الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الثاني والأربعون بعد الأربعمائة:
(442)
تعدونَ عقرَ النيبِ أفضلَ مجدكمْ
…
بني ضوطرى لولا الكميَّ المقنعا
على أن الفعل بعد لولا محذوف، والتقدير: لولا عددتم، لا: لولا تعدون لما ذكره، وفيه نظر، لأن قرينة المحذوف مضارع، فقدروا المحذوف مضارعًا ليطابق قرينه، فإذا أريد بالمذكور حكاية الحال كان المراد بالمقدر كذلك، وممن قدره مضارعًا المبرد، قال في "الكامل":"لولا" هذه لا يليها إلا الفعل لأنها للأمر والتخضيض مظهرًا أو مضمرًا، كما قال:"تعدون عقر النيب .. البيت." أي: هلا تعدون الكمي المقنع، وتعدون بمعنى تحسبون يتعدى إلى مفعولين، فعقر النيب: المفعول الأول، وأفضل مجدكم: المفعول الثاني، والكمي مفعول تعدون المضمر بتقدير مضاف، والمفعول الثاني محذوف أيضًا بقرينة المتقدم، والأصل: لولا تعدون عقر الكمي المقنع أفضل مجدكم، ففيه حذف ثلاثة مضافات، وإنما قدر عقر، ولم تجعل الكمي مفعولًا، لأن معنى البيت ليس الفخر في عقر النوق والجمال، إنما الفخر بقتل الشجعان والأبطال.
وقال ابن الشجري: أراد لولا تعدون الكمي، أي: ليس فيكم كمي، فتعدوه. انتهى. فيكون المعنى عنده: هلا تعدون الكمي المقنع منكم، فأنتم جبناء لا كماة فيكم، وهذا وإن كان في نفسه معنى صحيحًا إلا أنه ليس بمراد أصالة، وإنما المراد: أنتم إنما تقدرون على قتل البهائم، ولا تقدرون على قتل الرجال، وما قال لازم ما ذكرناه، لأن من لا يقدر على قتل الرجال يلزم أن لا يكون شجعيًا، وقال أبو علي في كتاب "الشعر": الناصب للكمي هو الفعل المراد بعد لولا، وتقديره: لولا تلون الكمي، أو تبارزون، أو نحو ذلك، إلا أن الفعل حذف لدلالتها عليه.
هذا كلامه. وهذا عندي أحسن مما تقدم، وأبلغ أما حسنه، فقلة الحذف فيه، وأما كونه أبلغ، فلأن معناه: إنكم تظنون عقر الإبل أفضل مجدكم، ولا تقدرون على مبارزة كمي فضلًا عن قتله. والعقر: مصدر عقر الناقة بالسيف من باب ضرب: إذا ضرب قوائمها به، هذا موضوع الكلمة، وربما قيل: عقر البعير بمعنى: نحره، والنيب: جمع ناب، وهي الناقة المسنة، والمجد: الشرف، وبني ضوطرى: منادى بإضمار يا. قال شارح ديوان جرير: ضوطرى: لقب مجاشع جد الفرزدق، وهو العبد الكثير اللحم، ويقال فيه: ضواطر أيضًا بلا ألف، قال جرير في هجو الفرزدق أيضًا:
وما نوخوها قينكمْ آلَ ضواطرٍ
…
لألأمَ منْ يحذيَ على قدمٍ نعلًا
أراد: لم ينزلوا المرأة في منزل الفرزدق كما تناخ الناقة، ويقال: ضاطر أيضًا.
قال جرير في هجوه أيضًا:
وجدَ الزبيرُ بذي السباع مجاشعًا
…
للحيثلوطِ ونزوةً منْ ضاطرِ
قال شارحه: أراد وادي السباع، وبه قتل الزبير، والحيثلوط: العبد الحسيس، وضاطر: عبد كثير اللحم نسبهم إليه، والكمي: الشجاع المتكمي في سلاحه، لأنه ككمى نفسه، أي: سترها بالدرع والبيضة، قال الجوهري: وجمعه كماة، قال ابن السيد في "شرح أبيات الجمل": الذي على رأسه المغفر والبيضة، والمعنى: إنكم تفخرون بذبح الإبل المسنة التي لا ينتفع بلبنها ولا يرجى نسلها، ولا تقدرون على مبارزة الأقران، ومقارعة الشجعان، يرميهم بالجبن والخور.
والبيت من قصيدة لجرير هجا بها الفرزدق، وحكاية عقر الإبل مشهورة في كتب التواريخ محصلها أن أهل الكوفة أصابتهم مجاعة، فخرج أكثر الناس إلى البوادي، وكان غالب أبو الفرزدق رئيس قومه، وكان سحيم بن وثيل الرياحي رئيس قومه، فاجتمعوا في أطراف السماوة من بلاد كلب على مسيرة يوم من
الكوفة، فعقر غالب لأهله ناقة صنع منها طعامًا، وأهدى إلى قوم من تميم جفانًا وأهدى إلى سحيم جفنة، فكفأها، وضرب الذي أتى بها، وقال: أنا مفتقر إلى طعام غالب؟ ! ونحر سحيم لأهله ناقة، فلما كان من الغد، نحر غالب لأهله ناقتين، ونحر سحيم ناقتين، وفي اليوم الثالث نحر غالب ثلاثًا، فنحر سحيم ثلاثًا، فلما كان اليوم الرابع، نحر غالب مائة ناقة، ولم يكن لسحيم هذا القدر، فلم يعقر شيئًا، ولما انقضت المجاعة، دخل الناس الكوفة. قال بنو رياح لسحيم: جررت علينا عار الدهر هلا نحرت مثل ما نحر غالب، وكنا نعطيك مكان كل ناقة ناقتين، فاعتذر أن إبله كانت غائبة نحو ثلاثمائة ناقة، وكان في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فمنع الناس من أكلها، وقال: إنها مما أهل لغير الله، ولم يكت الغرض منه إلا المفارخة والمباهاة، فجمعت لحومها على كناسة الكوفة، فأكلها الكلاب والعقبان والرخم، وقد أورد القالي هذه الحكاية في "ذيل أماليه" بأبسط مما ذكرنا، وأورد ما قيل فيها من الأشعاؤ، وما مدح به غالب، وهجي به سحيم.
وكان السبب في هجو جرير الفرزدق بالقصيدة التي منها البيت الشاهد أن الفرظدق كان قد تزوجت حدراء الشيبانية، وكان أبوها نصرانيًا، وهي من ولد قيس بن بسطام، وماتت قبل أن يصل إليها الفرزدق، وقد ساق إليها المهر، فترك المهر لأهلها وانصرف وكان جرير عاب عليه في تزوجها فقال الفرزدق في ذلك:
يقولونَ زرْ حدراءَ والتربُ دونها
…
وكيفَ بشيءٍ قدْ تقطعا
يقولُ ابنُ خنزيرٍ بكيتَ ولم تكنْ
…
على امرأةٍ عيني إخالُ لتدمعا
وأهونَ رزءٍ لامرئٍ غيرِ عاجزٍ
…
رزيةُ مرتجَّ الروادفِ أفرعا
وما ماتَ عندَ ابنِ المراغةِ مثلها
…
ولا تبعتهُ ظاعنًا حيثُ دعدعا
فأجابة جرير بقصيدة منها: