الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الثالث والعشرون بعد الأربعمائة:
فلوْ نُبِشَ المقابرُ عن كُلَيْبٍ
…
فيُخْبِرَ بالذَّنَائِبِ أيُّ زيرِ
بيومِ الشَّعْثَمَيْنِ لقرَّ عينًا
…
وكيفَ لِقاءُ مَنْ تحتَ القبورِ
على أنّ لو فيه للتمني، أجيبت بجوابين: أحدهما منصوب بأن المضمرة بعد الفاء، والآخر مقرون باللام، فهذا كله ملخص من شرح "التسهيل" لأبي حيان، قال ابن السراج في "الأصول": قالوا: الاختيار في جواب "لو" الرفع، وقد نصب معها الجواب، قال الشاعر:
ولَوْ نُبِشَ المقابرُ عن كُلَيْبٍ
…
فيُعْلَمَ بالذَّنَائِبِ أيُّ زيرِ
ذهب به مذهب ليت، والكلام الرفع نحو قوله عز وجل: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] القلم: 9]. انتهى.
وجعل ابن السيد البطليوسي فيما كتبه على "كامل" المبرد نصب "يخبر" من باب العطف على المعنى قال: وإنما نصب، فيخبر على معنى: لو وقع نبش فإخبار، لأن لو فيها معنى الشرط، فصار بمنزلة قوله: إن تأتني، فتحدثني أحسن إليك وهو قبيح إنما يحسن فيما يخالف فيه الثاني الأول من أجوبة الأشياء الستة المشهورة. انتهى.
وإليه جنح الدماميني، قال: ويمكن أن يخرج على وجهين كل منهما يخدش في الاستدلال:
أحدهما: أن يقال: لا نسلم: "أنه منصوب في جواب التمني" وإنما هو منصوب بأن مضمرة مؤول بمصدر مرفوع فاعل يحصل محذوفًا، وهذه الجملة الفعلية معطوفة على جملة الشرط، أي: فلو نبش المقابر عن كليب، فحصل إخباره باليوم الذي تمَّ فيه على أعدائه ما تمَّ لقرَّ عينًا، فلو هي التعليقية، على بابها، ولا تمني أصلًا.
الثاني: أن يقال نصب "يخبر" بأن مضمرة بعد الشرط لمشابهته النفي، والمعنى: فلو حصل نبش المقابر فالإخبار لقرَّ عينًا، فهو عطف على مصدر متصيد من فعل الشرط،
وإذا كانوا جوزوا مثل هذا على قلة في الشرط في نحو: إن تأتني، فتكرمني آتك، بنصب تكرم، فتجويز ذلك في لو أولى لدلالتها على انتفاء الشرط وضعًا، وهذا الوجه أولى من الأول لأن في ذلك أضمر أن في غير محلها. انتهى.
والبيت من قصيدة لمهلهل رثى بها أخاه كليبًا، وذكر فيها أنه أدرك بثأره ومطلعها:
أليتَنَا بذي حُسُمٍ أنيرِي
…
إذَا أنتِ انقضيتِ فلَا تَحُوري
فإنْ يَكُ بالذَّنَائبِ طال لَيْلي
…
فقدْ أبكِي من الليلِ القصيرِ
وأنقذني بياضُ الصبحِ منهَا
…
لقد أُنقِذْتُ مِنْ شرٍ كبيرِ
ثمَّ وصف نجومَ الليلِ في ثمانية أبياتٍ فقال:
فلو نُبِشَ المقابرُ عن كليبٍ .. إلى آخر البيتين
فإني قد تركتُ بواردات
…
يُجيرًا في دَمٍ مِثْلِ العَبيرِ
وهّمَّامَ بنَ مُرَّةَ قَدْ تَرَكْنَا
…
عليهِ القشعَمَانِ من النُّسورِ
على أن ليس عدلًا من كُليبٍ
…
إذا طُرِدَ اليتيمُ عنِ الجزورِ
على أن ليس عدلًا من كُليبٍ
…
إذا خِيفَ المخُوفُ مِنَ النُّفُورِ
وكرّر المصراع الأول في ستة أبيات أخر كذا، وقال:
فِدِّى لِبَني الشقيقةِ يومَ جاؤوا
…
كأُسْدِ الغابِ لجَّتْ في زَئِيرِ
إلى أن قال بعد ستة أبيات:
كأّنَّا غُدْوَةً وبني أبينا
…
بجنبِ عُنيزة رحيَا مُديرِ
تظلُّ الريحُ عاكفةً عليهِمْ
…
كأنَّ الخيلَ تدحضُ في غديرِ
فلولا الريحُ أسمعَ أهلَ حجرٍ
…
صَليلَ البيضِ تُقْرَعُ بالذُّكُورِ
وهذا آخر القصيدة، وقوله: أليتنا .. الخ، الهمزة للنداء، وذو حُسم بضم الحاء والسين المهملتين: واد بنجد، قاله أبو عبيد البكري، وأنشد هذا البيت، وأنيري: أمر لتلك الليلة بالإنارة، وتحوري بالحاء المهملة: مضارع حار: إذا رجع،
شكى شدة الليل عليه مع ظلامه. وقوله: فإن يك بالذنائب .. إلخ، قال القالي في "أماليه": يقول: إن طال بهذا الموضع لِقتل أخي، فقد كنت أستقصر الليل وهو حي. انتهى.
قال الصاغاني في "العباب": الذنائب ثلاث هضبات بنجد، وبها قبر كليب وائل، وأنشد هذا البيت.
وقوله: ولو نبش المقابر .. إلخ، أي: لو كشف تراب المقابر عن كليب، فأخبر عن الإدراك بثأره، لقرّ عينًا وسُرَّ بذلك. قال أبو عبيدة البكري في "اللآلي شرح أمالي القالي": اسم كليب: وائل، وكنيته: أبو الماجدةـ، وإنما لقب كُليبًا بالجِروِ الذي اتخذه. انتهى.
وقال حمزة الأصفهاني في أمثاله "أعز من كليب" بلغ من عزه أنه كان يحمي الكلأ، فلا يُقرب حماه، ويعمِد إلى الروضة تعجبه، فيشد قوائم كلب، ويلقيه في وسط الروضة فحيث بلغ عواء الكلب كان حمىً لا يرعى، وكان إذا أتى الماء وقد سُبِقَ إليه أخذ الماتح فألقى عليه الكلاب حتى تنهشه، وكان يجير الصيد فلا يهاج. انتهى.
وقال ابن عبد ربه في "العقد الفريد": كليب بن ربيعة هو الذي يقال فيه: أعزّ من كليب وائل، وقاد معدًا كلها، وجعلوا له تاج الملك وتحيته، فغبر بذلك حينًا، ثم دخله زهو شديد، وبغى على قومه حتى بلغ من بغيه أنه كان يحمي مواقع السحاب، فلا يرعى حماه، ويجير على الدَّهر، فلا تخفر ذمته، ويقول: وحش كذا في جواري فلا يُهاج، ولا يورد أحد مع إبله، وتزوج جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان، وأخوها جساس بن مرة، وكانت البسوس [بنت منقذ التميمية، خالة جساس بن مرة، وكانت] نازلة في بني شيبان مجاورة لجساس، وكانت لها ناقة يقال لها: سراب، كقطام، ولها تقول العرب:"أشأم من البسوس، وأشأم من سراب" فمرت إبل لكليب بسراب ناقة البسوس، فاختلطت بها حتى انتهت إلى كليب وهو على الحوض، فلما رآها أنكرها فرمى ضرعها بسهم، فنفرت الناقة وهي ترغو، فلما رأتها البسوس، صاحت: واذلَّاه فأحمست جسّاسًا، فركب
فرسه وتبعه عمرو بن الحارث بن ذهل ومعه رمحه دخلا على كليب الحمى، فقتلاه، فرحلت بنو شيبان، وتشمر المهلهل، فاستعد لحرب بكر، وترك النساء والغزل، وحرَّم القمار والشراب، وجمع قومه وحاربهم.
وفي أوَّل وقعة كانت الشوكة في بني شيبان، والغلبة لتغلب، وكانت الوقعة بالنهي، وهو ماء من مياه بني شيبان، قتل فيها شراحيل بن مرة بن همان بن مرَّة، ثم التقوا بوازدات، فظفرت تغلب أيضًا وكثر القتل في بكر، قتل شعثم وعبد شمس ابنا معاوية بن عامر بن ذهل بن ثعلبة، وقتل همام بن مرة وغيرهم، ثم التقوا بعنيزة، فظفرت تغلب أيضًا، ثم كانت بينهم وقائع كثيرة، وكلها الغلبة لتغلب على بكر، وقال مهلهل يصف الأيام وينعاها على بكر في قصيدة طويلة، أولها:
أليتنا بِذي حُسُمٍ أنيري
وكان الحارث بن عباد قد اعتزل تلك الحروب حتى قتل مهلهل بجيرًا ابنه، فلما بلغ الحارث قتله قال: نعم القتيل أصلح بين ابني وائل، وظنَّ أن مهلهلًا أدرك به ثأر كليب، وجعله كفءًا له فقيل له، إنما قتله بشسع نعل كليب فغضب الحارث، وتولى أمر الحرب، فقاتل تغلب، فقتلهم، وتفرقت قبائل تغلب، وأسر الحارث بن عباد مهلهلًا وهو لا يعرفه، فقال له: دلني على مهلهل، وأخلي عنك، فقال له: عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال: نعم، قال: أنا مهلهل، فجزَّ ناصيته، وتركه، ثمَّ إنَّ مهلهلً فارق قومه ونزل في بني جنب وجنب في مذحج، فخطبوا إليه ابنته، فمنعهم، فأجبروه على تزويجها وساقوا إليه في صداقها جلودًا من أدم، فقال في ذلك من أبيات:
أنُكَحَها فقدُها الأراقِمَ مِنْ
…
جَنْبٍ وكانض الحِباءُ مِنْ أَدَمِ
هذا ما اختصرته من "العقد الفريد" وكانت مدة حرب البسوس أربعين سنة،
وقوله: أي وزير، قال أبو الحسن الأخفش فميا كتبه على "كامل المبرد"، يقال: فلان زير نساء، وطلب نساء وتبع نساء وخِلْم نساء، كلها بكسر الأول وسكون الثاني إذا كان صاحب نساء، وذلك أن مهلهلًا كان صاحب نساء، وكان كليب يقول: إنَّ مهلهلًا زير نساء لا يدرك بثأر، فلما أدرك مهلهل بثأر كليب، قال: أيُّ زير، فرفع أيًا بالابتداء، والخبر محذوف، فكأنه قال: أي زير أنا في هذا اليوم، والذنائب: موضع. انتهى.
وقال ابن السيد البطليوسي: وروى الكسائي: "أيِّ زير" بالنصب على تقدير أيّ زير كنت. انتهى. والجيد أن يكون أيّ زير خبرًا لأنا المقدر، وأي هنا هي الدالة على معنى الكمال. ولم يصب الدماميني في قوله: المراد بأيّ زير كليب، فهو ظاهر أقيم مقام المضمر. انتهى.
وقوله: بيوم الشعثمين الباء بمعنى في متعلقة بمحذوف صفة لزير، ويوم الشعثمين هو يوم واردات، وفيه حذف مضاف، أي: يوم قتل الشعثمين، وهما شعثم، وعبد شمس ابنا معاوية، كما تقدم نقله من "العقد الفريد" وثناهما بلفظ أحدهما على سبيل التغليب، وكذا قال الصاغاني في "العباب" وقال أبو عبيد البكري في "اللآلي، شرح أمالي القالي": الشعثمان: شعثم وشُعيث ابنا معاوية بن عامر بن ذهل بن ثعلبة، وهو قول ابن حبيب في كتاب "المثنى" وهما ابنا معاوية بن عامر بن ذهل بن ثعلبة، ففيه حذف واختصار، واسم شعثم حارثة عن ابن السكيت. انتهى. وقال الإمام المرزوقي في "شرح ديوان أبي تمام": الشعثمان قيل: رجلان، يقال لأحدهما شعثم وللآخر شعثب، وقيل: كان الآخر لعثمًا، وهما ابنا معاوية بن عامر بن ذهل قتلهما مهلهل في طلبه دم كليب، وكان يسميه وهو حي: زير نساء، ولذلك قال:
فلو نبش المقابر عن كليب. البيتين. انتهى. وقال أبو القاسم الزجاجي في كتاب "الأخبار": الشعثمان هما من بني عامر بن ذهل، ولم يكن يقال لواحد منهما شعثم، ولكنهما نسبا إلى أبيهما شعثم، ومثله المهالبة والأصامعة والمسامعة والأشعرون الواحد أشعر، والمعاول نسبوا إلى أبيهم معول بن شمس، والقتيبات نسبوا إلى أبيهم قتيبة، ومثلهم الرفيدات إلى رفيدة، والجبلات بنو جبلة، والعبلات بنحو عبلة، والسلمات بطن من قريش يقال لأبيهم سلمة. انتهى. وقد جمعهما الأخطل على شعاثم يريد الشعثمين ومن قتل معهما. قال في قصيدة يفخر بقومه بني تغلب:
بقومِ هُمُ يومَ الذنائبِ أهلكوا
…
شعاثم رهط الحارث بن عُبادِ
وقال القالي في "أماليه": الشعثمان موضع معروف ولم أرّ هذا القول لغيره، ولم يذكره أبو عبيد البكري في "معجم ما استعجم" ولا غيره، ولو كان موضعًا لذكر في أيام العرب، ولم يذكره أحد ممن شرح حرب البسوس، وذكر أيامها. ولم يصب الدماميني في قوله: فالظاهر أنَّ هذا اليوم نسب إلى هذين الأخوين لاختصاصهما بالغلبة فيه، أو لغير ذلك وباء بيوم الشعثمين للإلصاق المعنوي. هذا كلامه. وكأنه لم يكشف عن حرب البسوس حتى يعلم أن مهلهلًا قتلهما. وقصّر صاحب "القاموس" في قوله: وقول مهلهل بيوم الشعثمين لم يفسروه، والظاهر أنه موضع كانت به وقعة. انتهى.
وقوله: فإني قد تركت بواردات .. إلخ. قال أبو عبيد البكري: هو موضع، وبواردات كان اليوم الثالث من حروب بكر وتغلب، والأول: بالنهي من مياه بني شيبان، والثاني: بالذنائب، وكانت الثلاثة لتغلب على بكر. والرابع: يوم عنيزة، وكان لتغلب أيضًا، ويجير: بضم الموحدة وفتح الجيم: هو ابن الحارث بن عباد، كان أرسله أبوه ليقول له: قد أفنيت قومك، فاكتف بما قتلت، وقد اعتزلنا من الفريقين لعلمنا أنهم ظلموك، فغدر به مهلهل، فقتله، والعبير: الزعفران،
وهمام بن مرة: هو أخو جساس بن مرة، قال القالي في "أماليه": قوله: عليه القشعمين، ويروى: عليه القشعمان، فمن رفع جعله حالًا، كأنه قال: وعليه القشعمان من النسور، والقشعم: الهرم. انتهى. وقوله: على أن ليس عدلًا من كليب. قال السيد المرتضى في "أماليه": التكرار في سورة الرحمن إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة. فكلما ذكر نعمة أنعم بها، قرر بها ووبخ على التكذيب بها، كما يقول الرجل لغيره: ألم أحسن إليك بأن خوَّلتك الأموال؟ ! ألم أحسن إليك بأن خلصتك من المكاره؟ ! ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا؟ ! فيحسن فيه التكرير لاختلاف ما يقرره به. وهذا كثير في كلام العرب وأشعارهم، قال مهلهل ابن ربيعة يرثي أخاه كليبًا:
على أنْ ليسَ عدلًا مِنْ كُليبٍ
…
إذا طُرِدَ اليتيمُ عنِ الجزورِ
وأنشد الأبيات الثمانية، وأورد أشعارًا على هذا النمط لليلي الأخيلية وغيرها، ثم قال: وهذا المعنى أكثر من أن نحصيه، وهذا هو الجواب عن التكرار في سورة المرسلات لقوله تعالى:(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) فإن قيل: في جملة ذلك ما ليس بنعمة. وهو قوله تعالى: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ) الآية [الرحمن/ 35]، قلنا: الإنذار بالعقاب من أكبر النعم، لأن فيه زجرًا عما يستحق به العقاب. انتهى.
وقوله: كأنا غُدوة وبني أبينا، قال ابن السيد في "شرح أبيات أدب الكاتب": يريد ببني أبيه بكر بن وائل، وعنيزة بالتصغير: موضع كما تقدم، وشبه الجيشين برحيين يديرهما مدير للطحن، ورحا الحرب: وسطها، لأنهم يستديرون فيها عند القتال، أو لأنها تُهلك من حصل فيها كما تطحن الرحا الحب، قال ربيعة بن مقروم:
فدارتْ رَحَانا بفُرسانِهِمْ
…
فعادُوا كأنْ لم يكونُوا رميما
انتهى.
وقال أبو عبيد البكري في شرح "نوادر القالي" المسمى "بقرة النواظر في شرح النوادر" الرحيان: إذا أدارهما مدير أثرت إحداهما في الأخرى، وهما من معدن واحد، وكذلك هؤلاء هم من أصل واحد يتماحقون ويقتتلون. انتهى.
وقوله: كأن الخيل تدحض في غدير بالحاء المهملة، والضاد المعجمة، قال القالي: تدحض: تزلق، يقال: مكان دحض ومدحضة ومزلة، وقوله: فلولا الريح أسمع أهل حجرٍ بفتح الحاء المهملة، وسكون الجيم: مدينة وهي قصبة اليمامة، وأهل مفعول، وصليل: فاعل، والصليل: الصوت، والبيض، بفتح الموحدة: الحوذ وهما المغفر واحدهما بيضة وخوذة، وتقرع: يضرب، والقرع: الضرب بشيء صلب على شيء صلب، والذكور جمع ذكر بفتحتين. وهو السيف من الفولاذ. قال القالي: والذكور: السيوف التي عملت من حديد غير أنيث، وحجر: قصبة اليمامة، وحربهم إنما كانت بالجزيرة. انتهى.
وقد أخذ هلا ابيت القُحيف العُقيلي فقال في يوم الفلج:
ولولًا الرِّيحُ أسمعَ أهلَ حجرٍ
…
صياحُ البيضِ يقرَعُها النِّصَالُ
قال أبو العباس الأحول: هذا أوَّل كذب سمع في الشعر، وزعم الحاتمي أنَّ دعبل بن علي قال: هذا أكذب بيت قيل. وقال المبرد في "الكامل" عند ذكر مثل هذا: وحدثني التوزي قال: سألت أبا عبيدة عن مثل هذه الأخبار، فقال: إن العجم تكذب، فتقول: كان رجل ثلثُه من نحاس، وثلثُه من نار، وثلثُه من ثلجَ، فتعارضها العرب بهذا وما أشبهه، من ذلك قول مهلهل:
فلولا الريح أسمع .. البيت. انتهى
وقال ابن السيّد في شرح أبيات "أدب الكاتب" قال أبو جعفر بن النحاس: يقال: إنَّ هذا أوَّ كذب سمع في الشعر، وإن قوله: كأنا غدوة، أول تناصف سمع في الشعر. وهذا الذي حكاه غير صحيح، لأنَّ الشعر موضوع على الكذب والتخييل إلا القليل منه، وإنما أراد قائل هذا أن يقول: إن هذا أول غلو سمع في الشعر،
لأنَّ قتالهم كان بالجزيرة، وحجر قصبة اليمامة، وبين الموضعين مسافة عظيمة، فعبر عن الغلو بالكذب. انتهى كلامه وهو حسن.
ومهلهل اسمه امرؤ القيس بن ربيعة، وسمي مهلهلًا لأنه هلهل الشعر. أي: أرقّه، وهو أول من قصَّد القصيد. قال الفرزدق:
. . ومُهَلْهِلُ الشَّعَرَاءِ ذاكَ الأوَّلُ
ولم يقل أحد قبله عشرة أبيات، وقال الغزل، واعتنى بالنسيب في شعره، وهو خال امرئ القيس بن حجر صاحب المعلقة، وهو أخو كليب، وهو جاهليّ، وقال أبو عبيد البكري في شرح "الأمالي" تبعًا لغيره: وقيل: اسمه عدي، والشاهد لذلك قوله:
ضربَتْ صدرُها إليَّ وقالَتْ
…
يا عديَّا لقد وقتكَ الأواقي
ومن قال: إنَّ اسمه امرؤ القيس يروي هذا البيت:
ضَربَتْ صدرَهَا إليَّ وقالتْ
…
يا امرأَ القيسِ حانَ وقتُ الفِرَاقِ
ويقال: إنَّ عديًا إنما هو أخوه. انتهى.
أقول: هذا القول الأخير هو الصحيح، فإنَّ السكري أورد البيت من قصيدة في أشعار تغلب بعد أشعار مهلهل لعدي بن ربيعة يرثي بها مهلهلًا وكليبًا، ويذكر من هلك من قومه في تلك الحروب التي كانت بين بكر وتغلب، وكذا في "العباب" للصاغاني قال في مادة "علق" بالعين المهملة: عدي بن ربيعة يرثي أخاه مهلهلًا، وقال الطوسي: إنما سمّي مهلهلً ببيت قاله لزهير بن جناب وهو:
لمَّا توعَّرَ في الكُرَاعِ هجينُهُمْ
…
هلهلتُ أثأرُ مالكًا أو صنبلًا
فأجابه زهير بن جناب بقوله:
إنَّا مهلهلُ ما تطيشُ رماحُنا
…
أيامَ ننقُفُ في يديكَ الحنظلا
قال السكري: فكان هذا البيت هو الذي هلهل مهلهلًا. انتهى.