الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتعيين هو الواجب الآخر، ففوات أحدهما لا يوجب سقوط الآخر
(1)
، وهذا معنى كلام أحمد، وسواء أفطر بجماعٍ أو أكلٍ أو غيره.
الفصل الثاني
أنه لا كفّارة بالفطر في رمضان إلا بالجماع وأسبابه
، كما سيأتي إن شاء الله. هذا هو المنصوص عنه في مواضع، وهو المذهب.
قال في رواية إسماعيل بن سعيد وإبراهيم بن الحارث والمرُّوذي وأبي طالب وأبي الصقر وغيرهم: من أفطر يومًا من رمضان تعمّدًا
(2)
، فعليه القضاء بلا كفّارة، ولو كان كلما أفطر كان عليه الكفّارة، لكان إذا تقيَّأ كفَّر، ولكن ذهبنا إلى الحديث في الجماع خاصة.
وقال في رواية المرُّوذي فيمن نذَر صيامَ عشرة أيام فاحتجم فيها: عليه القضاء والكفّارة، وإن احتجم في رمضان، فعليه القضاء.
فأوجبَ كفّارة النذر في صيام النذر لفوات التعيين، ولم يوجب في فطر رمضان إلا القضاء.
وقال حرب: سألت أبا عبد الله، قلت: الصائم يحتجم؟ قال: أما في رمضان فأحبُّ إليَّ أن لا يحتجم، وأما في غير رمضان فإن شاء احتجم إذا لم يكن فريضة. قلت: فإن احتجم في رمضان يكفِّر أو يقضي يومًا؟ قال: يقضي يومًا مكانه ولا يكفِّر. وقال مرة: يقضي يومًا مكانه وليست عليه كفّارة.
لكن يستحبُّ له الكفّارة، قال في رواية حرب: مَن أفطر يومًا من رمضان
(1)
سقطت من س.
(2)
س: «متعمدًا» .
متعمِّدًا صام يومًا مكانه ولم يوجب عليه الكفّارة وقال: الكفّارة على مَن أتى أهلَه.
وقال مرة: إن كفَّر فهو أفضل.
ويقضي يومًا عند أصحابه.
وروى حنبل: تكره الحُقْنَة للصائم وغير الصائم، إلا من عِلّة وعلاج، فإن فَعَل فعليه الكفّارة والقضاء.
وروى عنه محمد بن عبدك القزّاز
(1)
فيمن احتجم في شهر رمضان: فإن كان قد بلغه الخبر، فعليه القضاء والكفّارة، وإن لم يبلغه فعليه القضاء.
فقد أوجب الكفّارةَ على العالم دون الجاهل، وعلى قياس هذا كلّ من أفطر عامدًا عالمًا يجب عليه الكفّارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الكفّارة على الذي أصاب امرأتَه في رمضان؛ لعموم كونه مُفْطِرًا لا بخصوص كونه مُجامِعًا، لأنه روي من طُرق صحيحة: أن رجلًا أفطر في رمضان، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبة.
هكذا رواه مالكٌ وابنٌ جُريج ويحيى بن سعيد وخلقٌ عظيم، عن الزهري، عن حُميد بن عبد الرحمن.
ولا يخالف هذا روايةَ من روى: «واقعْتَ أهلي» ، أو «أصبْتُ أهلي» ؛ فإن ذلك الفطر لا شكّ أنه كان بجماع، لكن هذا يدلّ على أن الحكم ثبت لكونه
(1)
في النسختين والمطبوع: «الفزار» تحريف، وصوابه ما أثبت، ينظر ترجمته في «تاريخ بغداد»:(3/ 188)، و «تاريخ الإسلام»:(6/ 614)، و «طبقات الحنابلة»:(2/ 346). ونص الرواية فيه، وهي أيضًا في «الروايتين»:(1/ 258).
مُفْطِرًا لا مُجامعًا؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يبيّن أنه علة، كما في قوله:«زَنى ماعِزٌ فرُجِم»
(1)
، و «سها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فسَجَد»
(2)
ونحو ذلك.
ولما روى الدارقطنيُّ
(3)
من طريق الواقدي، عن سعد
(4)
، قال: جاء [ص 43] رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفطرتُ يومًا مِن رمضان متعمّدًا. قال: «أعتق رقبةً، أو صُم شهرين متتابعين، أو أطْعِم ستين مسكينًا» . وهذا نصٌّ في أنه أمرَه بالكفّارة لمَّا أخبر أنه أفطر عامدًا، ولم يستفصل بأيّ المفطّرات كان.
وروى أيضًا
(5)
من طريق أبي مَعْشَر، عن محمد بن كعب، عن أبي هريرة:«أن رجلًا أكل في رمضان، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُعتِق رقبةً أو يصوم شهرين متتابعين أو يُطعِم ستين مسكينًا» .
وذكر بعضُهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن أفطرَ في رمضانَ فعليه ما على المُظاهر» . لكن لا يُعرف له إسناد ولا أصل
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري (6814)، ومسلم (1693).
(2)
أخرجه مسلم (572/ 95) وأحمد (4358) من حديث ابن مسعود. وأخرجه أبو داود (1039)، والترمذي (395)، والنسائي (1236)، وابن خزيمة (1062) وغيرهم، من حديث عمران بن حصين.
(3)
(2396). وفي سنده الواقدي كما سيذكر المصنف، وهو متروك. ينظر «التقريب» (6175)، و «الميزان» (3/ 662).
(4)
في النسختين: «سعيد» ، تصحيف.
(5)
(2397). وقال عقبه: «أبو معشر هو نجيح وليس بالقوي» . وسيأتي تضعيف المصنف له.
(6)
قال في «نصب الراية» : (2/ 449): «حديث غريب بهذا اللفظ» وإذا أطلق الزيلعي غريب فإنه يعني أنه لم يجده بهذا اللفظ. وقال الحافظ في «الدراية» (ص 279): «لم أجده هكذا» .
ولأنَّ الكفّارة إذا وجبت بالوطء مع قلّة الداعي إليه في الصوم فأَنْ
(1)
تجب بالأكل أولى وأحرى، ولأن الكفّارة إنما تجب زاجرةً عن المعاودة وماحيةً للسيئة وجابرةً لما دخل من النقص على العبادة، وهذا يستوي فيه الأكل والوطء، ولأن الأكل مما تدعو إليه الطباع وتشتهيه النفوس كالجماع، وما كان من المحرَّمات تشتهيه الطِّباع كالزنى وشرب الخمر؛ فلا بدّ له
(2)
من زاجر شرعيّ، والزواجر إما حدود وإما كفارات، فلما لم يكن في الأكل حدّ، فلا بدّ فيه من كفّارة.
فعلى هذه الرواية تجب بكلّ فطر تعمّده
(3)
سواء كان مما يُشتهى أو لا يُشتهى؛ لأن الحجامة لا تُشتهى، وقد أوجب بها الكفّارة؛ لأن تعمّد إفساد الصوم لا يقع غالبًا إلا عما للنفس فيه غَرَض، فألحَقَ النادرَ بالغالب، كما يجب الحدُّ بوطء العجوز الشوهاء.
والأول هو الصحيح؛ لأن لفظ الحديث: أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الآخر وقع على امرأته في نهار رمضان» . وفي رواية قال: «أصبت أهلي في رمضان» ، كما سنذكره.
فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالكفّارة عقيب ذلك، فهذا مفسَّر في أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما
(1)
في المطبوع: «فلأن» .
(2)
سقطت من المطبوع.
(3)
النسختين: «اعتمده» ، وفي هامش ق تعليق لم يظهر في مصورتي. والصواب ما أثبت.
أمره بالكفّارة لأجل الجماع.
فمن قال: «إن رجلًا أفطر في رمضان فأمره النبي صلى الله عليه وسلم» فقد صَدَق، وإفطاره كان بجماع، وترتيب الحكم على الوصف ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما المحدِّث يقول: إنه أفطر فأُمِر بكذا، وقد عُلِم أن الإفطار كان بالجماع، فلو صرّح المحدِّثُ بعد ذلك، وقال: إنما أمره بالكفّارة لمجرّد الإفطار، لم يجب قبول ذلك منه؛ لأنه رأيٌ واجتهاد، فكيف إذا دلّ عليه كلامُه، مع إمكان أنه لم يقصد ذلك
(1)
؟!
قال الدارقطني
(2)
: روى مالك ويحيى بن سعيد وابن جريج وسمَّى نحوَ عشرة من المحدثين: «أن رجلًا أفطر» ، وخالفهم أكثرُ منهم عددًا، منهم عُبيد الله بن عمر ومَعمَر ويونس وعُقيل والأوزاعي وشُعيب بن أبي حمزة، وسمّى أكثرَ من ثلاثين من المحدّثين، كلهم رووا عن الزهري هذا الحديثَ بهذا الإسناد، وأن إفطار ذلك الرجل كان بجماع.
وأما الحديثان الآخران، فلا يجوز الاحتجاج بهما على وجه الانفراد لضعف إسنادهما.
وإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالكفّارة لمَّا أخبره أنه وقع على امرأته وأصابها، لم يجز أن تُلْحَق سائرُ المفطِّرات بالجماع؛ لأنه إجماع الصحابة.
فروى عبد الله بن أبي الهُذَيل، قال: «أُتيَ عمر بشيخ سكران في رمضان، فقال: للمِنْخَرَين! ويلك، صبيانُنا صيام وأنت مفطر؟! فجلَدَه
(1)
في النسختين: «بذلك» ولعله ما أثبت.
(2)
(3/ 202).
ثمانين»
(1)
.
وعن عليٍّ أنه أُتي بالنجاشيّ وقد شرب الخمر في رمضان، فضربه ثمانين، ثم أعاده إلى السجن، ثم أخرجه من الغد، فضربه عشرين، فقال:«ثمانين في الخمر، وعشرين جُرْأتك على الله في رمضان»
(2)
.
رواهما سعيد. وهاتان قضيتان مثلُهما يشتهر.
فهذا عمر رضي الله عنه قد جلَدَه، ولم يخبره أن عليه كفّارة، وكذلك عليٌّ رضي الله عنه جلَدَه عشرين لأجل الفطر، ولم يخبره أن عليه كفّارة، ولو كان ذلك عليه لبيَّناه، كما قد أقاما عليه الحدَّ؛ لوجوه:
أحدها: أن الأصلَ براءةُ الذمة من هذه الكفّارة، والحديث إنما يوجبها في الوقاع، فإلحاقُ غيره به يحتاج إلى دليل، والقياس فيها ليس بالبيِّن؛ لجواز أن يكون الجماع قد تضمَّن وصفًا فارقَ به غيرَه، فما لم يقم دليلٌ على
(1)
أخرجه عبد الرزاق (13557)، وسعيد بن منصور (كما في التغليق 3/ 196)، وابن سعد في «الطبقات»:(8/ 235)، والبيهقي:(8/ 321)، وغيرهم من طريقين عن ابن أبي الهذيل به. وقد علّقه البخاري في «صحيحه -باب صوم الصبيان»:(3/ 37) عن عمر مجزومًا به.
وقوله: «للمنخرين» كلمة دعاء أريد به الزجر، أي كبّه الله لمنخريه. وقد تحرّف في النسختين والمطبوع إلى «للمتحرين» !
(2)
أخرجه عبد الرزاق (13556، 17042) وابن أبي شيبة (29218، 29284) والبيهقي (8/ 321) وغيرهم بإسناد جيّد.
و «النجاشي» هو قيس بن عمرو بن مالك الحارثي، الشاعر الهجّاء المعروف، قيل له النجاشي لسواد لونه، أو لأن أمه حبشية. ينظر «الإصابة»:(6/ 491 - 493).
أن الموجب للكفّارة
(1)
مجرّد الفطر، لم يجز الإيجاب بمجرّد الظن.
الثاني: أنه لو وجب لأجل الإفطار لاستوى فيه جميع المفطِّرات، فإن تخصيص بعضها دون بعض نوعُ تشريعٍ يحتاج إلى دلالة الشرع.
الثالث: أن الجماع يُفارق غيرَه بقوّة داعيه وشدّة باعثه، فإنه إذا هاجت شهوتُه لم يكد يزعها وازعُ العقل ولا
(2)
يمنعها حارسُ الدين.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه: «كلُّ عملِ ابن آدمَ له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصومُ، فإنه لي وأنا أجزي به؛ يدعُ طعامَه وشهوتَه مِن أجلي»
(3)
. فسمّى النكاحَ شهوةً، وسمّى المأكل طعامًا وإن كان يُشتهَى في الجملة.
ولهذا كان الحدّ المشروع فيه القتل، وأدناه الجلد والتغريب، وحدُّ المطعوم إنما هو جَلْد دون ذلك، وقد يصيب المبتلَين بشهوتهم في عقولهم وأديانهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم ما يجلّ عن النعت.
والأكل وإن [كانت]
(4)
الضرورة إليه أشدّ، وعند [ق 44] شدّة الجوع يُقَدَّم على كلّ مطلوب، لكن إنما هو جوعٌ يوم، ومثل هذا لا يكاد يبلغ بكلِّ أحدٍ من الناس إلى شيء من البلاء.
ولهذا ظاهَرَ سلمةُ بن صخر من امرأته، واعتقد أن وطأها حرام، ثم إنه
(1)
س: «الكفّارة» .
(2)
س: «ولم» .
(3)
أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
زيادة يستقيم بها السياق.
أصابها
(1)
، وكذلك الأعرابيّ وقع على امرأته مع ما يعلم فيه من التحريم، ولم يبلغنا أن أحدًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل في رمضان.
نعم داعيةُ الأكل أكبر وأعمّ، لكن داعية الجماع إذا وقعت كانت أشدّ وأقوى، فلو سوَّى بين الأكل والجماع في الكفّارة، لسوَّى بين شيئين قد فرقت الأصولُ بينهما، بحيث لم يسوَّ بينهما في موضع واحد من الشريعة، فكيف يصح مثل هذا القياس؟! وليس في المطعومات حدٌّ سوى المسكر؛ لقوّة الداعي الطبعيّ إلى نوعه، وفي رمضان داعية الأكل لا تختصّ بنوع دون نوع.
الرابع: أن هذه الكفّارة العظمى لا تجب إلا في نوع النكاح المحرَّم لعارض، ولهذا وجبت على المظاهر لمَّا حرُم عليه فرج امرأته بالظهار، كما حرُم على الصائم فرج امرأته بالصيام، ووجب نحوها على المُحْرِم لما حرم عليه فرج امرأته بالإحرام.
الخامس: أن هذه الكفّارة لو كانت واجبةً بالفطر لكان مَن أُبيح له الفطر
(1)
حديث سلمة بن صخر أخرجه أحمد (16419)، وأبو داود (2213)، والترمذي (1198، 3299)، وابن ماجه (2062) وغيرهم من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سليمان بن يسار، عن سلمة بن صخر الأنصاري .. الحديث. قال الترمذي:«هذا حديث حسن (وزاد في الموضع الأول: غريب) قال محمد (يعني البخاري): سليمان بن يسار لم يسمع عندي من سلمة بن صخر» ، وفيه أيضًا محمد بن إسحاق متكلَّم فيه ويرسل ويدلس. وأخرجه الترمذي (1200)، والحاكم:(2/ 205) من طريق أخرى، قال الترمذي: حديث حسن، وصححه الحاكم على شرطهما. لكن قال البيهقي:(7/ 390) عن هذا الطريق: مُرسَل. وللحديث شواهد يتقوى بها. ينظر «الإرواء» : (7/ 178).