الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المشركون، وأرادُوا أن يصلِبُوه، ويُمَثّلوا به، فحمته الدَّبْرة، وهي النّحل، فلم يقدِرُوا عليه. والأحوص مقدَّم عند أهل الحجاز وأكثر الرّواه، لولا أفعاله الدّنية، لأنّه أسمحهم طبعًا، وأسلمهم كلامًا، وأصحهم معنى، ولشعره رونق وحلاوة، وعُذوبة ألفاظ ليست لأحد، وهو محسن في الغزل والفخر والمدح، وكان يُشبّب بنساء أشراف المدينة فنُهي، فلم ينته، فشكي إلى سليمان بن عبد الملك، فأمر عامله بالمدينة أن يضربه مائة، ويقيمه على البُلُس للنّاس، ثمَّ يسيّره إلى دِهْلِك ففعل به ذلك، والبُلُس بضمّتين جمع بلاس ككِتاب، وهي غرائر كبار من مُسُوحٍ يجعل فيها التّبن يُشهّر عليها من يُنكّل، ويُنادي عليه. ومن دعائهم:"أرانيك اللهُ على البُلُس" وبقي منفيًّا بِدِهْلك إلى أن مات عمر بن عبد العزيز، وولي مكانه يزيد بن عبد الملك، فخلى سبيله، وأعطاه أربعمائة دينار. وقد بسطنا ترجمته في الشّاهد الخامس والثّمانين من شواهد الرّضى.
والأحوص من الحوص بمهملتين، وهو ضيق في مؤخّر العين، وهذا الشّعر نسبه إليه ابن الأنباري، وأبو حيّان، وأنشد البيتين المبرّد في أوائل "الكامل" قال: معنى شطّت: تباعدت، ويقال: أشطّ فلان في الحكم إذا عدل عنه متباعدًا قال تعالى: (فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ)[ص/ 22] وقال الأحوص:
ألا يَا لَقَوْمي قَدْ أشَطّتْ عواذِلي
…
إلى آخر البيتين.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد التّاسع بعد الأربعمائة:
أبَى جُودُهُ لا البُخْلِ واستعجلَتْ بِهِ
…
نَعَمْ مِنْ فتىً لا يَمْنَعُ الجُودَ قَاتِلَهْ
على أنَّ "لا" فيه أيضًا زائدة على وجه من أوجه رواية نصب البخل، ومحصل ما روي في البخل وجهان: النّصب، والجرّ، ومحصل ما قيل في النّصب ثلاثة
أقوال: كون "لا" زائدة، وكونها اسمًا، والبخل بدل، وكونها اسمًا أيضًا، والبخل مفعول لأجله بتقدير مضاف وما قيل في الجرّ وجه واحد وهو كون "لا" اسمًا أريد به اللّفظ وهو مضاف، والبخل مضاف إليه. وروى الجرّ والنّصب أبو الحسن الأخفش سعيد بن مسعدة المجاشعي في كتاب "المعاياة" وهو من أبيات المعاني قال: أضاف "لا" إلى البخل أراد أبي جوده "لا" التي تكون للبخل. وقال بعضهم: لا البخلَ، جعلَ "لا" زائدة، ونفيت البخل ونفيت قاتله، لأنّه أراد: لا يمنع الفتى الجوع قاتله، وقاتل الجوع الخبز، وما يؤكل. انتهى. وكذا قال أبو علي في "الحجّة" عند قوله تعالى:(وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)[الأنعام/ 109] قال: ومثل "لا" هذه هي أنها - تكون في تأويلٍ - زائدةٌ، وفي آخر غيرُ زائدة قول الشّاعر: أبى جُودُهُ .. البيت. ينشد: أبى جُودُهُ لا البخلَ، ولا البخلِ. فمن نصب البخل جعلها زائدة، كأنّه قال أبي جُودُهُ لا البخلَ، ولا البخلِ. فمن نصب البخل جعلها زائدة، كأنّه قال أبي جُودُه البخلَ، ومن قال: لا البخلِ، أضاف لا إلى البخل. انتهى. وقال أيضًا في "إيضاح الشّعر" وأنشدوا قول الشّاعر: أبى جُودُه .. البيت. على ضربين لا البخلَ ولا البخلِ بالنّصب والجرَ، والجرّ قول أبي عمرو فيما رواه يونس عنه، وجعلها مضافةً لأنّه قد تكون للجود والبخل، ألا ترى أنَه لو قال: امْنَعِ الحّقَّ. واحْرِمِ المساكينَ، فقال: لا، كان هذا جُودًا، فأما بقاؤها على حرفين، فميل: فَا زيدٍ، وذّا مال. انتهى.
وكذا رواه بالنّصب والجرّ ابن الشّجري في "أماليه"، قال: قد روي بنصب البخل وجرّه. فنصبه على أن تكون "لا" زائدة، وجرَه على إخراج "لا" من الحرفيّة إلى الاسميّة، وإضافتها إليه، لأنَّ "لا" تكون للبخل ولغير البخل، فأراد أنّه يمتنع من "لا" الّتي للبخل خاصّة. فمثال الّتي للبخل أن يقول له: هل تجود عليَّ بدرهم؟ فيقول: لا، ومثال التي لغير البخل أن يقول له: هل تمنعني عطاءك؟ فيقول: لا. انتهى. وكذا أورده بالوجهين ابن جني في "الخصائص" وذكر
للنّصب وجهين، قال: فمن نصبه، فعلى ضربين أحدهما: أن يكون بدلًا من "لا" لأنَّ "لا" موضوعة للبخل، فكأنه قال: أبى جُودُه البخل. والآخر أن تكون "لا" زائدة حتى كأنّه قال: أبى جُودُه البخل لا على البدل، لكن على زيادة لا، والوجه هو الأوَّل، لأنّه قد ذكر بعدها نعم، ونعم لا تزاد، فكذلك ينبغي أن تكون "لا" هنا غير زائدة. والوجه الآخر على الزّيادة صحيح أيضًا لجري ذكر لا في مقابلة نعم، وإذا جاز لـ "لا" أن تعمل وهي زائدة في قوله:
لوْ لمْ تكُنْ غَطَفانُ لا ذُنُوبَ لها
…
إليَّ لامَتْ ذَوو أحْسَابها عَمَرا
كان الاكتفاء بلفظها من غير عمل له أولى بالجواز، ومن جرَه فبإضافة "لا" إليه، لأنَّ "لا" كما تكون للبخل قد تكون للجود أيضًا، فلمّا كانت "لا" قد تصلح للأمرين جميعًا، أضيفت إلى البخل لما في ذلك من التّخصيص الفاصِل بين المعنيين الضّدّين. فإن قلت: فكيف تضيفها وهي مبنيّة؟ ألا تراها على حرفين، الثاني حرف لين، وهذا أدلّ شيءٍ على البِناءِ؟ قيل: الإضافة لا تنافي البناء، بل لو جعلها سببًا له لكان أعذر من أن يجعلها نافية له، وقد قالوا: كم رجلٍ قد رأيت! "فكم" مبنيّة وهي مضافة. وقالوا: لأضْرِبنَّ أيُّهُمْ أفضَلُ، وهي مبنيّة عند سيبويه انتهى كلامه، واقتصر ابن السّكيت في "أبيات المعاني" على رواية الجرّ، قال: جعل "لا" اسمًا وأضافها إلى البخل، ونصب الجوع وقاتله؛ يريد: لا يمنع الجائعِ الخبزَ، كأنّه قال: لا يمنع الجوعَ دواءَه ودواءُ الجوع الخبز. انتهى، وسيأتي أنه ليس في هذا كبير مدح.
وكذلك اقتصر على رواية الجرّ أبو علي في "المسائل العسكريّة" قال: وما يجري مجرى "فم" في الإضافة في كونه على حرفين آخرهما حرف لين قولهم: ذو مال، ومنه أيضًا ما حكاه أبو الحسن عن يونس عن أبي عمرو من أنّه كان ينشد: أبي جوده لا البخلِ. فهذا على قول أبي عمرو مضاف، فإذا أضافه، فقد جعله اسمًا، وإذا
جعله اسمًا، لزمه أن يكون على ما تكون عليه الأسماء، وساغت الإضافة، لأنَّ "لا" قد تكون للجود كما تكون للبخل، فقياس الألف في "لا" أن تكون عينًا في موضع حركة، ولا تكون على حدها قبل النّقل، ألا ترى أنَّ الضّمّة في قولك: هي الفُلُك غير الضّمة في قولك: هو المُلُك. انتهى.
وقول المصنّف: وقال آخر: لا، مفعول به، والبخل، مفعول لأجله .. الخ. قال أبو حيّان في تفسير (مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ) من سورة الأعراف [الآية/ 12]، قال الزّجَاج:"لا" مفعولة، والبخل بدل منها، وقد خرجته أنا تخريجًا آخر وهو أن ينتصب البخل على أنّه مفعول من أجله، و"لا" مفعولة. انتهى.
وقال أبو عبد الله محمّد بن مرزوق في "شرح قصيدة البردة": يُروى البخل بالجرّ على إضافة "لا" إليه، والمعنى أبو جودُه النّطق بلا التي للبخل، ومفهومه أنَّ التي للجود لا يأباها، ويروى بنصب البخل على أن يكون البخل بدلًا من "لا"، أو عطف بيان، أو مفعولًا من أجله على حذف مضاف، أي: كراهة البخل، وعلى النّصب فالمعنى أنّه لا ينطق بلا قط، لئلَّا يقع في البخل، ومفهوم العلّة يقتضي أنها إن لم يكن فيها بخل، فلا يمتنع من النّطق بها، وعلى التّقديرين، فلا بدَّ من تخصيص "لا" بالتي للبخل، والمعنى الذي قصده النّاظم وهو قوله:
نَبِيُّنَا الآمِرُ النَّاهي فَلَا أَحَدٌ
…
أبَرَّ في قَوْلِ لَا مِنْهُ وَلَا نَعَمِ
أشمل من هذا وأجمع، وكذا هو أجمع وأصح من قول من مدح إنسانًا بالكرم فقال:
ما قَالَ لَا قَطُّ إلَّا في تَشَهُّدِهِ
…
ولَا نَعَمْ قَطُّ إلَّا جاءَتِ النَّعَمُ
فإنَّ هذا يقتضي أن لا ينطق بلا الجود. انتهى.
وقول المصنّف: وقال أبو علي في "الحجّة" قال أبو الحسن: فسّرته العرب .. الخ. أقول: قاله أبو علي في آخر سورة الفاتحة بهذا اللّفظ من غير زيادة ولا نقص، وكذا أورده في هذا الموضع أبو حيّان في "البحر" قال: واستدلّوا أيضًا على زيادة "لا" ببيت أنشده المفسّرون وهو: أبي جوده لا البخلَ" زعموا أنَّ "لا" زائدة والبخل مفعول بأبى، ولا دليل في ذلك بل الأظهر أنَّ "لا" مفعول بأبى، وأنَّ لفظة "لا" لا تتعلق بها وصارا اإسنادًا لفظيًا ولذلك قال: واستعجلت به نعم، فجعل "نعم" فاعلة بقوله استعجلت، وهو إسناد لفظيّ، والبخل: بدل من لا، أو مفعول من أجله. انتهى.
وقد أورد الجوهري البيت في آخر "الصّحاح" ورواه بنصب البخل وجره وفي بعض نسخه: الجوع، وفي بعضها: الجود. وبيّن ابن بري في "أماليه" وجه النّصب والجرّ ولم يتعرّض لرواية الجود والجوع. قال: من خفض البخل فعلى الإضافة. ومن نصبه جعله نعتًا لـ "لا" ولا اسم وهي مفعول لأبى. هذا كلامه.
أقول: قد بيّن كونه نعتًا على بن عيسى الرّماني في كتاب "الحروف" قال في نصب البخل: "لا" زائدة، وفيه وجه ثانٍ، وهو أن يكون البخل بدلًا من "لا" لأنَّ المعنى مشتمل عليه، وتكون "لا" على هذا الوجه اسمًا، وكان يجب أن يمدّ إلَّا أنّه حكاها على نحو ما يستعمل، ليعلم أنها تلك بعينها، ويجوز أن يكون البخل وصفًا لـ "لا" على تقدير حذف المضاف، كأنّه قال: أبى جوده لا ذات البخلِ، ثمَّ حذف فأقيم المضاف إليه مقامه. انتهى. وذات بمعنى: صاحبة. وقال الأندلسي في "شرحِ المفصّل": ويجوز رفع البخل على أنّه خبر مبتدأ، أي: هو البخل، يريد أنَّ الرّفع على الذّم، وكذا يجوز في رواية النّصب أن يكون منصوبًا على الذَّم بتقدير: أعني أو أذم فيكون في النّصب خمسة أوجه.
وقال ابن مرزوق: والبيت وجد في نسخة مظنون بها الصّحة من "صحاح الجوهري" لفظة "الجوع" بدلًا من "الجود" بالعين مكان الدّال، وقال بعض من طرر على
هذا المحلّ: إنَّ المعنى لا يمنع الجوع قاتل الجوع. أي: لا يمنع الخبز، وهذا كما ترى ليس فيه كبير بلاغة مدح بالنّسبة إلى معنى لفظ: الجود، بالدّال، لأنَّ المعنى معها: لا يمنع هذا الممدوح الجود قاتله. أي: لو قدّرنا أنَّ شخصًا ضربه، فأنفذ مقاتله، ثمَّ أتى الضّارب يسأل هذا المضروب أن يجود عليه بشيء يطلبه منه، لما منعه إيّاه مع علمه بأنّه هو الذي أنفذ مقاتله، فيوافق في المعنى قول الآخر:
هُوَ البَحْرُ مِنْ أيُّ النَّواحي أتيتَهُ
…
فَلُجَّتُهُ المعْرُوفُ والجُودُ ساحلُهْ
فَلَوْ لمْ يكَنْ في كَفِّهِ غيرُ نفسِهِ
…
لجادَ بها فَلْيَتَّقِ اللهَ سَائِلُهْ
وهذا مَعنى بليغ في المدح بالجود، فأين ممّا يفيده لفظ الجوع بالعين، وفاعل يمنع ضمير فتى. والجود: مفعوله الأوَّل، وقاتله الثاني، وبالدّال وجدته في بعض نسخ الجوهري. وفي نسخ مظنون بها الصّحة من "تفسير ابن عطيّة" في قوله تعالى:(مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ)[الأعراف/ 12] تأمّل إعراب قوله: من فتى، والأولى أن يكون صفة أو حالًا من نعم، أي: صادرة نعم المستعجلة به من فتى شأنه هذا، وإذا صدرت "نعم" من الجواد الموصوف بهذه الصفة لم يتخلّف مقتضاها. انتهى كلام ابن مرزوق، وهو غاية في جودة المعنى.
وقال الزمحشري في "أحاجيه" بعد أن فِسّر البيت الأوَّل بما فسّر به المصنّف: وأمّا بقيّة البيت فلم يفسّره أبو الحسن، وهو مشكل جدًا، وأقول في معناه: إنّه مدح كريم أبى جوده أن ينطق بـ "لا" التي للبخل، واستعجلت بجوده نعم، أي: سبقت نعم "لا" كما قال:
واستَعجَلونا وكانُوا مِنْ صَحابتِنا
…
كما تَعَجَّلَ فُرَّاطٌ لِورَّادِ
أي: سبقونا وتقدَّمُونا، أي: إنَّ نعم استعجلت لا، أي: سبقتها صادرة من فتى لا يمنع الجود، والهاء في قاتله يعود على نعم، أي: قاتل نعم لا يمنع الجود،
ثمَّ قال: وقوله: لا يمنع الجود قاتله، أراد: إنَّ الجود وإن قتله لا يمنع، فقاتله منصوب على الحال، أي: لا يمنع في حال قتله إيّاه، لأنَّ الجود يفقره، ويجوز أن ينصب قاتله على أنه مفعول، أي: لا يمنع من يريد أن يقتله الجود، يدلك عليه كما قال آخر:
ولَوْ لمْ يكُنْ في كَفِّهِ غيرُ نفسِهِ .. لجادَ بها فليتَّقِ اللهَ سَائِلُهْ
ويجوز أن يكون معنى "قاتله" من قَتَلْ من تكرَّمَ عليه، لأنَّ فاعل ذلك قاتله له، ومع ذلك فلا يمنعه ذلك أن يجود عليه، وقد قال تعالى:(فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوَهُمْ)[البقرة/ 191] ولا يصحّ أن يكون هذان البيتان في شعر واحد؛ لأنَّ الأوَّل منصوب، وهذا مرفوع، هذا كلامه. وفيه قلاقة.
ونقل ابن المستوفي في "شرح أبيات المفصّل" عن أبي العبّاس أحمد المعروف بابن الحبّاز قال: قوله: لا يمنع الجود قاتله، معناه: لا يمنع جوده الذي قتله، أي: لا يحرم جوده من يقتله، ورفع قاتله بقوله يمنع، ويكون على هذا لا يمنعه قاتله الجود، ويكون قد حذف المفعول الأوَّل، وهذا متكلّف، وما سبق أولى. انتهى.
ولم أر من روى قاتله بالرَّفع، وهؤلاء كلّهم بنوا شرح البيت على رواية الجود بالدّال، ورواية الجوع بالعين غير مقبولة عندهم لكن قد جاء هذا عند العرب في إطعام الطّعام كثيرًا، وافتخروا به، ومدحوا، قال زهير بن أبي سلمى:
إذا مَا أتَوْا أبوابَهُ قالَ مَرْحَبًا
…
لِجُوا البابَ حتى يأتيَ الجوعَ قاتِلُهْ
وأنشد أبو تمّام في "الحماسة":
تَرَكْنَا فتىً أيقنَ الجوعُ أنَّهُ
…
إذا ما ثَوَى في أَرْحُلِ القوْمِ قاتلُهْ