعلوا يقولون: من هذا، فقال الفرزدق:
هَذَا الّذي تَعْرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ
…
وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ
هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللهِ كُلِّهِمُ
…
هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ
إذَا رَأَتُهُ قُرَيْشٌ قَالَ قائِلُهَا
…
إلى مَكارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الْكَرَمُ
يَكادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ
…
رُكْنُ الحَطِيمِ إذَا مَا جَاءَ يسْتلِمُ
يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مهابَتِهِ
…
فَلا يُكَلَّمُ إلا حيِنَ يَبْتَسِمُ
أَيُّ القَبَائِلِ لَيْسَتْ في رِقَابِهِمُ
…
لِأَوَّلِيَّةِ هَذَا أُوْ لَهُ نِعَمُ
مَنْ يَشْكُرِ اللهَ يَشْكُرْ أَوَّلِيَّةَ ذَا
…
فَالدِّينُ مِنْ بَيْتِ هَذا نالَهُ الأُمَمُ
وفي رواية الغلابي أن هشام بن عبد الملك حج في خلافة عبد الملك أو الوليد، وهو حديث السن فأراد أن يستلم الحجر، فلم يتمكن من ذلك لتزاحم الناس عليه، فجلس ينتظر خلوة، فأقبل علي بن الحسين، رضي الله عنهما، وعليه إزار ورداء، وهو أحسن الناس وجهًا، وأطيبهم ريحًا، وبين عينيه سجادة كأنها ركبة عنز، فجعل يطوف بالبيت، فإذا بلغ الحجر، تنحى عنه الناس حتى يستلمه هيبة له وإجلالًا، فغاظ ذلك هشامًا، فقال رجل من أهل الشام لهشام: من الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه، لئلا يرغب فيه أهل الشام، فقال الفرزدق وكان لذلك حاضرًا: لكني أعرفه، وذكر الأبيات، وهي أكثر مما رويناه، وإنما تركناها لأنها معروفة، فغضب هشام، وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة، فبلغ ذلك علي بن الحسين رضي الله عنه، فبعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، وقال: اعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من
هذا لوصلناك، فردها الفرزدق، وقال: يا ابن رسول الله ما قلت الذي قلت إلا غضبًا لله ولرسوله، وما كنت لأرزأك عليه شيئًا، فردها إليه وأقسم عليه في قبلوها، وقال له: قد رأى الله مكانك، وعلم نيتك، وشكر لك، ونحن أهل بيت إذا أنفذنا شيئًا لم نرجع فيه، فقبلها، وجعل الفرزدق يهجو هشامًا وهو في الحبس، فمما هجاه به قوله:
تُحَبِّسُني بَيْنَ المَدِينَةِ وَالتي
…
إليْها رِقَابُ النَّاسِ يَهْوِي مُنِيبهُا
يُقَلِّبُ رَأَسًا لَمْ يَكُنْ رَأسَ سَيِّدٍ
…
وَعَيْنًا لَهُ حَوْلا بَادٍ عُيُوبُهَا
هذا آخر ما رواه المرتضى رضي الله تعالى عنه، وكذا أورد القصة وهذه الأبيات إبراهيم الحصري في "زهر الآداب"، وقد أورد السيوطي القصيدة برواية ابن عائشة من طريق ابن عساكر، والقصة كقصة الغلابي، وألفاظها سواء، وهي هذه:
هَذَا الّذي تَعْرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ
…
البيت
هَذَا عَليُّ رَسُولُ اللهِ وَالِدُهُ
…
أَمْسَتْ بِنُورِ هُدَاهُ تهْتَدِي الًامَمُ
هَذَا ابنُ خَيْرِ عِبَادِ اللهِ كُلِّهِمُ
…
البيت
إذَا رَأَتْهُ قُرَيْشُ قَالَ قَائِلُهَا
…
البيت
يُنْمَى إلى ذِرْوَة العِزِّ التي قَصُرَتْ
…
عَنْ نَيْلِهَا عَرَبُ الإسْلامِ وَالعَجَمُ
يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفانَ رَاحَتِهِ
…
البيت
في كَفِّه خَيْزُرَانٌ رِيُحُه عَبِقٌ
…
مِنْ كَفِّ أَرْوَعَ في عِرْنِيِنِه شَمَمُ
يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهابَتِهِ
…
البيت
مَنْ جَدُّهُ دَانَ فَضْلُ الأنبياءِ لَهَ
…
وَفَضْلُ أُمَّتِهِ دَانَتْ لَهُ الأُمَمُ
يَنْشَقُّ نُورُ الهُدَى عَنْ حًسْنِ غُرَّتِهِ
…
كالشَّمْسِ يَنْجابُ عَنْ إشْرَاقهِا العَتَمُ
مشْتَقّةٌ مِنْ رَسُولِ الله نَبْعَتُهُ
…
طَابَتْ مَغارِسُهُ والخِيمُ وَالشّيَمُ
هذا ابنُ فاطمَةٍ، إنْ كُنْتَ جاهِلَهُ
…
بِجَدّهِ أنْبِيَاءُ الله قَدْ خُتِمُوا
الله شَرّفَهُ قِدْمًا، وَفَضَّلَهُ
…
جَرَى بِذاكَ لَهُ في لَوْحِهِ القَلَمُ
سَهْلُ الخَلِيقَةِ، لا تُخشى بَوَادِرُهُ
…
يَزِينُهُ خُلتَان الخُلْقُ وَالكَرَمُ
من مَعشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ، وَبُغْضُهُمُ
…
كُفْرٌ، وَقُرْبُهُمُ مَنجىً وَمُعتَصَمُ
مُقَدَّمٌ بعد ذِكْرِ الله ذِكْرُهُمُ
…
في كلّ بَدْءٍ وَمَختومٌ به الكَلِمُ
يُستدْفَعُ السُّوءُ وَالبَلْوَى بحُبّهِمُ
…
وَيُسْتَرَبّ بِهِ الإحْسَانُ وَالنِّعَمُ
إنْ عُدّ أهْلُ التّقَى كانوا أئِمّتَهمْ
…
أوْ قيل: من خيرُ خَلْقِ اللهِ قيل هم
لا يَستَطيعُ جَوَادٌ بَعدَ غَايَتِهِمْ
…
وَلا يُدانِيهِمُ قَوْمٌ، وَإنْ كَرُمُوا
هُمُ الغُيُوثُ، إذا ما أزْمَةٌ أزَمَتْ
…
وَالأُسدُ أُسدُ الشّرَى وَالبأسُ يحتَدِمُ
لا يَقْبَضُ العُسرُ بَسطًا من أكُفّهِمُ
…
سِيّانِ ذلك إن أثَرَوْا وَإنْ عَدِمُوا
مَنْ يَعْرِفِ اللهَ يَعْرِفْ أَوَّلِيَّةَ ذا
…
الدِّين مِنْ جَدِّ هذَا نَالَهُ الأُمَمُ
إنْ تُنْكِرُوهُ فَإنَّ اللهَ يَعْرِفُهُ
…
وَالعَرْشُ يَعْرِفُهُ واللَّوْحُ وَالْقَلَمُ
وَلَيْسَ قَوْلُكَ مَنْ هَذَا بِضَائِرِه .. العُرْبُ تَعْرِفُ مَنْ أَنْكَرْتَ وَالعجَمُ
هذا آخر ما أخرجه ابن عساكر من رواية ابن عائشة، وقد أوردها العيني أيضًا في باب النائب عن الفاعل، وفيها أبيات غير مذكورة فيما تقدم وهي:
كِلْتَا يَدَيْهِ غَياثٌ عَمَّ نَفْعُهُمَا
…
تَسْتَوْكِفانِ وَلا يَعْرُوهُمَا عَدَمُ
حَمّالُ أثقالِ أقوَامٍ، إذا فُدِحُوا
…
حُلوُ الشّمائلِ، يحْلُو عِنْدَهُ نَعَمُ
لا يُخْلِفُ الوَعْدَ مَيْمُونٌ نَقِيبَتُهُ
…
رَحْبُ الفِنَاءِ أَرِيبٌ حِينَ يَعْتَزِمُ
عّمَّ البَرِيَّةَ بالإحْسَانِ فَانْقَشَعَتْ
…
عَنْها العَنَانَةُ وَالإمْلاقُ وَالْعَدَمُ
يَأبى لُهمْ أَنْ يَحُلَّ الذَّمُّ ساحَتَهُم
…
خِيمٌ كَرِيمٌ وَأَيْدٍ بالنَّدَى هُضُمُ
وفيها من رواية أخرى:
ما قال لا قطُّ إلاّ في تَشَهُّدِهِ
…
لَوْلا التّشَهّدُ كانَتْ لاءَهُ نَعَمُ
مَنْ ذا يُقاسُ بهذا في مُفَاخَرَةٍ
…
إذا بَنُو هَاشِمٍ في ذلكَ اختَصَمُوا
وقد أوردها أيضًا محمد بن المبارك بن محمد بن ميمون في "منتهى الطلب من أشعار العرب"، وذكر قصتها كما تقدم، وقال: رواها لي أبو معمر الأنصاري، رحمه الله تعالى، متصلة الإسناد إلى الفرزدق، وشذ عني إسنادها وهي:
هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ
…
وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ
هَذَا عَليُّ رَسُولُ اللهِ وَالِدُهُ
…
أَمْسَتْ بِنُورِ هُدَاهُ تهْتَدِي الًامَمُ
هَذَا الذي عَمُّهُ الطَّيَّارُ جَعْفَرُ
…
وَالْمَقْتُولُ حَمْزَةُ لَيْثٌ حُبُّه قَسَمُ
هَذَا ابنُ فَاطِمَة الغَرَّاء وَيْحَكُمُ
…
وابنُ الوَصِيِّ الذي في سَيْفِهِ النِّقَمُ
هذا ابنُ فَاطِمَة إن كُنْتَ جاهِلَهُ
…
البيت
هَذَا ابنُ خَيْرِ عِبَادِ اللهِ كُلِّهِمُ
…
البيت
وبعد: هذا ما رواه ابن عائشة، ورواها أيضًا علي بن أبي الفرج بن الحسن البصري الأصل الواسطي بلدًا في "الحماسة البصرية"، كرواية ابن عائشة وفيها:
لَوْ يَعْلَمُ البَيْتُ مَنْ قَدْ جاءَ يلثمُهُ
…
لَظَلَّ يَلْثُمُ مِنْه مَا وَطِي القَدَمُ.
مَا قَالَ لا قَطُّ إلا في تَشَهُّدِهِ
…
البيت
وقد اختلف في بعض أبيات هذه القصيدة، فنسب إلى غير الفرزدق في مدح زين العابدين أيضًا، وقيل في غيره، ففي "الحماسة" لأبي تمام: وقال الحزين الليثي في علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ
…
البيت
إذَا رَأَتْهُ قَرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا
…
البيت
يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ
…
البيت
أيُّ القَبَائِلِ لَيْسَتْ في رِقَابِهِمُ
…
البيت
بِكَفِّهِ خَيْزُرانٌ رِيحُهَا عَبِقٌ
…
البيت
يُغْضي حياءً وَيُغْضَى مِنْ مهابَتِهِ
…
البيت
وأورد هذه الأبيات فقط الأعلم في "حماسته"، وقال الحزين الليثي في علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما، ويقال: قالها في عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وكان حسن الوجه والمذهب، ويقال: إن بعض هذه القصيدة للفرزدق في علي بن الحسين، وبعضها لجرير، وبعضها لداود بن سلم يمدح قثم بن العباس، ويقال: هي لكثير السهمي يمدح عبد الملك بن مروان، انتهى، وكثير بالتصغير كدريهم، وقال الآمدي في "المؤتلف والمختلف": ومنهم كثير بن كثير السهمي، أنشد له دعبل بن علي في كتابه في محمد بن علي بن الحسين بن علي رضوان الله عليهم أجمعين.
هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ
…
البيت.
هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله كُلّهِمُ
…
البيت
إذَا رَأَتْهُ قَرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا
…
البيت
يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ
…
البيت
قال الآمدي أيضًا في ترجمة الحزين: منهم الحزين الكناني، واسمه عمرو بن عبد وهيب بن مالك بن حريث بن جابر بن راعي الشمس الأكبر بن يعمر بن عبد ابن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة، قال الزبير بن بكار: إنما سموا رعاة الشمس؛ لأن الشمس لم تكن تطلع في الجاهلية إلا وقدورهم تغلي للضيف، ولذلك يقول الحزين:
أَنَا ابْنُ رَبيعِ الشَّمُسِ في كُلِّ شِدَّةٍ
…
وَجَدِّي رَاعي الشَّمْسِ وابْنُ غريبِ
وكان الحزين شاعرًا محسنًا متمكنًا، وهو القائل في عبد الله بن عبد الملك ووفد إليه إلى مصر وهو واليها يمدحه في أبيات:
لمَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ في الجُمُوعِ ضُحى
…
وَقَدْ تَعَرَّضَتِ الحُجَّابُ وَالخَدَمُ
حَيَّيْتُهُ بِسَلامٍ وَهْوَ مُرْتَفِقٌ
…
وَضِجَّةُ الْقَوْمِ عِنْدَ البَابِ تَزْدَحِمُ
في كَفِّهِ خَيْزُرَانٌ ريُحَها عَبِق
…
البيت
يُغْضِي حَياءً وَيُغْضَى مِن مهابَتِهِ
…
البيت
وكذا أوردها صاحب "زهر الآداب"، للحزين في عبد الله بن عبد الملك، وكذا قال ابن أبي الإصبع في "تحرير التحبير" وفي "الحماسة البصرية"، قال الحزين الكناني، وهو أموي الشعر:
لمَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ وَالجُمُوعُ ضُحى
…
البيت
حَيَّيْتُهُ بِسَلامٍ وَهْوَ مُرْتَفِقٌ
…
البيت
في كَفِّهِ خَيْزُرَان
…
البيت
لا يُحْلِفُ الوَعْدَ مَيْمُونٌ نَقيبَتُهُ
…
البيت
كَمْ صَارِخٍ بِكَ مِنْ رَاجٍ وَرَاجيةِ
…
يَدْعُوكَ يَا قُثَمَ الخَيْرَاتِ يا قُثَمُ
انتهى، فرواها مدحًا في قيم بن العباس، لا في عبد الله بن عبد الملك.
قال الأصفهاني في "الأغاني": الحزين الكناني من شعراء الدولة الأمية، حجازي مطبوع، وكان هجاء خبيث اللسان، لا يرضيه اليسير، ويكتسب بالشر، وهجاء الناس، وليس ممن خدم الخلفاء، ولا انتجعهم بمدح، ولا كان يريم الحجاز حتى مات، حدث الزبير بن بكار عن عمه أن عبد الله بن عبد الملك، وكان من فتيان بني أمية وظرفائهم، وكان حسن الوجه والمذهب، لما حج قال له أبوه: سيأتيك الحزين الشاعر بالمدينة، وهو ذرب اللسان، فإياك أن تحتجب عنه، فلما كان في المدينة دخل الحزين عليه، فلما صار بين يديه، رأى جماله وبهاءه، وفي يده قضيب خيزران وقف ساكتًا، فأمهله عبد الله، ثم قال: السلام عليك ورحمة الله أولًا، فقال: وعليك السلام، ثم قال: وحيا الله وجهك أيها الأمير، إني قد مدحتك بشعر، فلما دخلت عليك، ورأيت جماله وبهاءك، أذهلني عنه، فأنسيت ما قد كنت قلته، وقد قلت في مقامي هذا بيتين، فقال: ما هما؟
قال: في كفه خيزران .. البيت، يُغضي حياء
…
البيت، فأجازه فقال: أخدمني أصلحك الله، فقال: اختر أحد هذين الغلامين، فأخذ أحدهما، فقال له عبد الله: أعلينا تبقي، خذ الآخر، والناس يروون هذين البيتين للفرزدق في أبياته التي مدح بها علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم التي أولهما:
هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ
…
البيت.
وهذا غلط من الرواة، وليس هذان البيتان مما يمدح به مثل علي بن الحسين عليهما السلام؛ لأنهما من نعوت الجبابرة والملوك، وليس كذلك، ولا هذه صفته عليه السلام، وله من الفضل ما ليس لأحد.
وأما الأبيات التي للفرزدق فيه، فحدثني أحمد بن أبي الجعد، ومحمد بن يحيى قالا: حدثنا محمد بن زكرياء الغلابي قال: حدثنا ابن عائشة قال: حج هشام ابن عبد الملك في خلافة الوليد أخيه ومعه رؤساء أهل الشام، فجهد أن يستلم الحجر، فلم يقدر من الزحام، فنصب له منبر، فجلس عليه ينظر إلى الناس، وأقبل علي بن الحسين، وهو أحسن الناس وجهًا، وأنظفهم ثوبًا، وأطيبهم رائحة، فطاف بالبيت، فلما بلغ إلى الحجر تنحى الناس كلهم، وأخلوا الحجر ليستلمه هيبة وإجلالًا له، فغاظ ذلك هشامًا، وبلغ منه، فقال رجل لهشام: من هذا أصح الله الأمير؟ قال: لا أعرفه، وكان به عارفًا، ولكنه خاف أن يرغب فيه أهل الشام، فقال الفرزدق، وكان لذلك كله حاضرًا، أنا أعرفه، فسلني يا شامي، قال: ومن هو؟ قال:
هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ
…
البيت
هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله كُلّهِمُ
…
البيت
إذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ
…
البيت وَلَيْسَ قَوْلُكَ مَنْ هَذَا
…
البيت.
أي الخلائق
…
البيت
…
ليست .. البيت
…
من يعرف الله
…
البيت
فحبسه، فقال الفرزدق:
أَيَحْبِسُني بَيْنَ المَدِينَةَ وَالتي
…
البيتين.
فبعث إليه هشام فأخرجه ووجه إليه علي بن الحسين عشرة آلاف درهم، وقال: اعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا، لوصلناك به، فردها، وقال: ما قلت ما كان إلا لله عز وجل، وما كنت لأرزأ عليه شيئًا، فقال له: قد رأى الله مكانك، فشكر لك، ولكنا أهل بيت إذا أنفذنا شيئًا لم نرجع فيه، فأقسم عليه، فقبلها.
ومن الناس من يروي هذه الأبيات لداود بن سلم في قثم بن العباس: ومنهم من يرويها لخالد بن زيد مولى قثم فيه، فمن رواها لداود في قثم أو لخالد فيه، فهي في روايته:
كَمْ صَارِخٍ بِكَ مِنْ رَاجٍ وَرَاجِيَة
…
يَدْعُوكَ يَا قُثَمَ الخَيْرَاتِ يا قُثَمُ
أي العَمَائِرِ لَيْسَتْ في رِقَابِهِمُ
…
لأَوَّلِيَّةِ هَذَا أَوْ لَهُ نَعَمُ
في كَفِّه خَيْزُرَانٌ .. البيت يُغْضِي حَيَاءٍ البيت.
وممن ذكرها له محمد بن يحيى الغلابي عن مهدي بن سابق أن داود بن سلم قال هذه الأبيات الأربعة في قثم بن العباس، وأن الفرزدق أدخلها في أبياته في علي بن الحسين، عليهما السلام، سوى البيت الأول، وذكر الرياشي عن الأصمعي أن رجلًا من العرب يقال له داود وقف لقثم، فناده:
يَكادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ
…
البيت
كَمْ صَارِخٍ بِكَ مِنْ رَاجٍ وَرَاجيةِ
…
البيت
فأمر له بجائزة سنية، والصحيح أنها للحزين في عبد الله بن عبد الملك، وقد غلط ابن عائشة في إدخاله البيتين في تلك الأبيات، وأبيات الحزين مؤتلفة منتظمة المعاني متشابهة، تنبئ عن نفسها وهي:
اللهُ يَعْلَمُ أَنْ قَدْ جِئْتُ ذا يَمَنٍ
…
ثُمَّ العِرَاقَيْنِ لا يَثْنِينِيَ السَّأَمُ
ثُمَّ الجَزِيرَةَ أَعْلاهَا وَأَسْفَلَهَا
…
كَذَاكَ تَسْرِي عَلى الأَهْوَال بي القدَمُ
ثُمَّ المَوَاسِمَ قَدْ أُوطِئْتُهَا زَمَنًا
…
وَحَيْتُ تُحْلَقُ عِنْدَ الجَمْرَةِ اللِّمَمُ
قَالوا دِمَشْقُ يُنَبِّئْكَ الخَبِيرُ بها .. ثُمَّ ائْتِ مِصْرَ فَثَمَّ النَّائِلُ العَمَمُ
لمَّا وَقَفْتُ عَلَيْهَا وَالجُموعُ ضُحى
…
البيت
حَيَّيْتُهُ بسلام
…
البيت
في كَفِّهِ خَيْزُرَانٌ
…
البيت
يُغْضِي حَيَاءً
…
البيت
تَرَى رُؤوسَ بَني مَرْوَانَ خَاضِعَةً
…
يمْشُونَ حَوْلَ رِكابَيْه وَمَا ظُلِمُوا
إنْ هَشَّ هشُّواله واستبشَروا جَذَلًا
…
وإنْ هُمُ أَنِسُوا إعراضَه وجَموا
كِلْتَا يَدَيْهِ رَبِيعٌ غيرُ ذي خَلَفٍ
…
فَتِلْكَ بَحْرٌ وَهذِي عارِضٌ هَزِمُ
ومن الناس من يقول: إن الحزين قالها في عبد العزيز بن مروان لذكره دمشق الشام ومصر، وقد كان عبد الله بن عبد الملك أيضًا ولي مصر والحزين بها، حدثني الجرامي، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني محمد بن يحيى أبو غسان عن عبد العزيز ابن عمران الزهري قال: وفد الحزين على عبد الله بن عبد الملك وهو عامل مصر فأتى برقيق من البربر والحزين عنده، وفي الرقيق أخوان، فقال عبد الله للحزين: أي الرقيق أعجب إليك، قال: ليختر لي الأمير، فقال عبد الله للحزين: قد رضيت لك هذا، لأحدهما، فإني رأيته حسن الصلاة، فقال الحزين: لا حاجة لي به، فأعطني أخاه، فأعطاه إياه، فقال يمدحه:
اللهُ يَعْلَمُ أَنْ قَدْ جِئْتُ ذَا يَمَنٍ
وذكر القصيدة بطولها، هذا آخر ما رواه صاحب "الأغاني".
قال العيني: ورأيت في كتاب "أولاد السراري" تأليف المبرد نسبة بعض هذه الأبيات إلى أبي دهبل حيث قال: ومما نمي لنا عنه، أي: عن زين العابدين
أنه مر بمساكين جلوس في الشمس يأكلون على مسح، فسلم عليهم، فردوا عليه، وقالوا: هلم يا ابن بنت رسول الله، فنزل، وقال: إن الله لا يحب المتكبرين، فأصاب معهم، ثم قال: قد دعوتم فأجبنا، ونحن ندعوكم، فمضوا معه إلى منزله، فأطعمهم طعامه، وقسم بينهم كل ما كان عنده، وفيه يقول أبو دهبل- فيما روي- هذه الأبيات:
هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ
…
البيت
هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله
…
البيت
إذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ
…
البيت
فأما ما يزاد في هذا الشعر بعد هذه الأبيات، فليس منها، إنما هو لداود بن سلم يقوله في قثم بن العباس بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنهم:
يغضي حياء
…
البيت
في كفه خيزران
…
البيت
كم صارخ بك من راج وراجية .. البيت
انتهى.
وقد طال الكلام في ذكر ما يتعلق بها من الخلاف في بعض أبياتها، ومن هنا نشرع في غريبها، قوله: يكاد يمسكه عرفان راحته، قال أبو علي في "المسائل البصرية": ينبغي أن يجعل عرفان مفعولًا له، وركن الحطيم: فاعل "يمسك"، وتضيف المصدر إلى المفعول، وتحذف الفاعل، أي: عرفان الركن راحته، كما حذف في (بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ)[ص/24]، وهذا أوضح في المعنى، وإن شئت قلت: يمسكه عرفان راحته ركن، فجعلت العرفان فاعل يمسك، وأضفت المصدر إلى الفاعل، وهو الراحة، ونصبت الركن مفعولًا به، كأنه يمسكه هذا المعنى لا الركن، أي: هذا المعنى كاد يلبثه في هذا الموضع، ويجعله أحق به من غيره، وهذا يحسن إذا كان أكثر لمس الركن بيده، أي: فصار لكثرة ذلك منه عرفت راحته الركن،
فنسبت المعرفة إلى الكف، وإن لم يكن لها في الحقيقة إنما هو للإنسان، ويجوز عرفان راحته ركن، يكون العرفان فاعل يمسك، وراحته مفعوله، والركن فاعل العرفان، أي: يكاد يمسكه أن عرف الركن، وهذا الوجه أقرب إلى الوجه الأول، وأشبه بالمعنى من الوجه الثاني، انتهى.
قوله: هذا الذي تعرف البطحاء، هي أرض مكة المنبطحة، وكذلك الأبطح، وبيوت مكة التي هي للأشراف بالأبطح التي هي في الروابي، والجبال للغرباء وأوساط الناس، والحطيم: الجدار الذي عليه ميزاب الرحمة، وقوله: يغضي حياء .. الخ، قال ابن عبد ربه في أول "العقد الفريد": قال ابن قتيبة: لم يقل في الهيبة مع التواضع بيت أبدع من قول الشاعر في بعض خلفاء بني أمية:
يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنَ مَهَابَتِهِ
…
البيت
وأحسن منه عندي قولي:
فَتى زَادهُ عِزُّ المَهَابَة ذِلة
…
وَكُلُّ عَزِيزٍ عِنْدَهُ مُتَوَاضِعُ
انتهى، وأقول: بل هجنه قوله: "ذلة"، وقوله: ينمي إلى ذروة الخ، بالبناء للمفعول من نميته إلى أبيه، أي: نسبته، وانتمى: انتسب، وذورة الشيء: أعلاه، وقوله: في كفه خيزران .. الخ، قال الجاحظ في كتاب "البيان": كانت العرب تخطب بالمخاصر، وتعتمد على الأرض بالقسي، وتشير بالعصا والقنا، حتى كانت المخاصر لا تفارق أيدي الملوك في مجالسها، ولذلك قال: في كفه خيزران .. البيت، وعبق: وصف من عبق به الطيب كفرح: إذا لزق به، قال أبو بكر الزبيدي في كتاب "لحن العامة": العرب تسمي كل قضيب لدن ناعم خيزرانًا، بضم الزاي، وذكر بعض اللغويين أنه ليس من نبات أرض العرب، انتهى، والأروع: الذي يروعك جماله وجلاله، والعرنين من كل شيء: أوله، ومنه عرنين الأنف لأوله، وهو ما تحت مجتمع الحاجبين، وهو موضع الشمم، وهو ارتفاع