الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الواحد والثلاثون بعد الخمسمائة:
(531)
وَيَنْمِي لَهَا حُبُّهَا عِنْدَنَا
…
فَمَا قَالَ مِنْ كَاشِحٍ لَمْ يَضِرْ
على أن الكوفيين قالوا بزيادة "من" في الواجب كما هنا، واختاره ابن مالك، قال أبو حيان في "شرح التسهيل" عند قوله: ولا يمتنع تعريفه، ولا خلوه من نفي وشبهه وفاقًا للأخفش: وافق المصنف الأخفش، وذكر جملة ما استدل به لهذا المذهب في شرحه نظمًا ونثرًا، فمن ذلك قوله تعالى:(وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ)[الأنعام/ 34]، (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ)[الكهف/ 31]، (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ)[البقرة/271]، (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)[نوح/4]، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)[البقرة/25]، وفي البخاري من كلام عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي جالسًا فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته كذا، هكذا حفظ بخط من يعتمد، أي: لقد جاءك نبأ، ويحلون أساور، ويكفر عنكم سيئاتكم، يغفر لكم ذنوبكم، تجري تحتها الأنهار، فإذا بقي قراءته نحو من كذا، وقال عمرو بن أبي ربيعة:
وَيَنْمِي لَهَا حُبُّهَا عِنْدَنَا
…
فَمَا قَالَ مِنْ كَاشِحٍ لَمْ يَضِرْ
وقال جرير:
لمَّا بَلَغْتُ إمامَ العَدْلِ قلتُ لَهُمْ
…
قَدْ كانَ منْ طُول إِدلاجٍ وتَهْجيرِ
وقال آخر:
وَكُنْتُ أَرَى كالمَوْتِ مِنْ بينِ ساعَةٍ
…
فَكَيْفَ بِبَيْنٍ كانِ مَوْعِدَهُ الحَشْرُ
وقال آخر:
يَظَلُّ بِهِ الحِرْبَاءُ يمثُلُ قَائِمًا
…
وَيَكْثُرُ فِيها مِنْ حَنِينِ الأَبَاعِرِ
أي: ما قال كاشح، وقد كان طول إدلاج، وكنت أرى بين ساعة، ويكثر فيه حنين.
ورأى زيادة "من" في الإيجاب الكسائي، وخرج عليه "إن من أشد الناس عذابًا المصورون"، وابن جني، وخرج عليه قراءة ابن هرمز (لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ)[آل عمران/ 81]، تقديره عنده: لمن، فأدغم نون من في ميم ما، فاجتمعت ثلاث ميمات، فحذفت ميم "من" وبقيت الثانية التي كانت نونًا مدغمة في ما، انتهى ما لخص من شرح المصنف.
وأما الكوفيون، فاختلف النقل عنهم، فقال بعض أصحابنا عنهم: إنها تزاد في الواجب وغيره بشرط أن يكون مجرورها نكرة، وحكوا عن العرب: قد كان من مطر، وقد كان من حديث فخلا عني أي: كان مطر، وقال الكسائي وهشام من زائدة في قوله تعالى:(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)[نوح/4]، (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)[محمد/ 15]، (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ)[النور/ 30]، كما قال الأخفش فلم يشترط أن يكون المعمول نكرة، ووافقهم الفارسي على زيادتها في قوله تعالى:(وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ)[النور/43] أي: جبالًا فيها برد، وجعل أبو عبيدة في "المجاز" له من زائدة في قوله:(أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ)[البقرة/105]، واستدل أيضًا على زيادتها بغير الشرطين بقوله تعالى:(فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)[المائدة/5].330
وما احتج به لا حجة فيه، أما (لقد جاءك) فالفاعل مضمر، أي: ولقد جاءك هذا النبأ، و (من نبأ المرسلين) في موضع الحال، أي كائنًا من نبأ المرسلين، لأن قبله (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا)(الأنعام/ 34) فخبره تعالى أن هذا النبأ الذي جاءك من نبأ المرسلين فتأس بما جرى لهم.
وأما (من أساور من ذهب) فمن للتبعيض، وأما (ويكفرْ عنكمْ من سيئاتكمْ ويعفرْ لكمْ من ذنوبكم) فالذي يكفر بعض السيئات، والذي يغفر بعض الذنوب، لأن ما كان فيه تبعة لآدمي لا يكفر، ولأن المغفور بالإيمان ما اكتسبوه من الكفر لا ما يكتسبونه في الإسلام، وذلك بعض الذنوب، فمن فيها للتبعيض، وكذلك من للتعبيض في (أن ينزل عليكمْ منْ خيرٍ) إذ أصله: أن ينزل عليكم من خير، أي: بعضًا من خير، ثم بني للمفعول، وأقيم المجرور مقام الفاعل، وجعل الظاهر بدلًا من الضمير لما حذف الظاهر الذي كان يعود عليه الضمير، وهو اسم الله تعالى، وكذا هي للتبعيض أيضًا في (مما أمسكن عليكمْ) لأنه لا يمكن أن نأكل جميع ما أمسكن إذ منه ما يموت مدفى ولم تنفذ مقاتلة، ولا أثر فيه بناب ولا ظفر.
وأما (من تحتها) فلابتداء الغاية، وأما "فإذا بقي من قراءتة" وفي: ما قال من كاشح، وقد كان من طول، ويكثر فيه من حنين، وقد كان مطر، وقد كان من حديث، فمخرج على أن تكون "من" في ذلك كله مبعضة، ويكون الفاعل مضمرًا اسم فاعل يفسره الفعل كما فسر في قوله تعالى:(ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات)(يوسف/ 35) أي: هو، أي: البداء، فكذلك يكون التقدير. فإذا بقي هو، أي باق من قراءته، وفي ما قال، أي: هو قائل من كاشح، وقد كان هو أي: كائن من طول، ويكثر فيه هو، أي: كائن من حنين،
وقد كان هو أي: كائن من مطر، وقد كان هو أي: كائن من حديث. ومجيء اسم الفاعل فاعلًا يدل عليه الفعل سائغ في كلام العرب، قال تعالى: ) سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ((المعارج/1) وقال بعض أصحابنا في: قد كان من مطر، تقديره: قد كان كائن، فحذف الموصوف، وقامت "من" مقامه إذ هي في موضع الصفة، وذلك يحسن في الكلام، وإن كانت الصفة غير مختصة. انتهى.
وهذا تخريج فاسد، لأنه يلزم من ذلك أن يكون المجرور فاعلًا، وأما "من بين ساعة" فمن للسبب، أي: أرى شيئًا عظيمًا كالموت من بين ساعة، وأما:"من أشد الناس عذابًا" ففي "إن" ضمير شأن محذوف، وأيضًا لا يمكن زيادتها من حيث الشرع، لأن ثم من هو أشد عذابًا من المصورين كقتلة الأنبياء، وأما تخريج ابن جني فتخريج أعجمي لا يحتمل مثله في القرآن، ولا يظهر معنى لتخريجه، وأما (يغضوا منْ أبصارهمْ) فمن للتبعيض، لأنهم أمروا بغض بعضها مما كان في النظر امتناع شرعي، وكذلك هي للتبعيض في (وعدَ اللهُ الذينِ آمنوا وعملوا الصالحات منهمْ مغفرةً)(الفتح/ 29)، وأما في ضرورة الشعر، فيجيزون زيادىها في الواجب وفي المعرفة والنكرة، إلى هنا كلام أبي حيان.
وقال ناظر الجيش بعد هذا: وأقول لا حاجة إلى تكلف هذه التخريجات، لما ورد في هذه الأبيات، لأن البصريين يجيزون زيادة "من" في الكلام الموجب، ودخولها على المعرفة في الشعر، وإذا كان كذلك، فلا حاجة إلى تكلف الجواب عن الوارد فيه. انتهى.
والبيت من قصيدة لعمر بن أبي ربيعة مذكورة في "منتهى الطلب" ومطلعها:
صحا القلبُ عنْ ذكرِ أمَّ البنينِ
…
بعدَ الذي قدْ مضى في العصرْ
وأصبحَ طاوعَ عذالهُ
…
وأقصرَ بعدَ الإباءِ المبرْ
أخيرًا وقدْ راعهُ لائحٌ
…
من الشيبْ منْ يعلهُ ينزجر
على أنَّ حبي ابنة المالكي
…
كالصدعِ في الحجر المنفظرْ
يهيمُ النهارَ ويدون لهُ
…
جنانُ الظلامِ بليلٍ سهرْ
وينمي لها حبها عندنا
…
فمنْ قالَ منْ كاشحٍ لمْ يضرْ
كذا في رواية "منتهى الطلب" وعليه لا يكون فيه شاهد، فإن فاعل "قال" ضمير منْ، و "من" للبيان. وأم البنين صفة مادحة عند النساء، والعصر بضمتين، وعذال جمع عاذلٍ، وأقص عن الشيء: أمسك مع القدرة عليه، والإباء: الامتناع، والمبر، اسم فاعل من أبررت القول واليمين: إذا صدقت فيهما. و "أخيرًا" ظرف متعلق بأقصر، وراعه من الروع وهو الخوف، والصدع: الشق، وأراد بالتشبيه الدوام، وفاعل يهيم ضمير القلب، وكذا ضمير له، والنهار، ظرف، وجنان الظلام بفتح الجيم: اشتداده وادلهمامه وهو فاعل يدنو، ووصف الليل بالسهر: إسناد مجازي، وينمي: يزيد، وحبهاك فاعله. وقوله: فمن قال، "من" شرطية مبتدأ، وجملة "قال" مع ضميره الراجع إلى "من" شرط، ولم يضر جواب الشرط، ومفعول القول محذوف للتعميم، أي: فمن قال سوءًا من الأعداء لم يضرنا، وحذف المفعول من فعل الجواب أيضًا. وعلى رواية "فما قال" ما شرطية منصوبة المحل على المفعول المطلق أي: أي قول قال، ويضر يجوز أن يكون مضارع: ضره ضرًا فهو بضم الضاد، ويجوز أن يمون مضارع: ضاره ضيرًا، أي أضر به، فهو مكسور الضاد. وترجمة أبن أبي ربيعة تقدمت في الإنشاد السادس من أول الكتاب.