الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمَصِيرُ} (1).
46 - {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا
إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2).
المفردات:
الإسوة والأسوة: ما يُتأسَّى به، مثل قِدوَة وقُدوة، ويقال: هو إسوتك أي مثلك، وأنت مثله (3).
قال أبو السعود: خصلةٌ حميدةٌ حقيقةٌ بأنْ يُؤتَسَى ويُقْتَدى بهَا، ويتبع أثرها (4).
الفتنة، أصل الفتن: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، ثم أطلق على الابتلاء والامتحان (5).
بعد أن ذكر اللَّه جلّ شأنه من تبرئ إبراهيم عليه السلام والذين معه من الذين كفروا من قولهم وفعلهم، وبارزوا لهم التبري حتى يؤمنوا باللَّه تعالى وحده، ويوحِّدوا له العبادة لا شريك له، شرعوا في التوسل إليه تعالى بأسمائه الحسنى، وجميل أفعالهم، فجمعوا بين توسلين في حال دعائهم، استعطافاً لقبول دعائهم:
…
(1) سورة الممتحنة، الآية:4.
(2)
سورة الممتحنة، الآية:5.
(3)
تفسير القرطبي، 9/ 309.
(4)
انظر: تفسير أبي السعود، 8/ 236.
(5)
انظر: المفردات، مادة (فتن)، وتذكرة الحفاظ، 3/ 197.
من التوكل والإنابة إليه عز وجل، والإيمان باليوم الآخر، ولمّا كانت هذه الخصال يحبّها اللَّه تعالى، حثَّنا وأكّد سبحانه وتعالى لنا في الاقتداء بهم، واتباع سيرته عليه السلام، والذين معه، إلاّ في استغفاره لأبيه، قال قتادة في هذه الآية:((ائتسوا به في كل شيء، ما خلا قوله لأبيه: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} فلا تأتسوا بذلك منه، فإنها كانت عن موعدة وعدها إياه)) (1).
فأمَرَنا ربنا تبارك وتعالى بالاقتداء بهم بالقول والفعل والدعاء.
{رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} : بعد أن تبرؤوا شرعوا في التوسل إليه تعالى بخالص أعمالهم، وعبودياتهم له تعالى، مقدمة لسؤالهم ليكون أرجى في الإجابة والقبول: أي يا ربنا توكلنا عليك في جميع أمورنا: صغيرها، وكبيرها، وسلّمنا أمورنا إليك وحدك.
{وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} : وإليك رجعنا بالاعتراف لك بكل ذنوبنا دون غيرك.
{وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} : وإليك مصيرنا ومرجعنا يوم تبعثنا من قبورنا، وتحشرنا يوم القيامة إلى موقف العرض، ((وفي تقديم الجار والمجرور (إليك) دلالة للحصر)) (2)، والقصر في التوكل والإنابة والمصير عليه وحده جل وعلا دلالة على كمال توحيدهم، وإيمانهم.
(1) أخرجه الطبري في التفسير، 23/ 318، وقال حكمت بن بشير بن ياسين في التفسير الصحيح، 4/ 473:((بإسناد حسن)).
(2)
تفسير ابن عاشور، 28/ 147.
{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} : للآية معنيان:
الأول: جاء عن مجاهد أنه قال: ((لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا)) (1).
المعنى الثاني: ما جاء عن قتادة أنه قال: ((يقول: لا تظهرهم
علينا فيُفتنوا بذلك، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحقٍّ هم عليه)) (2)، والآية تحتمل هذين المعنيين؛ لأن القاعدة في تفسير كتاب اللَّه تقول:((إذا احتمل اللفظ معاني عدّة، ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها)) (3)، فتضمن هذا الدعاء المبارك سؤال اللَّه السلامة في الدين والدنيا.
وهذا المقصد العظيم كان من سؤال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((
…
ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا
…
)) (4)، والفتنة في الدين هي أخطر وأصعب الفتن، والعياذ باللَّه.
كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (5)، {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (6).
(1) تفسير مجاهد، 2/ 667، وتفسير الطبري، 23/ 320، وصحح إسناده في التفسير الصحيح، 4/ 473.
(2)
تفسير الطبري، 23/ 320، وصحح إسناده في التفسير الصحيح، 4/ 473.
(3)
انظر: قواعد التفسير لخالد بن عثمان السبت، 2/ 807.
(4)
انظر شرح الحديث في الدعاء رقم 82.
(5)
سورة البقرة، الآية:197.
(6)
سورة البقرة، الآية:217.
أي أن فتنة المسلم عن دينه حتى يرجع إلى الكفر بعد إيمانه أكبر عند اللَّه من القتل، وإزهاق النفس.
وقولهم: {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا} : بعد أن سألوا اللَّه تعالى أن يصلح لهم دينهم في معاشهم، سألوه تعالى ما يصلح لهم أمورهم في آخرتهم: أي: واستر ذنوبنا فيما بيننا وبين غيرك، وتجاوز عنها فيما بيننا وبينك.
((وفي تكرار النداء بقولهم: {رَبَّنَا} إظهار للمبالغة في التضرع مع كل دعوة من الدعوات الثلاث)) (1)، وهذا يدلّ على شدّة إخلاصهم في دينهم، وكثرة توسّلهم إلى اللَّه تعالى في مطلوبهم.
{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} : ثم بيّنوا علّة سؤالهم له تبارك وتعالى تأكيداً وتحقيقاً بأنه تعالى هو: {الْعَزِيزُ} : الغالب الذي لا يُغلب، ولا يُذلُّ من لاذ بجنابه جلّ وعلا.
{الْحَكِيمُ} : أي أنت الحكيم في أقوالك، وأفعالك، وشرعك، وقدرك، فتضع الأشياء في محلها، ((واقتران العزيز بالحكيم يدلّ على كمال آخر غير كمال كل اسم بمفرده، وذلك: أن عزته جلّ وعلا مقرونة بالحكمة، فلا تقتضي ظلماً وجوراً وسوءاً، كما في المخلوقين قد تأخذه العزّة بالإثم فيظلم، وكذلك حكمه تعالى وحكمته مقرونة بالعزّ الكامل، بخلاف المخلوق، فإن حكمته قد
(1) تفسير ابن عاشور، 28/ 13 بتصرف يسير.