الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المتضمّن للتذلّل والخشوع له جل وعلا.
17 - أن أعظم التوسل إلى اللَّه تعالى على الإطلاق التوسل إليه بربوبيته تعالى
، التي تحصل بها المحبوبات، وتندفع بها المكروهات؛ ولهذا كانت أغلبية أدعية القرآن مصدرة بالتوسل به (1).
(2).
المفردات:
لا تزغ: الزيغ: الميل عن الاستقامة والانحراف عن الحق، ومنه زاغت الشمس أي مالت وانحرفت (3).
الوهاب: اسم من أسماء اللَّه تعالى الحسنى: من صيغ المبالغة مبالغة على وزن فعّال، والهبة هي:((العطية الخالية عن الأعواض والأغراض)) (4).
الشرح:
ما زلنا نقتطف من جميل أدعية المؤمنين في كتاب ربنا الحكيم، ذكرها اللَّه تعالى ثناءً على أهلها، وتأسياً لنا في ملازمة الدعاء بها، والعمل في مضامينها، وذكر لنا دعوات أخرى في غاية الأهمية من هذا المعين المبارك لأناس قرن اللَّه عز وجل شهادتهم
(1) المواهب الربانية للعلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي، ص 123
(2)
سورة آل عمران، الآية:8.
(3)
مفردات ألفاظ القرآن للراغب، ص 387.
(4)
لسان العرب، 1/ 803.
بشهادته، وأثنى عليهم في مواضع كثيرة من الذكر الحكيم، قال اللَّه تعالى:{شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} (1).
فهم ورثة الأنبياء، ونعم الميراث العظيم، هم العلماء، وصفهم تعالى بكمال الوصف الثابت، وبالأساس الراسخ.
قال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (2)، فهم أصحاب العقول السليمة، والمفاهيم المستقيمة.
فبعد أن عطر بالوصف والثناء عليهم بخلوص الإيمان واليقين في قلوبهم، فأثمر لهم من عظيم المعارف والهمم، آمنوا بالكتاب كله: محكمه، ومتشابهه؛ لأنه جاء من ربهم الحكيم الخبير، ذكر لنا فواح هذا العطر النافع والناصح؛ لنتأمل من هذا الروض الجميل في أهم مقاصد الدين، حتى نستن بهم عملاً وقولاً.
فقالوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} صدروا دعاءهم بربوبيته تعالى التي هي أفضل وأعلى الغايات، وهو استقامة القلوب على ما يحبه اللَّه تعالى ويرضاه، والثبات على ذلك: فقالوا: يا ربنا، ويا مدبر أمورنا، لا تُمِل قلوبنا بعد الهدى الذي أنعمت به
(1) سورة آل عمران، الآية:18.
(2)
سورة آل عمران، الآية:7.
علينا، توسلوا بسابق إحسانه وإنعامه بعد التوسل بربوبيته دلالة على أهمية مطلبهم لربهم، وأنهم في تضرع كبير لهذا المطلب المهم، لا كالذين أزاغ اللَّه قلوبهم من اتباع المتشابه في القرآن ابتغاء الفتنة، فهم ضلوا وأضلوا، والعياذ باللَّه، أما العلماء فقد اهتدوا وهدوا.
فتضمّن هذا المطلب الجليل سؤال اللَّه تعالى الثبات على الدين القويم، والصراط المستقيم الذي عليه النجاة في يوم الدين، ولا يكون ذلك إلا بالتوفيق من اللَّه تعالى رب العالمين.
لهذا كان أكثر دعاء نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) (1)، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم:((اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ)) (2).
{وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} : ومن جميل تضرعهم وتوسلهم سألوا اللَّه تعالى بلفظ الهبة إشارة إلى أن ذلك منه تعالى تفضل محض دون شائبة وجوب عليه سبحانه وتعالى (3).
وسألوا ربهم {رَحْمَةً} بالتنوين والتنكير دلالة على التفخيم
(1) سنن الترمذي، كتاب القدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن، برقم 2140، وسنن النسائي الكبرى، كتاب صفة الصلاة، باب الاستغفار بعد التسليم، برقم 7690، ومسند الإمام أحمد، برقم 12207، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2140.
(2)
صحيح مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء، برقم 2654.
(3)
روح المعاني، 3/ 146.
والتعظيم (1)، أي رحمة عظيمة واسعة شاملة التي تقتضي حصول نور الإيمان والتوحيد والمعرفة في القلب، وحصول الطاعة في الجوارح والأركان.
فالرحمة من آثارها التوفيق، والدوام على الهدى في الدنيا، والنعيم الأبدي في الآخرة؛ ولهذا كثرة الأدعية في كتاب اللَّه لهذا المطلب الجليل.
{مِنْ لَدُنْكَ} : جُعلت الرحمة من عنده؛ لأن تيسير الأسباب، وتكوين الهيئات منه جل وعلا تفضلاً وتكرماً، وفيها معاني التعظيم والإجلال للَّه تعالى، وهذا من حسن دعائهم، وأدبهم مع ربهم عز وجل التي ملأت قلوبهم حباً وتعظيماً له جل جلاله.
{إنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ} عللوا طلبهم، وأكَّدوه بخصوصية الهبة المطلقة الكاملة للَّه تعالى، التي لايعدّها عادٌّ، ولا يحدّها حادّ، إيماناً منهم بكمال صفاته تعالى، ومن جملتها هباته تعالى؛ لأن هبات الناس بالنسبة لما أفاض اللَّه تعالى من الخيرات شيء لا يُعبأ به.
لذلك قالوا: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} ((حيث استحضروا عند طلب الرحمة أحوج ما يكونون إليه، وهو يوم تكون الرحمة سبباً للفوز الأبدي، فأعقبوا بذكر هذا اليوم دعاءهم على سبيل الإيجاز، كأنهم قالوا: وهب لنا من لدنك رحمة، وخاصة يوم
(1) روح المعاني للألوسي، 3/ 147.