الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة
(1)
: أن الصومَ المنذورَ إذا مات قبل فعله، فإنه يُصام عنه، بخلاف صوم رمضان وصوم الكفّارة
، وسواء كان معيّنًا أو مطلقًا.
هذا منصوص أحمد في غير موضع
(2)
، وهو قول عامّة أصحابه.
وقال ابن عقيل: عندي أن الصوم لا يُفعَل عنه؛ لأنه لا تدخله النيابة في الحياة للعجز، فكذلك بعد الموت، كالصلاة، وعكسه الحج.
لما روى سعيدُ بن جُبير، عن ابن عباس: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصومُ عنها؟ فقال:«أرأيتِ لو كان على أمّك دَين فقضيتِه أكان يؤدّي ذلك عنها؟» قالت: نعم. قال: «فصومي عن أمّك» . رواه الجماعة إلا أبا داود
(3)
.
وفي رواية صحيحة لأحمد والنسائي
(4)
: أن امرأةً ركبت البحرَ، فنذرت إنِ اللهُ نجّاها أن تصومَ شهرًا
(5)
، فأَنْجاها الله، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابةٌ لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك، فقال:«صومي عنها» .
وفي رواية ابن ماجه [ق 60] والترمذي
(6)
قال: جاءت امرأةٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أختي ماتت وعليها صوم شهرين متتابعين؟ قال: «أرأيتِ لو
(1)
ينظر «المغني» : (4/ 399 - 400)، و «الفروع»:(5/ 72).
(2)
يراجع «مسائل الكوسج» : (9/ 4785) مع الحاشية.
(3)
. أخرجه أحمد (1970)، والبخاري (1852)، ومسلم (1148)، والترمذي (725)، والنسائي في «الكبرى» (2929)، وابن ماجه (1758).
(4)
. أحمد (1861)، والنسائي في «الكبرى» (4739). وأخرجه أيضًا أبو داود (3308).
(5)
. س: «شهر» .
(6)
. ابن ماجه (1758)، والترمذي (716) وحسّنه، ونقل عن البخاريِّ تقويتَه له.
كان على أُختك دَين أكنتِ تقضيه؟» قالت: نعم. قال: «فحقّ الله أحقّ» . قال الترمذي: حديث حسن.
وفي رواية متفق عليها
(1)
: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن
(2)
أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ فقال:«لو كان على أمّك دَينٌ أكنتَ قاضيه عنها؟» قال: نعم. قال: «فدَين الله أحقّ أن يُقضى» .
فهذه الرواية المطلقة منهم مَن يقول: «رجل» ، ومنهم من يقول:«امرأة» ، وأكثرهم يقول:«أمي» ، قد فُسِّرت في الروايات المتقدمة أن الصوم كان نذرًا
(3)
.
ورواية مَن روى شهرَين متتابعين كأنها وهم
(4)
.
(1)
. البخاري (1953)، ومسلم (1148/ 155).
(2)
. من ق.
(3)
. قال الحافظ في «الفتح» : (4/ 195): «وقد ادعى بعضهم أن هذا اضطراب من الرواة، والذي يظهر تعدد الواقعة، وأما الاختلاف في كون السائل رجلا أو امرأة، والمسؤول عنه أختًا أو أمًّا، فلا يقدح في موضع الاستدلال من الحديث» .
(4)
. أخرجها البخاري: (3/ 35) تعليقًا، ومسلم (1148)، والترمذي (716)، والنسائي في «الكبرى» (2926)، والدراقطني (2339) من طريق أبي خالد الأحمر، عن الأعمش، عن الحكم ومسلم البطين وسلمة بن كهيل، ثلاثتهم عن سعيد بن جُبير وعطاء ومجاهد، عن ابن عباس الحديث. وهذه الرواية كما قال المؤلف وهم، فقد أعلها الدراقطني في «التتبّع» (336) والترمذيُّ بأن أصحاب الأعمش الثقات قد رووه عنه، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس بلفظ «وعليها صوم شهر» .
وعن عبيد الله بن عبد الله، عن
(1)
ابن عباس: أن سعد بن عُبادة سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن نذر كان على أمّه تُوفّيت قبل أن تقضيه، فقال:«اقْضِه عنها» رواه الجماعة
(2)
.
[وفي لفظ]
(3)
: استفْتَى سعدُ بن عبادة الأنصاري رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في نذرٍ كان على أمّه توفّيت قبل أن تقضيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقضه عنها» فكانت سُنّة بعدُ.
وعن عائشة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن مات وعليه صيامٌ، صام عنه وليُّه» متفق عليه
(4)
.
وعن بُرَيدة بن الحُصيب قال: بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأةٌ، فقالت: إني تصدّقت على أمّي بجارية وإنها ماتت. فقال: «وجَبَ أجرُك، وردَّها عليك الميراثُ» . فقالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال:«صومي عنها» . قالت: إنها لم تحجّ قطّ، أفأحجّ عنها؟ قال:«حُجّي عنها» . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه
(5)
.
(1)
. في النسختين «ابن» تحريف.
(2)
. أخرجه أحمد (1893)، والبخاري (2761 و 6698)، ومسلم (1638)، وأبو داود (3707)، والترمذي (1546)، والنسائي (3657)، وابن ماجه (2132).
(3)
. زيادة مني. وقد أخرجه البخاري (6959)، ومسلم (1638)، وأحمد (3505).
(4)
. تقدم تخريجه.
(5)
. أخرجه أحمد (23032)، ومسلم (1149)، وأبو داود (1656)، والترمذي (667).
وفي رواية لمسلم: صوم شهرين
(1)
.
فهذه الأحاديث نصوصٌ في أن النذر يُصام عن الميت، وظاهر بعضها أن جميع الصوم كذلك؛ لأن حديث عائشة عامٌ، وفي حديث بُريدة وبعض ألفاظ ابن عباس: أنها قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ فأمرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالصوم عنها، ولم يستفصل هل هو
(2)
رمضان أو غيره، وذَكر معنًى يعمّ رمضانَ وغيرَه، وهو كونه دَينًا، فإنّ صوم رمضان دَين في ذمة مَن وجب عليه، ودَينُ الآدمي يُقضى عن الميت، فدَين الله أحقّ، وجمَعَ بينه وبين الحجّ في نسَقٍ واحد.
لكن هذه الأحاديث إنما هي على وجهها في النذر:
أما حديث ابن عباس فقد صرّح فيه بذلك، والمطلقُ منه محمول على المفسَّر، فإنه حديث واحد إسنادًا ومتنًا.
وكذلك حديث بُريدة: فإن قولها: «صوم شهر» بصيغة التنكير، تُشعِر بأنه غير رمضان، لاسيما رواية من روى:«شهرين» .
والذي يدلّ على ذلك أنه قد تقدم عن عائشة وابن عباس وعن ابن عمر موقوفًا ومرفوعًا أنهم قالوا في صوم رمضان: لا يُقضى عنه، بل يُطعَم عنه لكلّ يوم مسكينًا
(3)
.
(1)
. (1149/ 158).
(2)
في النسختين: «من» ولعل الصواب ما أثبت.
(3)
. في هامش س تعليق نصه: «يتوجّه في النذر أن يخيّر الولي بين الإطعام والصيام وهو أوجه، ويتوجّه أن يخير في صوم قضاء رمضان والكفارة أن يخير بين الإطعام والصيام، ويشعر به كلامه في رواية حنبل اهـ. من هامشه بخط الناسخ رحمه الله» .
وابن عباس وعائشة رويا هذين الحديثين وهما أعلم بمعنى ما رويا من غيرهما، فلو لم يكن معناه عندهما في غير رمضان لَمَا جاز لهما خلافه.
وليس الحديث نصًّا حتى يُعارَض بين الرأي والرواية.
وأما كونه دَينًا، فصحيح، لكن وفاء الدين مِن تركةِ الميّت ومالِه أولى من وفائه من بدن غيره، ولأن صوم رمضان لم يجب فيه الصوم عينًا، وإنما وجب الصومُ مع القدرة والإطعامُ مع العجز، فصار الدّين عليه أحدَ شيئين.
وهذا الجواب يصلح عن قوله: «وعليه صيام» ، فإن العاجز عن قضاء رمضان ليس عليه صيام، وإنما عليه فدية؛ فالواجب عليه أحدُ شيئين، وفيه نظر.
والفرق بين رمضان والنذر: أن النذر محلّه الذِّمّة، وقد وجب بإيجابه، وهو لم يوجب على نفسه إلا الصومَ فقط، فإذا فُعل عنه فقد أُدِّيَ عنه نفس ما أوجبه، ولو أُطعِم عنه لم يكن قد أُدِّي عنه الواجب.
ولهذا يصح أن
(1)
يَنْذُر ما يطيقُه وما لا يطيقُه، فإذا عجَزَ عنه فهو في عُهدته.
والصومُ إنما أوجبه الله سبحانه على بدَن المكلّف، فإذا عَجَز ففي ماله، فإذا عجَز عن الأصل انتقل إلى البدل الذي شرعه الله سبحانه.
ولهذا لم يوجب الله عليه من الصوم إلا ما يُطِيقه، وكذلك كلّ صوم وجب بإيجاب الله، فإنه
(2)
بدله الإطعام، وإن كان سبب وجوبه من المكلّف
(1)
. ق: «بأن» .
(2)
كذا في النسختين.