الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده، وهو الإنشاد التاسع بعد الأربعمائة:
ما كان ضركَ لو مننتَ ورُبَّما
…
مَنَّ الفتى وهوَ المغيظُ المُحنَقُ
على أن لو فيه مصدرية، فتكون من مننت في تأويل المنَ. قال الدماميني: ولو مننت يحتمل أن يكون اسم كان، وضرك خبرها، أي: ما كان مَنُّك، فترك على ما هو الأصح من جواز تقديم الخبر الفعلي على الاسم في هذا الباب، ويحتمل أن يكون فاعلًا بضرك، والجملة خبر كان، واسمها ضمير شأن. انتهى كلامه. وهو مبنيّ على أنَّ ما نافية، ويجوز أن تكون استفهاميّة محلّها الرّفع على الابتداء، وفي كلّ من كان وضرّك ضميرُ ما، وجملة ضرّك خبر كان، وجملة كان ضرّك خبرُ ما، ولو مننت في تأويل مصدر مجرور بالباء السببيَّة، والتقدير: أي شيء كان ضرّك بسبب المن عليه؟ والاستفهام إنكاريّ، ولم يذكر شرَاح "الحماسة" في هذا البيت شيئًا غير الطبرسي، فإنَّ كلامه أشعر بأنَّ ما استفهامية، والعيني لم يذكر إلا كونها استفهامية، ولم يبين موقع المصدر المؤول من الإعراب، وقد خلط في "لو" فجعلها شرطيَّة ومصدرية معًا، ولم يقل بهذا أحد، قال: ما استفهامية مبتدأ و"كان ضرّك" في محل الرفع على الخبرية، واسم كان مستتر فيه، وضرك خبره، ولو للشرط، ومننت فعل الشرط، وصدر الكلام أغنى عن جواب لو، والاستشهاد فيه أنَّ لو ههنا مصدرية، والشرط فيها أن يصلح موضعها "أنْ" المصدرية، والتقدير: وما كان ضرّك المنَ عليه. هذا تقديره.
وجوَّز بعض مشايخنا أن تكون كان زائدة على الاستفهام، والتقدير: ما ضرك في المن، وعلى النفي تكون غير زائدة، أي: ما كان ضارًا لك فيه. هذا كلامه. وقد تكلَّم على هذا البيت أبو علي الفارسي في كتاب "إيضاح الشعر" ولم يجوز كون لو مصدرية سواء كانت ما استفهامية أو نفيًا لعدم السابك، وجوَّز أن تكون همزة الاستفهام سابكة دونها، لأنها ليست حرف مصدر عنده.
فقول ابن مالك في "شرح التسهيل" وتبعه المصنّف وغيرُه أنَّ ممّن ذهب إلى مصدريَّة "لو" أبا عليّ فيه نظر، وهذا كلام أبي علي في ذلك الكتاب نقلناه برُمّته لفوائده:
ما يضُرُّ البحرَ أمسَى زَاخِرًا
…
أن رَمَى فيهِ غُلامٌ بحَجَرْ
القول في فاعل يضرّ أنَّه يحتمل أن يكون أحد شيئين، أحدهما: أن تجعل ما استفهامًا، فيصير في يضر ضميرها، ويكون "أن رمى" في موضع نصب على هذا؛ فيكون التقدير: بأن رمى فيه، كأنه قال: أي شيء يضر بالبحر يرمي غلام فيه بالحجر؟ ويجوز أن تجعل ما نفيًا، فيصير موضع "أن رمى" رفعًا بأنَه فاعل تقديره: ما يضرّ البحر رَمْيٌ غلامٍ فيه بحجر، ومن ذلك قوله:
مَا ضرَّ تَغْلِبَ وائلٍ أهُجَوتَهَا
…
أمْ بُلْتَ حيث تناطحَ البحرانِ
إن جعلتَ ما استفهامًا صار في "ضرّ" ذكر يكون فاعل ضرّ، وعائد إلى المبتدأ كقولها "مَا كانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ .. البيت". فكما أنَّ فاعل ضرّك في هذا البيت في المعنى ما يعود إلى ما؛ كذلك يكون قوله: ما ضرّ تغلب وائل: أيّ شيء ضرّها؟ وهذا هو الوجه. فإن قلتَ: فهل يجوزُ أن أجعل ما نفيًا في قوله: ما ضرّ تغلب وائل؟ فإنَّك إن جعلتها كذلك لم يكن للفعل فاعل، فإن قلت: أجعل الفاعل فيه أحد شيئين، أحدهما: أني إذا قلت: "ما ضرّ" دلَّ الفعل على المصدر، فأجعل الفاعل ضمير المصدر، فيكون التقدير: ما ضرّها ضرَ أو ضير، لأنه بمعنى الضرّ، وقد قال: لا ضير، بمنزلة: قيل فيه قول، وذهب به مذهب، ويكون قوله:"أهجوتها أم بلتَ حيث تناطح البحران" اتّصاله بالكلام على المعنى كأنه يريد: هجوك لها وقولك في هذا المكان سواء في أنهما لا يضرّانِها، ويقوي ذلك أنّه ليس باستفهام، ألا ترى أنّه ليس يستفهمه عن ذلك! ومثل هذا في تأويل قول سيبويه قول الشّاعر:
فَقُلتُ تحَمَّلْ فوقَ طوقِكَ إنها
…
مُطبَّعة مَنْ يأتِهَا لا يضِيرُهَا
إلا أنَّ الفاعِل لا يكون إلَّا ما دلَّ عليه يضيرها، لأنه ليس في الكلام ما يجوز أن يكون فاعلًا غير ذلك. والآخر أن يكون الكلام محمولًا على المعنى، فيكون الفاعل ما دلَّ عليه: أهجوتها أم بلت، كأنّه قال: ما ضرَّ تغلب وائل هجاؤك وبولك بهذا المكان. وحسن تجويز ذلك أنَّ ما ذكرنا من هذين الاسمين قد تعاقبا لفظ الاستفهام، فجاء (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ)[المنافقون/ 6] فما دخلت عليه الهمزة وأم في موضع خبر المبتدأ، فكما كان هذان الاسمان في موضع خبر المبتدأ كذلك يجوز أن يكونا فاعلين في هذه المواضع، ويحمل الكلام على المعنى. وإن شئت جوزتَ في قولها:"ما كان ضرك لو مننت" أن تكون ما نافية، فأضمرت في الفعل الضُّرّ، ولا يستقيم أن تجعل لمن الذي دلَّ عليه قولها لو مننت الفاعل كما استقام ذلك في همزة الاستفهام وأم، ألا ترى أنّه ليس في "لو" ما في الهمزة و"أم" من معاقبة الاسمين بعد لو كما تعاقبا بعد سواء. هذا آخر كلام أبي علي.
ومقتضاه أن لو شرطيَّة وجوابها محذوف دلَّ عليه ما قبلها ولا مانع منه.
والبيت أحد عشرة أبيات لقتيلة بنتِ النّضر بن الحارث رثت بها أباها النّضر، وعاتبت النبي صلى الله عليه وسلم في قتله، ولم يُطلقه بفدية، وكان أسر ببدر، وقتل بعد الوقعة. قال ابن هشام، في "السيرة" النّضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مَناف قتله عليَّ بن أبي طالب صبرًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصَّفراء. قال ابن هشام: بالأُثَيْل، ويقال: النّضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف. انتهى. وقد أورد أصحاب السير أبياتها في كتبهم، ولم يصب ابن هشام في قوله: قتيلة بنت الحارث أخت النّضر بن الحارث، قال السَهيلي: الصَّحيح أنها بنت النّضر لا أخته، كذلك قال الزبير وغيره، وكذلك وقع في كتاب "الدلائل".
وقتيلة هذه كانت تحت الحارث بن أمية الأصغر، فهي جدة الثريا بنت عبد الله
ابن الحارث التي يقول فيها عمر بن أبي ربيعة حين خطبها سهيل بن عبد الرحمن ابن عوف:
أَيُّها المُنْكِحُ الثُّرَيّا سُهَيْلًا
…
عَمْرَكَ اللهَ كيفَ يلتقيانِ
هِيّ شاميةٌ إذَا مَا استقلتْ
…
وسُهَيْلٌ إذا استقلَّ يماني
ورهط الثريا هذه يُقال لهم العبلات، لأنَّ أمَّهم عبلة بنت عبيد بن جاذب انتهى.
وقد أورد أبو تمام الأبيات في باب الرثاء، وأسقط منها بيتين، ونسبها لقتيلة بنت النضر على الصَّواب، وهذه روايتها من يسرة ابن هشام:
يا راكِبًا إنَّ الأُثيلَ مظنَّةٌ
…
مِنْ صُبْحِ خامسة وأنتَ موفقُ
أبلغ بها ميتًا بأن تحيةً
…
ما إن تزالُ بها النجائب تخفِقُ
مني إليهِ وعَبْرَةً مسفوحةً
…
جادَتْ بواكِفِها وأخرَى تخنُقُ
هل يسمعنَّ النَّضْرُ إن ناديتُهُ
…
أم كيفَ يسمعُ ميتٌ لا ينطِقُ
أمُحمَّدٌ ولأنتَ ضِنءُ كريمةٍ
…
في قومِها والفحل فحلٌ معرِقُ
ما كانَ ضرَّكَ لو مننتَ وربما
…
مَنَّ الفتى وهو المغيظُ المُحنّقُ
أو كنتَ قابلَ فِديةٍ فلينفقنْ
…
بأعزِّ ما يغلُو بِهِ ما يُنفَقُ
فالنَّضرُ أقربُ مَنْ أسرْتض قرابةً
…
وأحقُّهُمْ إنْ كانَ عتقٌ يُعتَقُ
ظلت سيوفُ بني أبيه تنوشُهُ
…
للهِ أرحامٌ هناكَ تشقَّقُ
صبرًا يقاد إلى المنية مُتعبًا
…
رسف المقيدِ وهو عانٍ موثَقُ
قال ابن هشام: ويقال - والله أعلم - إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما بلغه هذا الشّعر قال:"لو بلغني هذا قبل قتله، لمننتُ عليه" انتهى.
وقال شرّاح "الحماسة": كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تأذّى به، فقتله صبرًا، وكان من جملة أذاه أنَّه كان يقرأ الكتب في أخبار العجم على العرب، ويقول: محمّد يأتيكم بأخبار عاد وثمود، وأنا أنبئكم بأخبار الأكاسرة والقياصرة، يريد ذلك القدحّ في نبوته، وأنه إن جاز أن يكون بذلك نبيًا، فإني قد أتيتُ بمثلها.
وذكر ابن عباس في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ)[لقمان/ 6] أنها نزلت في النّضر بن الحارث الدَّاري، كان يشتري كتب الأعاجم، فارس والروم، وكتب أهل الحيرة فيحدّث بها أهل مكّة. وقتيلة لما جاءت إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وأنشدته الأبيات رق لها وبكى، وقال: لو جئتني م نقبل قتله، لعفوتُ عنه، ثمَّ قال:"لا تقتل قريش بعد هذا صبرًا". انتهى.
والأُثَيْل: على وزن مصغر الأثل: موضع بالصفراء فيه قبر النّضر بن الحارث، والصفراء: قرية فوق ينبغ كثيرة المزارع والنخل، ماؤها عيون، يجري فضلها إلى ينبع، وبين ينبع والمدينة ست مراحل، والصفراء: على يومين من جبل رضوى، كذا في "معجم ما استعجم" للبكري. ومظنَّة: موضع الظن، وقولها: من صبح خامسة، تريد: من السير الذي آخره صبح خامس ليلة، وقولها: وأنت موفق، أي: وفقت بإصابة الجادة ولم تخرجِ عنها، وتخفق: تضطرب وتتحرك بشدة، ومنّي: متعلق بمحذوف صفة لتحيّة، والعبرة: الدَّمعة، والمسفوحة: المصبوبة. وقوله: وأخرى تخنق، أي: وعبرة أخرى قد خنقتني، ولم توجد بعد، و"أم" للإضراب. وقولها: أمحمد ولأنت، قال ابن جني في "إعراب الحماسة": هذا على مذهب سيبويه، أعني تبقية الضمة في المادى مع التنوين اللاحق اضطرارًا، كقوله:
سلامُ اللهِ يا مطرٌ عليهَا
وقياسه عند عيسى بن عمر: أمحمدًا بالنصب، ومثال هذا مما نون اضطرارًا والحركة قبل التنوين حركة بناء لا حركة إعراب ما رواه يونس في قول الشاعر:
لا نسبَ اليومض ولا خُلَّةً
…
البيت
…
من أنَّ التنوين في خلّة إنما دخل اضطرارًا لإقامة الوزن، وأنه إنما أراد: ولا خلة، فنون اضطرارًا، فكما أن ضمّة يا مطر بناء، فكذلك فتحة تاء: ولا خلةَ فتحة بناء. انتهى.
ورواه السهيلي: "أمحمدا" بألف، وقال: قال قاسم: أرادت: يا محمداه على الندبة، قال: والضَّنءُ: الولد، والضنءُ الأصل، يُقال: ضنأَت المرأة، وأضنأت، وضنت تضنو: إذا ولدت. انتهى. وروي: "أمحمد ها أنت". وها للتنبيه دخلت على الجملة الاسمية، والضنء بفتح الضاد المعجمة وكسرها وسكون النون بعدها همزة، وتريد بالفحل: الأب، والمعنى: أنت كريم الطرفين، عريق من الجهتين. وقولها: ما كان ضرّك .. إلخ، من مَنّ عليه بالعتق من باب قتل، أي: أنعم عليه به، وربما للتقليل، والمغيظ: اسم مفعول من الغيظ، قال صاحب "المصباح": الغيظ الغضب المحيط بالكبد، وهو أشدّ من الحنق، وفي التنزيل (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ)[آل عمران/ 119] وهو مصدر غاظه الأمر، والمحنق: اسم مفعول من أحنقته: إذا غظته، وحَنِقَ من باب تعب: اغتاظ. وقولها: لله أرحام .. إلخ كالمستعطفة والمتعجبة. لله أرحام وقرابات في ذلك المكان قطعت، فاللام للتعجب، وإذا عظموا شيئا نسبوه إلى الله تفخيمًا لأمره، وقولها: صبرًا يقاد .. إلخ في "المصباح": قتلته صبرًا. كل ذي روح يوثق حتى يقتل، فقد قتل صبرًا، ورسف في قيده رسفًا من بابي ضرب وقتل: إذا مشى فيه، والعاني: الأسير، وقتيلة: بضم القاف وفتح المثناة الفوقية: علم منقول من مصغر القتل.