الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِنَفْسِهِ، وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ: خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَصْدَ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَكَلِمَةُ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ)) (1).
قوله: ((وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة)): أي أسألك يا إلهي دوام الخشية مع الخوف في السر والعلن، والظاهر والباطن في حال كوني مع الناس، أو غائباً عنهم، فإن خشيتك رأس كُل خير، فقد مدح اللَّه جل وعلا في عدة آيات من يخشاه بالغيب، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (2)، وقال:{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} (3).
((وقد فُسّر الغيب في هذه الآيات بالدنيا؛ لأن أهلها في غيب عما وعدوا به من أمر الآخرة،
والموجب لخشية اللَّه تعالى في السر والعلانية، أمور منها:
1 - قوة الإيمان بوعده ووعيده على المعاصي
.
2 - النظر في شدة بطشه وانتقامه وقوته وقهره
.
3 - قوة المراقبة للَّه، والعلم بأنه شاهد ورقيب على قلوب عباده
(1) الطبراني في الأوسط، 5/ 328، برقم 5452، والبيهقي في شعب الإيمان، 2/ 203، ومسند الشهاب، 1/ 214، ومسند الفردوس، 1/ 173، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، 2/ 7، وروى البزار القسم الأول منه، 2/ 346، وقال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة:((وبالجملة فالحديث بمجموع هذه الطرق حسن على أقل الدرجات إن شاء الله تعالى))، 4/ 301،، برقم 1802.
(2)
سورة الملك، الآية:12.
(3)
سورة ق، الآية:33.
وأعمالهم، وأنه مع عباده، حيث كانوا)) (1).
قوله: ((وأسألك كلمة الحق في الرضى والغضب)): وهذا المطلب عزيز جداً يقلّ في واقع العبد، لذلك سأله ربَّه تعالى، وأسألك يا اللَّه النطق بالحق في جميع أحوالي، في حال غضبي، وفي حال رضاي، فلا أداهن في حال رضى الناس وغضبهم عليَّ، ويكون الحق مقصدي في جميع الأحوال.
قوله: ((وأسألك القصد في الغنى والفقر)): وبأن أكون مقتصداً معتدلاً في حال غناي وفقري، فلا أنفق في الغنى بسرف، ولا طغيان، ولا أضيّق في حال فقري خوف نفاد الرزق، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (2).
والقوام هو القصد، والتوسّط، وفي كل الأمور.
قوله: ((وأسألك نعيماً لا ينفد)): أي أسألك نعيماً لا ينقضي، ولا ينتهي، وليس ذلك إلا نعيم الآخرة، قال تعالى:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (3)، وقال جل شأنه:{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} (4) أي في الجنة، فهو دائم لا ينتهي ولا ينقص.
((أما نعيم الدنيا فهو نافد، كما أن الدنيا كلها نافذة، وكأنه حين
(1) مجموع رسائل ابن رجب 1/ 164.
(2)
سورة الفرقان، الآية:67.
(3)
سورة النحل، الآية:96.
(4)
سورة ص، الآية:54.
ينزل به الموت وسكراته لم يذق نعيماً من نعيم الدنيا)) (1).
قوله: ((وأسألك قرة عين لا تنقطع)): وقرة العين هي من جملة النعيم الذي أسأله في الدنيا والآخرة؛ لأن النعيم منه ما هو منقطع، ومنه ما لا ينقطع، فمن قرّت عينه بالدنيا فقُرَّة عينه منقطعة، سروره فيها زائل؛ لأن لذاتها مشوبة بالفجائع والمنغصات، فلا تقرَّ عين المؤمن في الدنيا إلا باللَّه عز وجل، وذكره ومحبته والأنس به، والمحافظة على طاعته في الليل والنهار، ومن أعظمها الصلاة، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:((وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)) (2)، وقرّة العين في الآخرة تشمل النعيم في البرزخ، وفي الجنة، وقرّة العين التي لاتنقطع هي التي لا تنتهي، فإنّ من قرَّت عينه باللَّه جلّ وعلا فقد حصلت له قرة عين لا تنقطع في الدنيا، ولا في البرزخ، ولا في الآخرة.
قوله: ((وأسألك الرضى بعد القضاء)): سأل الرضى بعد حلول القضاء؛ لأنه حينئذ تتبين حقيقة الرضا، وأما الرضى قبل القضاء، فهو عزم ودعوى من العبد، فإذا وقع القضاء، فقد تنفسخ العزائم، وسؤال اللَّه الرضى بعد القضاء يتضمن الرضا بما فيه من خير أو شر، فأما في الخير فيرضى ويقنع به ولا يتكلف في طلب
(1) مجموع رسائل ابن رجب، ص 173.
(2)
مسند أحمد، 21/ 433، برقم 14037، وعبد الرزاق، والنسائي في السنن الكبرى،
5/ 280، والطبراني في الكبير، 20/ 420، والحاكم، 2/ 160، وجوّد إسناده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 13/ 94، وفي صحيح الجامع، برقم 3098.
الزيادة،
ويشكر على ما أوتي به. وأما في الشر فيصبر، ولا يتكلّف في طلب الزيادة، ويشكر على ما أوتي به، وأما في الشر فيصبر ولا ينزعج ولا يتسخّط، ويتلّقاه بوجهٍ منبسطٍ، وخاطرٍ منشرحٍ، وشكرٍ مستمرٍّ (1)، والرضى بالقضاء مقام عظيم، من حصل له فقد رضي الله عنه، فإن الجزاء من جنس العمل، قال اللَّه تعالى:{رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (2).
((قال عبد الواحد بن زيد: الرضا باب اللَّه الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين)) (3).
قوله: ((وأسألك بَرْدَ العيش بعد الموت)): أي أسألك الراحة بعد الموت، ويكون ذلك برفع الروح إلى الجنان في عليين، وهذا يدل على أن العيش وطيبه، وبرده، إنما يكون بعد الموت للمؤمن، فإن العيش قبل الموت منغصٌ لما فيه من الهموم والغموم.
قوله: ((وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك)): جمع هذا الدعاء أطيب وأهنأ شيء في الدنيا، وهو الشوق إلى لقاء اللَّه عز وجل، وأنعم وأطيب شيء في الآخرة هو النظر إلى وجه اللَّه الكريم، الذي لا شيء أجمل، ولا أنعم، ولا أهنأ من رؤيته، فعن صهيب رضي الله عنه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، يَقُولُ
اللهُ تبارك وتعالى: تُريدُونَ شَيئاً أَزيدُكُمْ؟ فَيقُولُونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ
(1) الشر في القضاء كما سبق في المخلوق، وليس في صفات الله تعالى وأفعاله؛ لأنها كلها خير، وحق، وعدل، وفضل، ولطف، وليعلم أن الله تعالى لا يخلق شراً محضاً، بل لا بد فيه من خير من جهة أخرى.
(2)
سورة المجادلة، الآية:22.
(3)
مجموع رسائل ابن رجب، 1/ 175.
وُجُوهَنَا؟ ألَمْ تُدْخِلْنَا الجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قال: فَيَكْشِفُ الحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئاً أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلَى رَبِّهِمْ عز وجل)) (1)، فهو أعظم من كل نعيم في الجنة وما فيها.
قوله: ((في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مُضلة)): أي أسألك شوقاً لا يوجد فيه ما يُضرني في ديني، ولا في دنياي بأن أحيا حياة خالية من الضرّ والبلاء الذي لا صبر عليه، وخالية من الفتن المضلّة، الموقعة في الحيرة، ومفضية إلى الهلاك.
قوله: ((اللَّهم زَينا بزينة الإيمان)): يا اللَّه زيَّن بواطننا وظواهرنا بزينة الإيمان، فتشمل زينة الباطن بالاعتقاد الصحيح، واليقين الثابت، وزينة اللسان بالذكر والقرآن، وزينة الظاهر بالأعمال الصالحة، والطاعة الدائمة، فإن الزينة الكاملة النافعة الدائمة، هي زينة الإيمان والتقوى إذا شملت القلب والبدن. فقد سمَّى اللَّه تعالى التقوى لباساً، وأخبر أنها خير من لباس الأبدان {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (2)(3).
قوله: ((واجعلنا هداة مهتدين)): بأن نهدي أنفسنا، ونهدي غيرنا، وهذا أفضل الدرجات، قال تعالى:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (4)، وكما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه: ((اللَّهم اجعله هادياً
(1) مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى، برقم 180.
(2)
سورة الأعراف، الآية:26.
(3)
مجموع رسائل ابن رجب، 1/ 180.
(4)
سورة الأنبياء، الآية:73.