الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنُّوا هذا الفعل لمن بعدهم، وإنما وصفهم (بالْمُفْسِدِينَ): مبالغة في استنزال العذاب عليهم، وقد بيَّن اللَّه تعالى لنا في كيفية هلاكهم:{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} (1)، فكما قلبوا فطرتهم، قلب اللَّه عز وجل أجسادهم وبيوتهم جزاءً وفاقاً.
وفي هذا القصص عبرة للعباد، وإرشاد إلى الاعتصام باللَّه تعالى في سؤال اللَّه العصمة، والاستعاذة به عز وجل من المنكرات المضلَّة التي تُفسد القلب، والعقل، والجسم، والفطرة السليمة.
تضمنت هذه الدعوة المباركة من الفوائد الكثيرة:
1 - لا عاصم على الإطلاق إلا اللَّه تبارك وتعالى
.
2 - أن الداعي ينبغي له أن يجانب مصاحبة المفسدين
، حتى لا يصيبه ما أصابهم، وأن يستعين باللَّه في دعائه كذلك عليهم.
3 - أهمية التوسّل إلى اللَّه بالدعاء على المفسدين
، كما أفاد لفظ (انْصُرْنِي)، ولم يقل (أعذني) دلالة على شدة خطورتهم، وأنه من عُصِمَ منهم فقد نُصِرَ نَصْراً مُؤزَّراً من اللَّه جلّ شأنه.
42 - {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}
(2).
الصلاح: ((ضد الفساد، وهما مختصّان في أكثر الاستعمال بالأفعال، وقُوبل في القرآن تارة بالفساد، وتارة بالسيئة، قال تعالى:
(1) سورة الحجر، الآية:74.
(2)
سورة الصافات، الآية:100.
{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} (1)، وقال تعالى:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} (2)) (3).
هذه الدعوة ضمن دعوات إبراهيم عليه السلام، حيث سأل اللَّه تعالى أن يهب له ولداً صالحاً، فبعد أن طلب الصلاح لنفسه:{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} طلب الصلاح من اللَّه تعالى لذريته، حتى يتم الكمال له ولذريته، ومطلب الصلاح هو سؤال الأنبياء والمرسلين.
فقد طلبه سليمان عليه السلام فقال: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (4).
وطلبه يوسف عليه السلام فقال: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (5)، وهي -كما تقدم - دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:((اللَّهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين))؛ لأن الصلاح هو أفضل الخصال، وأسماها، وأشرف مقامات السالكين إلى اللَّه تعالى، فمن ناله صلح أمره وشأنه في الدنيا، وحسنت عاقبته في الآخرة.
(1) سورة التوبة، الآية 102.
(2)
سورة الأعراف، الآية:56.
(3)
انظر: مفردات القرآن، مادة (صلح).
(4)
سورة النمل، الآية:19.
(5)
سورة يوسف، الآية:101.
فإن الولد الصالح من أعظم النعم، وأقرِّ الأعين، وأحبِّ المُنى، وهل يكون الفلاح في الآخرة إلا بالصلاح، وسؤال اللَّه تعالى الصلاح للذرية يدخل فيه سؤال اللَّه صلاح البدن، والخلق، والدِّين أن يكون سليماً مستقيماً في خِلْقته، وخُلُقه في ظاهره وباطنه، وهذه من أعظم النعم التي يتمناها كل عبدٍ صالح.
وقوله: {رَبِّ هَبْ لِي} فيه بيان أن رزق الولد الصالح مِنَّةٌ ربانيةٌ، ومِنحةٌ إلهيةٌ، والهبة هي: عطاء بلا عوض، ولا ثمن، فالهبة منه عز وجل كمال محض؛ لأن الإعطاء منه تفضلاً، وابتداءً من غير استحقاق، ولا مكافأة (1).
قوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} قَيّد في سؤاله الصلاح، وهذا أمر مهمٌّ؛ لأن من الذرية ما يكون سبباً للهمِّ والنّكَدِ، وسوء الخُلُقِ.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: ((يقول: يا ربِّ هبْ لي منك ولداً يكون من الصالحين الذين يطيعونك، ولا يعصونك، ويصلحون في الأرض، ولا يفسدون)) (2).
ففي صلاح الذرية النفع الكبير للوالدين في الدارين، ففي الدنيا طاعتهما، والقيام على خدمتهما، وبذل المعروف لهما، وبعد موتهما بالدعاء لهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا ماتَ الإِنْسانُ انْقَطَعَ عنه عَمَلُهُ إلَاّ
(1) انظر: النهاية، 5/ 231، واللسان، 6/ 4929.
(2)
تفسير الطبري، 1/ 314.
مِنْ ثَلَاثةٍ: صَدَقَةٍ جارِيَةٍ، أوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أوْ وَلَدٍ صالحٍ يَدْعُو لهُ)) (1)، وقوله عليه الصلاة والسلام:((بَخٍ بَخٍ، خَمْسٌ مَا أَثْقَلَهُنَّ فِي الْمِيزَانِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يُتَوَفَّى لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فَيَحْتَسِبُهُ)) (2)، وفي الآخرة من رفع الدرجات، والمنازل العُلا، قال عليه الصلاة والسلام:((إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَنَّى هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ)) (3)، وفي لفظ آخر موقوفاً على أبي هريرة:((ترفعُ للميّت بعدَ موتِهِ درجتُه، فيقولُ: أيْ ربِّ، أيُّ شيءٍ هذا؟ فيُقالُ: ولدُكَ استغفَرَ لَكَ)) (4).
ولمّا كانت هبة الولد الصالح عطية عظيمة من اللَّه تعالى، ونعمة جليلة من نعمه، كان شكرها، وحمد الرب تبارك وتعالى عليها واجباً على العبد، كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّه عَلَيْكُمْ وَمَا
(1) صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم 1631.
(2)
السنن الكبرى للنسائي، 6/ 50، برقم 9995، ومسند الإمام أحمد، 24/ 430، وشعب الإيمان للبيهقي، 12/ 216، برقم 15662، وبأرقام: 18076، 23100، والمعجم الأوسط للطبراني، 5/ 225، والمعجم الكبير له أيضاً، 22، 348، ومسند الشاميين له أيضاً، 1/ 357، ومسند البزار، 2/ 123، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم، برقم 817، و1973، و6221، و6269، وموارد الظمآن للهيثمي، ص 232، والفردوس للديلمي،
2/ 27، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 1557، ورقم 2009.
(3)
سنن ابن ماجه، أبواب الأدب، باب بر الوالدين، برقم 3660، ومسند أحمد، 16/ 357، برقم 10611، والطبراني في المعجم الأوسط، 5/ 210، ومصنف ابن أبي شيبة، 10/ 396، برقم 30359، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم 2497، وحسّنه في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 129، برقم 1598، وصحيح ابن ماجه، برقم 3650.
(4)
الأدب المفرد للبخاري، ص 28، برقم 36، وحسّن إسناده الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص 17، برقم 27.