الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الْفَصْلُ الثَّانِي:
3819 -
[38] عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [د: 2484].
ــ
الفصل الثاني
3819 -
[33](عمران بن حصين) قوله: (ظاهرين) أي: غالبين، ظهر عليه: غلبة.
وقوله: (على من ناواهم) أي: عاداهم، والمناواة والنِّواء: المعاداة، يقال: ناويتُ الرجل نِواءً ومناواةً، وأصله من النهوض؛ لأن من عاديته وحاربته: ناء إليك أي: نهض، ونويت إليه، وورد في الخيل:(ونِواءً لأهل الإسلام) بكسر النون ممدودًا، أي: معاداةً لهم، ومنه قوله: لينوء بها، أي: ينهض، وقوله: فذهب لينوء فأغمي عليه، ومنه قوله تعالى:{لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [القصص: 76]، وفي الحديث الآخر: وناء بصدره، أي: نهض، كذا في (المشارق)(1)، وبالجملة النوء في الأصل النهوض، في (القاموس) (2): ناء نوءًا: نهض بجهد ومشقة، وقد يراد به العداوة لما ذكر.
وقوله: (حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال) قيل: المراد بآخرهم عيسى عليه السلام ومن تابعه، والمقصود أن الجهاد في هذه الأمة وظهورهم على الحق وغلبتهم على الكفار باقٍ إلى يوم القيامة.
(1)"مشارق الأنوار"(2/ 55).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 64).
3820 -
[34] وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ لَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُجَهِّزْ غَازِيًا أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ أَصَابَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. [د: 2503].
3821 -
[35] وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ. [د: 2504، ن: 3096، دي: 2/ 213].
3822 -
[36] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَاضْرِبُوا الْهَامَ، تُوَرَّثُوا الْحِنَانَ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. [ت: 1854].
ــ
3820 -
[34](أبو أمامة) قوله: (أو يخلف) بالجزم عطف على (يُجهِّزْ)، و (القارعة): الداهية الشديدة، ومنه سميت القيامة قارعة.
3821 -
[35](أنس) قوله: (وألسنتكم) بأن تخوِّفوهم وتوعدوهم بالقتل والأخذ والنهب ونحو ذلك، وبأن تذمُّوهم وتسبُّوهم إذا لم يؤدِّ ذلك إلى سبِّ اللَّه سبحانه وتعالى، وبأن تدعوا عليهم بالخذلان والهزيمة، وللمسلمين بالنصر والغنيمة، وبأن تحرِّضوا الناس على الغزو ونحو ذلك.
3822 -
[36](أبو هريرة) قوله: (أفشوا السلام) بأن تجهروا به حتى يسمع المُسلَّمَ عليه، والمراد سلِّموا على مَن تعرفونه وعلى مَن لا تعرفونه، (واضربوا الهام) أي: هامَ الكفارِ جمع هامة بالتخفيف بمعنى الرأس، وفي حليته صلى الله عليه وسلم:(عظيم الهامة)، وضربُ الهامِ كناية عن الجهاد. و (ثورّثوا) بلفظ المجهول من الإيراث.
3823 -
[37] وَعَن فَضالَةَ بنِ عُبيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَأْمَنُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. [ت: 1621، د: 2500].
3824 -
[38] وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. [دي: 2/ 278].
3825 -
[39] وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ ناقَةٍ فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ،
ــ
3823، 3824 - [37، 38](فضالة بن عبيد، عقبة بن عامر) قوله: (وعن فضالة) بفتح الفاء.
وقوله: (فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة) قد أسلفنا الكلام عليه في الفصل الأول من كتاب العلم في حديث أبي هريرة: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله) فتذكر.
3825 -
[39](معاذ بن جبل) قوله: (فواق) أي: قدرَ فُواقٍ، وهو بضم الفاء وبفتح: ما بين الحَلْبتَينِ، فإن الناقة تُحلَبُ وتُترَكُ ليدرَّ، ثم تُحلَبُ، ويقال: ما أقام عندي إلا فُواقًا، وأصله من الفَوق؛ لأن الدرَّ ينزل من فوق، ولقد أبعد من قال: يحتمل أن يكون المراد بما بين الحلبتين ما بين الغداة إلى العِشاء؛ لأن الناقة تُحلَبُ فيهما؛ لفوات المبالغة، لأن الجهاد والقتال من الغداة إلى العشاء متعسِّر، اللهم إلا أن يراد به السعي إلى الجهاد والتهيؤ [له]، وللَّه در صاحب (القاموس) (1) حيث نقل: الفُواق ما بين الحلبتين، أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضَّرع.
(1)"القاموس المحيط"(ص: 847).
وَمَنْ جُرِحَ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً فَإِنَّهَا تَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ، لَوْنُهَا الزَّعْفَرَانُ، وَرِيحُهَا الْمِسْكُ،
ــ
وقوله: (أو نكب) بلفظ المجهول مخففًا (نكبة) النكبة في الأصل ما يصيب الإنسان من الحوادث، في (القاموس) (1): النكبة بالفتح: المصيبة، ويستعمل فيما يصيب الأصبع من الجراحة من حجارة ونحوها، يقال: نُكِبَت أصبعُه، أي: نالته الحجارة، وفي الحديث:(فنُكِبَت أصبعُه) أي: ضربها بحجر فأدماها، ومنه: حتى النكبة يُنكَبُها، والشوكة يُشَاكُها، كذا في (المشارق)(2)، وقيل: النكبة جراحة من سقوط من دابة، ومن حمل سلاح ونحو ذلك، كذا في (مجمع البحار)(3)، والضمير في (إنَّها) للنكبة ليدل على الجرح بالسِّنان والسيف بطريق الأولى، ونقل عن الكازروني: أن المراد بالنكبة والجرح في الحديث بمعنى واحد، بدليل وصف لونها بلون الزعفران، إذ لون الزعفران يابسًا يشبه لون الدم، ونقول: يمكن لهذا القائل أن يجعل (أو) للشك من الراوي، واللَّه أعلم فتدبر.
وقوله: (كأغزر) بالغين المعجمة والزاي أفعل التفضيل من الغَزارة بمعنى الكثرة، والغزير: الكثير من كل شيء، غزُرَ الشيءُ: كثُرَ، والماشية: درَّت ألبانُها، والغزرة من الآبار والينابيع: الكثير الماء، ومن العيون: الكثيرة الدمع، أي: تجيء النكبةُ أكثرَ أوقات كونها في الدنيا حين نُكِبَ، والكاف زائدة و (ما) مصدرية والوقت مقدر كقولهم: أخطبُ ما يكون الأميرُ.
(1)"القاموس المحيط"(ص: 142).
(2)
"مشارق الأنوار"(2/ 22).
(3)
انظر: "مجمع بحار الأنوار"(4/ 802).
وَمَنْ خَرَجَ بِهِ خُرَاجٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ طَابَعَ الشُّهَدَاءِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. [ت: 1657، د: 2541، ن: 3141].
3826 -
[40] وَعَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَ لَهُ بِسَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. [ت: 1625، ن: 3186].
3827 -
[41] وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الصَّدَقَاتِ ظِلُّ فُسْطَاطٍ. . . . .
ــ
وقوله: (ومن خرج به خراج) بضم الخاء المعجمة: ما يخرج من البدن من القُروح والدَّماميل، يعني يثاب المجاهد بما يصيبه في سبيل اللَّه سواء كان من العدو كالجراحة أو من غيره كالنكبة أو من نفسه كالخراج. و (الطابع) بفتح الباء: الخاتَم، والكسر لغة فيه، والمراد به العلامة، أي: يكون عليه علامةُ الشهداء وأمارتُهم ليعلمَ أنه سعى في سبيل اللَّه وجاهد فيُجزَى جزاءَ المجاهدين.
3826 -
[40](خريم بن فاتك) قوله: (وعن خريم) بالخاء المعجمة والراء على لفظ التصغير، (ابن فاتك) بالفاء والتاء المثناة.
وقوله: (كتب لهم بسبع مئة ضعف) المضاعفة ترتقي من العشرة إلى ما شاء اللَّه إلى سبع مئة ضعف في كل عمل، ولعل مضاعفة الإنفاق في سبيل اللَّه المراد منها الجهاد يبلغ إلى سبع مئة البتة لا يكون أقل منه، واللَّه أعلم.
3827 -
[41](أبو أمامة) قوله: (ظل فسطاط) في (القاموس)(1): الفسطاط
(1)"القاموس المحيط"(ص: 627).
فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمِنْحَةُ خَادِمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
ــ
بالضم: السرادق من الأبنية كالفُسَّاط والفُسْتاط والفُسَّات ويكسرن، وفي (الصراح) (1): خيمة وخركَاه بزركَ، وفي (النهاية) (2): هو ضرب من الأبنية في السفر دون السُّرادق، وقد يجيء بمعنى أهل الكورة والمدينة التي فيها مجمع الناس، ومنه:(عليكم بالفُسْطاطِ فإنَّ يدَ اللَّه على الفُسْطاطِ)، ومعناه أن جماعة أهل الإسلام في كنف اللَّه فأقيموا فيهم ولا تفارقوهم، وعَلَمٌ لمصر العتيقة التي بناها عمرو بن العاص. وقيل: هو ضرب من الأبنية وبه سميت المدينة.
ثم المراد بـ (ظل فسطاط) في الحديث استظلال المجاهدين في الخيمة، وقيل: المراد منحة فسطاط لكنه ذكر الظل لأنه المقصود منه.
وقوله: (ومنحة خادم) منحه كمنعه وضربه: أعطاه، والاسم: المِنْحَة بالكسر، اعلم أن المنحة في الأصل بمعنى العطية والهبة مطلقًا، وغلب في تمليك المنفعة بلا عوض دون الرقبة، وأكثر ما يستعمل في الناقة تُمنَح وتعطى لأحد ينتفع بلبنها مدة لكونها غالبَ عطايا العرب، ثم تُسترَدُّ، وليست مخصوصة باللبن بل يجعل وبرها ولبنها وولدها كما قال في (القاموس)(3)، وقد وقع في الحديث:(من منحَ منيحةَ ورَقٍ) يشمل ما يمنح من شجرة لأكل ثمرتها أو أرض لزرعها، ومنه ما وقع في هذا الحديث:(ومنحة خادم) أي: هبته وعطيته في سبيل اللَّه بأن يعطي أحدًا من المجاهدين خادمًا يخدمه أو يتركه بينهم يخدمهم ويعينهم.
(1)"الصراح"(ص: 296).
(2)
"النهاية"(3/ 445).
(3)
"القاموس المحيط"(ص: 235).
أَوْ طَرُوقَةُ فَحْلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. [ت: 1627].
3828 -
[42] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَلِجُ النَّارَ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ النَّسَائِيُّ فِي أُخْرَى:"فِي مَنْخِرَيْ مُسْلِمِ أَبَدًا" وَفِي أُخْرَى لَهُ: "فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا،
ــ
وقوله: (أو طروقة فحل) الطرق: الضرب أو بالمطرقة بالكسر، والمراد بطروقة الفحل الناقة يطرقها الفحل، أي: بلغت أوانَ أن يطرق، فهي فَعُولة بمعنى مفعولة، والرواية بالرفع فهي معطوفة على قوله:(منحة خادم)، فيجب القول بحذف المضاف، أي: منحةُ طَرُوق، ولو كانت الرواية بالجر لم يحتج إلى حذف المضاف ولكن لم تثبت، واللَّه أعلم.
3828 -
[42](أبو هريرة) قوله: (حتى يعود اللبن في الضرع) بالمحال، كقوله تعالى:{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40].
وقوله: (في منخري مسلم) المنخر بفتح الميم وكسر الخاء وقد يكسر ميمه إتباعًا للخاء، وقد يفتح الخاء إتباعًا للميم: خرق الأنف، وحقيقته موضعُ النَّخِير، وهو مدُّ النفس في الخياشيم، والنخير صوت الأنف، وفي الحديث:(لما خلقَ اللَّهُ إبليسَ نخَرَ)، كذا في الحاشية. وقال في (القاموس) (1): المنخر بفتح الميم والخاء وبكسرهما وضمهما وكمجلس: خرق الأنف، وقال: الخياشيم غراضيف في أقصى الأنف بينه وبين الدماغ.
(1)"القاموس المحيط"(ص: 447).
وَلَا يَجْتَمعُ الشُّحُّ وَالإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا". [ت: 1633، ن: 3107].
ــ
قوله: (ولا يجتمع الشح والإيمان) في (القاموس)(1): الشح: البخل والحرص، وفي (النهاية) (2): الشح: أشد البخل، وقيل: هو البخل مع الحرص، وقيل: البخل في أفراد الأمور وآحادها، والشح عام، وقيل: البخل بالمال، والشح بالمال والمعروف.
وفي (المشارق)(3): الشح: البخل وكثرة الحرص على إمساك ما في اليد وغيره، وقيل: الشح عام كالجنس، والبخل خاص في أفراد الأمور كالنوع له، يقال: رجل شَحِيح وشَحَاح بفتح الشين وتخفيف الحاء، ويقال: شححت أشُحُّ وأشِحُّ شَحًّا بالفتح والاسم بالضم.
وفي (الصراح)(4): شح: زفتي وحريصي، شحاح بالفتح: بخيل وزفت وحريص، أرض شحاح: لا تسيل إلا من مطر كثير، وذكر الطيبي (5): أن البخل هو مطلق المنع، والشح المنع مع الظلم من مال الغير ومنع الزكاة وهو معنى الكنز، ونقل عن (الكشاف): والكزازة الانقباض واليبس؛ لأن المنع إذا انضم إلى الكزازة والحرص حمل الإنسان على رذائل الأخلاق بخلاف المنع مطلقًا.
وفي (مجمع البحار)(6): قال ابن عمر لمن قال: إني شحيح: إن كان شحُّك
(1)"القاموس المحيط"(ص: 219).
(2)
"النهاية"(2/ 448).
(3)
"مشارق الأنوار"(2/ 413).
(4)
"الصراح"(ص: 102).
(5)
"شرح الطيبي"(7/ 292).
(6)
"مجمع بحار الأنوار"(3/ 185 - 186).
3829 -
[43] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ. . . . .
ــ
لا يحملك على أن تأخذ ما ليس لك فليس بشحك بأس، وقال ابن مسعود لمن قال: لا أعطي ما أقدر على منعه، قال: ذلك البخل، والشح أن تأخذ مال الغير بغير حق.
وقال التُّورِبِشْتِي (1): الشح بخل مع حرص، والإنسان مجبول عليه، قال اللَّه تعالى:{وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128]، والنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الشح المطاع، ولم يستعذ من الشح لعلمه أنه أمر جِبِلِّيٌّ فُطِرَ عليه الإنسانُ، فكل ما كان من هذا القبيل لم يخل من المصلحة، والإنسان إنما جبل عليه ليكون شحيحًا بدينه، وليتمكن من الإمساك حيث أمر بالإمساك، والمحمود منه ما كان في سلطان القلب، والمذموم منه المطاع، وذلك إذا غلب سلطانه على القلب، ومركز الشح النفس، فلا يتمكن من القلب إلا بعد خلوِّه من الإيمان باستيلاء سلطان النفس على القلب، فإن النفس ظلمانية والقلب نوراني، واستيلاء كل واحد منهما على الآخر يدل على زوال الصفة المضادة، والضدان لا يجتمعان، انتهى.
هذا ومع ما ذكر كله يكون المراد بالإيمان كماله، فإن الشح ليس كفرًا بدليل إثباته للمؤمن كما في قوله صلى الله عليه وسلم:(خير الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح) كما قالوا في أمثال ذلك.
3829 -
[43](ابن عباس) قوله: (تحرس) بضم الراء أي: تكون حارسًا للمجاهدين تحفظُهم وأموالَهم عن الأعداء، ونسبة الحراسة إلى العين مجازية، فالعين الباكية من خشية اللَّه مجاهدةٌ مع النفس، والحارسةُ مع الكفار، فاشتركا في عدم مِسَاس
(1)"كتاب الميسر"(3/ 881).
فِي سَبِيلِ اللَّهِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. [ت: 1639].
3830 -
[44] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَرَّ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ فَأَعْجَبَتْهُ فَقَالَ: لَوِ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ؟ اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ ناقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجنَّة". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. [ت: 1650].
ــ
النار إياهما.
3830 -
[44](أبو هريرة) قوله: (بشعب) الشعب بالكسر: الطريق في الجبل، ومسيل الماء في بطن، وما انفرج بين الجبلين، كذا في (القاموس)(1). ولعل المعنى الأخير أنسب بالمقام وأظهر.
وقوله: (فيه عيينة) تصغير عين، وفي بعض النسخ:(غيضة) وهي الأَجَمة، ولعل معنى كونها من ماء وجودُ الماء فيها، وإلا فغاضَ الماءُ بمعنى نضَبَ، فلا يناسب الإعجاب، ولهذا قالوا: هذا ليس بسديد معنًى، ولم يشهد له رواية.
وقوله: (عذبة) بالرفع صفة (عيينة)، وقد يجرُّ على الجِوار، و (لو) في (لو اعتزلت) للتمني أو للشرط والجزاء محذوف، وهذه العبارة كثيرة الوقوع، وهي محمولة على المعنيين.
وقوله: (ألا تحبون أن يغفر اللَّه لكم) قيل: يفهم منه أنه لا مغفرةَ بالاعتزال
(1)"القاموس المحيط"(ص: 107).
3831 -
[45] وَعَنْ عُثْمَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَنَازِلِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. [ت: 1667، ن: 3169].
3832 -
[46] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عُرِضَ عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: . . . . .
ــ
والعبادة في الشِّعب، ويجاب بأن الرجل كان صحابيًا قد وجب عليه الغزو في ذلك الزمان، وتركُ الواجب بالنفل معصيةٌ، ويمكن أن يحمل المغفرة على الكاملة منها، ودخولِ الجنة مع السابقين، وهو دليل على أفضلية الصحبة على الاعتزال خصوصًا صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، نعم قد يفضل الاعتزال بعد زمانه صلى الله عليه وسلم عند الفتن.
3831 -
[45](عثمان) قوله: (رباط يوم في سبيل اللَّه خير) الحديث، هذا في حقِّ مَن فُرِضَ عليه المرابطة، فاشتغاله بغيره معصية وإن كان في المسجد مثلًا الذي ورد فيه:(فذلكم الرِّباطُ)، فافهم.
3832 -
[46](أبو هريرة) قوله: (أول ثلاثة يدخلون الجنة) قد علم في أصول الفقه أن النكرة الموصوفة تفيد الاستغراق، فيكون المعنى أول كل ثلاثة من الداخلين هؤلاء الثلاثة، ولا شك أنه يدخل الجنة ثلاثة، فهؤلاء الثلاثة الموصوفون بهذه الصفات أولهم، وليسوا أشخاصًا بل هم ثلاث جماعات، وقد روي:(أول ثُلَّة) بضم المثلثة وتشديد اللام بمعنى الجماعة، وقد ورد أحاديث في السابقين من الأشخاص كرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام، وتقدم هذه الأمة على سائر الأمم، فمن بين الأمة يسبقون هذه الطوائف الثلاثة، ثم تقديم أحد الثلاثة المذكورين ليس مدلولًا للعبارة إلا أن يفهم بالإشارة إلى ذلك من التقديم في الذكر، فافهم.
شَهِيدٌ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ، وَعَبَدٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَنَصَحَ لِمَوَالِيهِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. [ت: 1642].
3833 -
[47] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبْشِيٍّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: . . . . .
ــ
وقوله: (وعفيف متعفف) قال في (القاموس)(1): عفّ عَفًّا وعَفَافًا بالفتح وعِفة بالكسر: كفّ عما لا يحل ولا يَجمُلُ، وتعفف: تكلف، انتهى. أقول: ويمكن أن تكون صيغة التفعُّل للمبالغة، وقال التُّورِبِشْتِي (2): عفيف عمَّا لا يحل، متعفِّفٌ عن السؤال، وكذا قال في (المشارق)(3)، فعلى المعنى الأول يكون كالتأكيد، وعلى الثاني يكون تأسيسًا، وقيل: العفيف الصابر المتنزه عما لا يليق، والمتعفف تابع له على سبيل المبالغة.
3833 -
[47](عبد اللَّه بن حُبْشي) قوله: (وعن عبد اللَّه بن حبشي) بضم الحاء المهملة وسكون الموحدة.
وقوله: (أي الأعمال أفضل؟ ) واعلم أنه قد وقع في أحاديث متعددة بيان الأفضل من الأعمال بأعمال مختلفة، وحاصل الجمع بينها بأنه صلى الله عليه وسلم أجاب في كل مقام بما يناسب حالَ السائل، فمن رأى فيه شيئًا من أمارات الكبر والشدة أجابه بأنه التواضع كإفشاء السلام ولين الكلام، أو البخل أجابه بأنه الجود والسخاوة كإطعام الطعام، أو التكاسل في العبادة أجابه بأنه الصلاة بالليل والناس نيام، وهكذا، فالمراد
(1)"القاموس المحيط"(ص: 773).
(2)
"كتاب الميسر"(3/ 882).
(3)
"مشارق الأنوار"(2/ 169).
"طُولُ الْقِيَامِ" قِيلَ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "جُهْدُ الْمُقِلِّ" قِيلَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "مَنْ هَجَرَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ" قِيلَ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "مَنْ جَاهَدَ الْمُشْرِكِينَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ، قِيلَ: فَأَيُّ الْقَتْلِ أَشْرَفُ؟ قَالَ: "مَنْ أُهْرِيقَ دَمُهُ، وَعُقِرَ جَوَادُهُ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "إِيْمانٌ لَا شكَّ فِيهِ، وَجِهَادٌ لَا غُلُولَ فِيهِ، وَحَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ" قِيلَ: فَأَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "طُولُ الْقُنُوتِ". ثُمَّ اتَّفَقَا فِي الْبَاقِي. [د: 1449، ن: 2526].
ــ
الأفضل في حق السائل، أو المقصود من أفضل الأعمال، وقد سبق الكلام في مثله في موضعه فتدبر.
وقوله: (طول القيام) أي: في الصلاة، و (جهد المقل) أي: تصدق الفقير من ماله مع احتياجه إليه فيعطيه بجهد ومشقة، وهذا إذا صحَّ التوكُّلُ ولم يُضِعْ حقَّ العيال، وقد سبق بيانه في (كتاب الزكاة) في (باب أفضل الصدقة).
وقوله: (من هجر) أي: هجرةُ مَنْ هجَرَ بحذف المضاف، وكذا في قرينه.
وقوله: (وعقر جواده) يعني بذل نفسه وماله وجواده، وقيل: عقر الجواد كناية عن غاية الشجاعة، وتغييرُ الأفضل إلى الأشرف في القتل تفنُّنٌ مع تضمن زيادة المبالغة في باب فضل هذه الخصلة.
وقوله: (إيمان لا شك فيه) إشارة إلى قوة اليقين وكماله، وإلا فالإيمان لا يكون مع الشك إلا أن يُكتفى فيه بغَلَبةِ الظنِّ كما قيل، والمراد بالشك معناه اللغوي لا تَساوي الطرفين، و (الغلول) الخيانة في الغنيمة، والمراد بالحَجَّة المبرورة المقبولةُ، وقد سبق في كتاب الحج، و (القنوت) بمعنى القيام.
3834 -
[48] وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا،
ــ
3834 -
[48](المقدام بن معدي كرب) قوله: (يغفر له في أول دفعة) الدفعة بالفتح: المرة من الدفع، ويالضم من المطر، كذا في (القاموس)(1)، وفي (الصراح) (2): دفعة بالضم: باران كه بيك بار آيد، دفعة بالفتح: يكبار، فعلم أن أصله في المطر يستعمل في غيره كالدم ونحوه تشبيهًا واستعارة، والرواية في الحديث على الوجهين، وبالضم أظهر، أي: يغفر للشهيد في أول صبّه من دمه.
وقوله: (ويرى) بلفظ المجهول، والضمير فيه للشهيد، و (مقعده) منصوب على أنه مفعول ثانٍ، أي: يرى مكانه في الجنة عند انزهاق روحه، وكأنه عدهما واحدًا؛ لأن الثاني من تتمة الأول، وإلا تصير سبعة.
وقوله: (ويجار) أي: يحفظ ويؤمن، من أجاره: أنقذه وأعاذه، ومنه قوله تعالى:{فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6].
وقوله: (ويأمن من الفزع الأكبر) وهو النفخة الأولى، فسَّر بها الزمخشري والبيضاوي قوله تعالى:{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103].
وقوله: (ويوضع على رأسه تاج الوقار) التاج: الإكليل، والوقار بفتح الواو: الرَّزانة، أي: تاجٌ هو سبب العزة والعظمة، والضمير في قوله:(منها) للتاج، والتأنيث
(1)"القاموس المحيط"(ص: 659).
(2)
"الصراح"(ص: 311).
وَيُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. [ت: 1663، جه: 2799].
3835 -
[49] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِغَيْرِ أَثَرٍ مِنْ جِهَادٍ لَقِيَ اللَّهَ وَفِيهِ ثُلْمَةٌ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. [ت: 1666، جه: 2763].
3836 -
[50] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الشَّهِيدُ لَا يَجِدُ أَلَمَ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ أَلَمَ الْقَرْصَةِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: . . . . .
ــ
باعتبار أنه علامة العز والشرف، أو باعتبار أنه مجموعة من الجواهر وغيرها، كذا في الحواشي. و (الحور) نساء أهل الجنة جمع حَوْراء، وهي الشديدةُ بياضِ العَين الشديدةُ سوادِها، و (العين) جمع عَيْناء وهي الواسعة العَين، كذا في (النهاية)(1).
3835 -
[49](أبو هريرة) قوله: (من جهاد) صفة لـ (أثر) وفسروه بجراحة أو تعب أو بذل مال أو تهيئة أسباب الجهاد.
وقوله: (فيه ثلمة) بضم المثلثة وسكون اللام في الأصل بمعنى فرجة المكسور والمهدوم، والمراد هنا النقصان في دينه، ونقل الطيبي (2) أنه يعم جهاد العدو والنفس والشيطان، ويؤيده حديث أبي أمامة الآتي.
3836 -
[50](وعنه) قوله: (ألم القرصة) بالفتح: المرَّة من القَرْص، وهو
(1)"النهاية"(2/ 282).
(2)
"شرح الطيبي"(7/ 297).
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. [ت: 1668، ن: 3161، دي: 2/ 205].
3837 -
[51] وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ: قَطْرَةِ دُمُوعٍ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَقَطْرَةِ دَمٍ يُهْرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الأَثَرَانِ: فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. [ت: 1669].
ــ
أخذُ لحمِ إنسانٍ بأصبعك حتى تؤلمَه، ولَسْعُ البَراغِيثِ، كذا في (القاموس)(1)، قال الطيبي (2): وذلك في شهيد يتلذذ ببذل مهجته في سبيل اللَّه طيبًا به نفسه، أقول: يحتمل أن يكون المراد أن ألَم القتل للشهيد بالقياس إلى لذاته التي يجد بعد الموت ليس إلا بمنزلة ألم القرصة فليطب نفسًا بذلك، وذلك في كل شهيد يكون قتاله في سبيل اللَّه، واللَّه أعلم.
3837 -
[51](أبو أمامة) قوله: (قطرة دموع) أي: قطراتها، أفردت لعدم الاشتباه مع ما فيه من إيهام أنه يكفي في ذلك قطرة واحدة، وصرح بهذا المعنى في قوله:(وقطرة دم) إشارة إلى فضل إهراق الدم على تقاطر الدمع، فافهم.
وقوله: (فأثر في سبيل اللَّه) كالجراحة ونحوها، والأثر في الفريضة كبقاء بلل الوضوء وسيماء الوجه في السجود، واصفرار اللون في التهجد، وخلوف الفم في الصوم، واغبرار قدميه في الحج، وانشقاق الجبهة في الرمضاء، وانشقاق العقب من برد ماء الوضوء، ونحو ذلك.
(1)"القاموس المحيط"(ص: 578).
(2)
"شرح الطيبي"(7/ 297).
3838 -
[52] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَرْكَبِ الْبَحْرَ إِلَّا حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نارًا وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. [د: 2489].
3839 -
[53] وَعَنْ أُمِّ حَرَامٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ الَّذِي يُصِيبُهُ الْقَيْءُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ، وَالْغَرِيقُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ". . . . .
ــ
3838 -
[52](عبد اللَّه بن عمرو) قوله: (لا تركب البحر إلا حاجا أو معتمرًا أو غازيًا في سبيل اللَّه) يعني أن العاقل لا ينبغي أن يلقي نفسه في المهالك إلا لأمر ديني يتقرب به إلى اللَّه، ويحسن بذل النفس، وفيه جواز ركوب البحر للحج والغزو وفضيلته (1).
وقوله: (فإن تحت البحر نارًا. . . إلخ)، قيل: هو على ظاهره، فإن اللَّه على كل شيء قدير، وقد يحتمل قوله تعالى:{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6] على هذا المعنى، وقيل: المراد تهويل شأن البحر وتفخيم الخطر في ركوبه، فإن راكبه متعرض للآفات والمهالك بعضها فوق بعض، واللَّه أعلم.
3839 -
[53](أم حرام) قوله: (المائد في البحر) مادَ يمِيدُ مَيْدًا ومَيَدَانًا: تحرَّك، والشرابُ: اضطربَ، والرجلُ: أصابه غَشَيان ودوران من سُكْر أو ركوبِ بحرٍ.
وقوله: (الغريق له أجر شهيدين) وفيه فضل الغريق، وقد ورد: (خِيارُ الشهداءِ
(1) وفيه رد على من قال: إن البحر عذر لترك الحج، والصواب ما قاله الفقيه أبو الليث السمرقندي من أنه إذا كان الغالب السلامة ففرض عليه يعني وإلا فهو مخير، قاله القاري في "المرقاة"(6/ 2484).
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [د: 2493].
ــ
أصحابُ الوَكْفِ) كما ذكرنا في شرح الترجمة، قالوا: هذا إن كان ركوبه للغزو أو الحج أو طلب العلم أو صلة الرحم، وأما التجارة فإن كان لتحصيل القوت ولم يكن طريقٌ سواه فهم داخلون في ذلك، وقد منّ اللَّه تعالى في كتابه المجيد على عباده بركوب الفُلْك، وتسخير البحر، وحصول المنافع بذلك، وقد ركب أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم البحر للهجرة إلى الحبشة وللغزو، فمن منع ذلك وجعله من إلقاء النفس في التَّهلُكة مطلقًا فهو محجوج بهذه الحجج، وأما جعله منافيًا لأمن الطريق فهو مردود بأن المعتبر في ذلك الغالب، ولا شك أن الغالب فيه السلامة، وليس ذلك إلا كمراكب البر خصوصًا في المفاوز والجبال، جعل اللَّه تعالى الفُلْكَ مراكبَ البحر كما جعل الإبلَ والفرسَ مراكبَ البرِّ.
قال سيدي أحمد بن زروق رحمة اللَّه عليه في (شرح حزب البحر)(1): وأما حكم ركوب البحر من حيث هو هو فلا خلاف اليوم في جوازه، وإن اختلف فيه نظر السلف، ثم هو ممنوع في أحوال خمسة:
أولها: إذا أدى لترك الفرائض أو نقضها فقد قال مالك للذي يميدُ فلا يصلِّي: أيركبُ حيثُ لا يصلِّي؟ ويلٌ لمَن ترك الصلاة.
والثاني: إذا كان مخوفًا بارتجاجه من الغرق فيه فإنه لا يجوز ركوبه لما فيه من الإلقاء في التهلكة، وذلك من دخول الشمس العقرب إلى آخر الشتاء.
والثالث: إذا خيف فيه الأسر واستيلاء العدو في النفس والمال فلا يجوز ركوبه، بخلاف ما إذا كان معهم أمان والحكم للمسلمين لقوة يدهم وأخذ رهانيهم وما في
(1)"مخطوطة شرح حزب البحر"(ص: 17 - 19).
3840 -
[54] وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ فَصَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ أَوْ قُتِلَ. . . . .
ــ
معنى ذلك.
الرابع: إذا أدى ركوبه إلى الدخول تحت أحكامهم والتذلل لهم ومشاهدة منكراتهم [مع الأمن على النفس والمال بالاستيثاق منهم]، فقد أجراها بعض المشايخ على مسألة التجارة في أرض العدو، ومشهور المذهب فيها الكراهة، وهي من قبيل الجائز، وعليه ركوب أئمة العلماء والصلحاء، وكانوا استخفُّوا الكراهةَ فِي مقابلة تحصيل الواجب الذي هو الحج وما في معناه.
الخامس: إذا خيف بركوبه كشف عورة كركوب المرأة في مركب صغير لا تقع لها فيه سترة.
وقال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص: صف لي البحر، فقال: يا أمير المؤمنين! مخلوقٌ عظيمٌ، يركبه خَلقٌ ضعيف، دود على عود، فقال عمر رضي اللَّه تعالى عنه: لا جرم لولا الحج والجهاد لضربت من يركبه عنقه بالدرة، ثم منع ركوبه ورجع عن ذلك بعد مدة، وكذلك وقع لعثمان ومعاوية، ثم استقر الأمر على جوازه بشرطه، وباللَّه سبحانه التوفيق، تم كلام ابن زروق، واللَّه أعلم.
3840 -
[54](أبو مالك الأشعري) قوله: (من فصل في سبيل اللَّه) في (القاموس)(1): فصَلَ من البلد فُصُولًا: خرج منه، وفي الحديث:(بعد أن فصَلُوا) أي: رحَلُوا وبانوا عن المقيمين، كذا في (المشارق)(2)، وقيل: أصله فصَلَ نفسَه عنه،
(1)"القاموس المحيط"(ص: 960).
(2)
"مشارق الأنوار"(2/ 267).
أَوْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ أَوْ بَعِيرُهُ أَوْ لَدْغَتْهُ هَامَّةٌ أَو مَاتَ عَلَى فِرَاشهِ بِأَيِّ حَتْفٍ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ شَهِيدٌ وَإِنَّ لَهُ الْجنَّةَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. [د: 2499].
ــ
لكن لما كثر حذف مفعوله صار كاللازم بمعنى انفصَلَ، كذا في (التفسير)، فالتقدير من خرج عن بلده قاصدًا الجهاد في سبيل اللَّه.
وقوله: (أو وقصه فرسه) وقَصَ عنقَه كوعد: كسرها، فوقَصَت لازم متعد. و (الهامة) بتشديد الميم: كلُّ ذاتِ سُمٍّ، وجمعه هَوَامُّ، وكذا السامَّةُ، وقد يفرق بأن الأول ما يقتل، والثاني ما لا يقتل كالعقرب والزُّنبور، وقد تقع الهامَّةُ على ما تدبُّ من الحيوان وإن لم يسمَّ ولا يقتل كالحشرات والقمل، و (الحتف) الموت، وقولهم: مات حَتْفَ أنفِه، أي: على فراشه من غير قتل ولا ضرب ولا غرق ولا حرق، وخص الأنف لأنه أراد أن روحهَ تخرجُ من أنفه، والجريح من جراحته، كذا في (القاموس) (1). وقال في (النهاية) (2): كأنه سقط لأنفه فمات، والحتف الهلاك، وقال السيوطي في (مختصر النهاية) (3): قال ابن الجوزي: وإنما قيل ذلك لأن نفسه تخرج من فيه وأنفه، فغلب أحد الاسمين، وهو أولى مما ذكره صاحب (النهاية)، وأولُ مَن نطق بهذه الكلمة النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولم تُسمَع من أحد من العرب قبله كما ثبت في (المسند) و (المستدرك)(4).
وقوله: (وإن له الجنة) تلميح إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111].
(1)"القاموس المحيط"(ص: 736).
(2)
"النهاية"(1/ 331).
(3)
"الدر النثير"(1/ 208).
(4)
"المستدرك"(2/ 97).
3841 -
[55] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَفْلَةٌ كَغَزْوَةٍ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. [د: 2487].
ــ
3841 -
[55](عبد اللَّه بن عمرو) قوله: (قفلة كغزوة) القفلة: الرجوع من السفر، قفل: إذا عاد من سفره، وقد يقال للسفر في ابتدائه: قُفُول، ومنه يقال لجماعة المسافرين: قافلة تفاؤلًا، وأكثر ما يستعمل في الرجوع، وهو حقيقته، وهو المراد هاهنا، ثم يقال في معنى هذا الكلام: إن رجوع المجاهد إلى وطنه في حكم ذهابه للجهاد بمعنى أن أجره في انصرافه إلى أهله كأجره في إقباله إلى الجهاد، يعني يبقى أجره وثوابه إلى حين الرجوع أداءً لحقِّ الأهل والعِيال، كما قيل ذلك في الحج أيضًا، بل في كل ذهابٍ إلى الطاعة، ورجوعٍ منها إلى البيت، فالرجوع من تتمة الذهاب، هذا هو الوجه، رجحه بعض الشارحين.
لكن التنكير في قوله: (قفلة) ربما ينظر إلى أن المراد منها قفول مخصوص ونوع خاص منه، فإن الظاهر على المعنى المذكور أن يقال: القفلة كالغزوة.
فقيل: معناه أن هذا ورد في قوم قفلوا لمصلحة فيه كخوفهم أن يدهمهم من عدوهم مَن هو أكثر عددًا منهم فقفلوا ليستضيفوا إليهم عددًا آخر من أصحابهم، ثم يَكُرُّوا على عدوهم، وقيل: المراد بالقُفُول هاهنا التعقيب، وهو الرجوع ثانيًا في الوجه الذي جاء منه منصرفًا وإن لم يلقوا عدوًا ولم يشهدوا قتالًا، وقد يفعل الجيش ذلك إذا انصرفوا من مغزاهم؛ لأن العدو إذا رآهم قد انصرفوا عنهم أمنوهم وخرجوا من أمكنتهم، فإذا قفل الجيش إليهم نالوا الفرصة فأغاروا عليهم.
وقال التُّورِبِشْتِي (1): الوجه الأول أقوم؛ لأن القفول إنما يستعمل في الرجوع
(1)"كتاب الميسر"(3/ 884).
3842 -
[56] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لِلْغَازِي أَجْرُهُ، وَلِلْجَاعِلِ أَجْرُهُ وَأَجْرُ الْغَازِي". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. [د: 2526].
ــ
عن الوجه الذي ذهب إليه لحاجة إلى حيثُ توجَّه منه، انتهى. وهذا إنما ذكره لترجيحه على الوجه الثالث؛ لأن القفول فيه محمول على الرجوع إلى ما انصرفوا عنه، وهو المغزى لا إلى حيث توجه منه وهو الوطن، وأما الوجه الثاني وهو منقول عن الطحاوي، فالقفول فيه محمول على ما حمل عليه في الوجه الأول.
وأقول -واللَّه أعلم-: يمكن أن يكون المراد إراءة العدو صورة القفول في المعركة بالانصراف إلى جهة أخرى من غير انصراف إلى البيت أو المغزى حتى يظن العدو أنهم رجعوا فيغفلوا ويهنؤوا فيكروا عليهم من تلك الجهة، وذلك من خداعات الحرب، فافهم.
3842 -
[56](وعته) قوله: (للغازي أجره، وللجاعل أجره وأجر الغازي) الجاعل من يدفع جُعْلًا إلى غازٍ ليغزوَ، والجُعْل بالضم: ما يجعل للإنسان على عمله، وكذا الجَعِيلةُ والجُعَالة مثلثة، وغلب بالفتح على ما يجعل إذا غزا عنك، وجعل له كذا على كذا شارطه به عليه، فمن جعل شيئًا من ماله أحدًا ليغزو فللغازي أجز واحد وهو أجرُ غَزوِه، ولهذا الجاعل أجران، أحدهما أجر إنفاق ماله، والآخر أجر غزو ذلك الغازي لتسبّبه في ذلك، فيكون شريكًا في الثواب.
ثم اعلم أن بعض الشارحين حملوا هذا الحديث على الاستئجار كما هو الظاهر من لفظ الجعل، وقالوا: إنه قد اختلف في جواز أخذ الأجرة على الجهاد، فرخص فيه الزهري ومالك ونسبوه إلى الحنفية أيضًا على ما نقل الطيبي (1) لظاهر هذا الحديث،
(1)"شرح الطيبي"(7/ 301).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولم يجوِّزه قوم ومنهم الشافعي وقال: لا يجوز أن يغزو بجعل وأوجب ردَّه إن أخذَ، ومعنى الحديث عندهم أن يحمل الجاعل على المجهِّزِ للغازي والمعين له من غير استئجار وشرط.
وقال التُّورِبِشْتِي (1) -وهو من الحنفية-: لم يرد بالجاعل في هذا الحديث المستأجِرَ ولا بالمجعولِ له الأجيرَ، ولهذا ذكره بلفظ الجعل لا بلفظ الإجارة، وعبَّرَ عن المجعول له بالغازي لا بالأجير، وإنما أراد بالجاعل الذي يتبرَّع بشيء يعطيه من ماله لمن يستعين به على الجهاد وينفقه على نفسه وعياله، ثم ذكر أن للمجعول له أجرًا وهو أجر الغزو، وللجاعل أجرين: أجرًا على ما بذل من المال، وأجرًا على ما حرَّضَ وحثَّ عليه من القتال حتى شارك الغزاة، انتهى.
يعني أخذ الأجرة على الجهاد وإن كان جائزًا عند الحنفية فذلك إنما هو رخصة منهم في أصل الجواز وعدم وجوب الرد كما هو مذهب الشافعي، ولكن ليس فيه غزو وأجر، بل الظاهر أنه مع وجود الجواز يكون مكروها لأخذ الأجرة على الطاعة كما يفهم من عبارة (الهداية)(2) في كراهة أخذ الإمام الجُعلَ من الناس على الجهاد، ما دام [فيءٌ] في بيت المال بدليل حديث أبي أيوب الآتي الدالِّ على حصره في كونه أجيرًا، يعني: لا غازيًا ومجاهدًا، وحديث يعلى بن أمية الناطقِ بأنه لا أجرَ له في الدنيا وهو السهمُ، ولا في الآخرة وهو الثوابُ.
فعلى ما ذكروا ليس في حديث ابن عمر حجة للحنفية على جواز أخذ الأجرة
(1)"كتاب الميسر"(3/ 884).
(2)
انظر: "الهداية"(2/ 378).
3843 -
[57] وَعَنْ أَبِي أَيُّوبٍ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمُ الأَمْصَارُ، وَسَتَكُونُ جُنُود مُجَنَّدَةٌ، يُقْطَعُ عَلَيْكُمْ فِيهَا بُعُوثٌ،
ــ
على الجهاد، ويكون وجه تجويزهم أنه عقد صحيح بحسب ظاهر الحكم، غايته أنه لا يكون فيه أجر وثواب، وأما ثبوت السهم للأجير فحديث يعلى بن أمية ينفيه، واختلفوا في الأجير للعمل وحفظ الدواب مثلًا فقيل: لا سهمَ له قاتل أو لم يقاتل، إنما له أجرةُ عملِه، وهو مذهب بعض السلف وأحد قولي الشافعي، وعند مالك وأحمد رحمهما اللَّه يُسهَمُ له وإن لم يقاتل إذا كان مع الناس عند القتال، وقيل: يخير بين الأجرة والسهم، كذا نقل الطيبي (1).
وقال التُّورِبِشْتِي (2): وأما قول من ذهب من العلماء إلى أن الأجير يُسهَمُ له إذا حضر الواقعة، فإنه محمول على أن حديث يعلى بن أمية إما لم يثبت عندهم أو رآه مخصوصًا في الحكم بذلك الأجير لأنه قال ذلك في أجير بعينه، وأما حديث أبي أيوب فلا دليل فيه على أن الأجير لا سهمَ له، إنما فيه أنه لا ينال ثواب الغزاة لأنه عمل عملًا مدخولًا فيه، واللَّه أعلم.
3843 -
[57](أبو أيوب) قوله: (جنود مجندة) الجُنْدُ: العَسكَر والأعوان، ومجنَّدة، أي: مجموعة، يقال: قَناطِيرُ مقَنطَرة.
وقوله: (يقطع) أي: يُقدَرُ (عليكم)، وقطعُ الجيش: إفرازُه من بين الناس، و (فيها) أي: في الجنود (بعوث) أي: جيوش يُبعَثون إلى الغزو من كل قبيلة، وهذا البعث يحتمل أن يكون إلى الأمصار لفتحها أو إلى غيرها بعد فتحها.
(1)"شرح الطيبي"(7/ 301).
(2)
"كتاب الميسر"(3/ 884).
فَيَكْرَهُ الرَّجُلُ الْبَعْثَ فَيَتَخَلَّصُ مَنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ يتَصَفَّحُ الْقَبَائِلَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ مَنْ أَكْفِيهِ بَعْثَ كَذَا، أَلَا وَذَلِكَ الأَجِيرُ إِلَى آخِرِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ [د: 2525].
3844 -
[58] وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُميَّةَ قَالَ: آذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْغَزْوِ وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ لِي خَادِمٌ، فَالْتَمَسْتُ أَجِيرًا يَكْفِينِي، فَوَجَدْتُ رَجُلًا سَمَّيْتُ لَهُ ثَلَاثَةَ دَنانِيرَ،
ــ
وقوله: (فيكره الرجل) اللام للعهد الذهني (البعث) أي: بعثَ الإمامِ إياه أي: الخروجَ مع الجيش إلى الغزو بلا أجرة، (فيتخلص) أي: يخرجُ ويفرُّ من قومه طلبًا للخلاص من الغزو، (ثم يتصفح القبائل) أي: بعد أن فارق هذا الرجلُ المتقاعدُ عن الغزو لوجه اللَّه يتفحَّص ويتتبع القبائل عارضًا نفسه عليهم قائلًا: (من أكفيه بعث كذا) أي: مَن يُعطِيني ويشترطُ لي شيئًا من الأجرة ويأخذني أجيرًا أكفيه مؤنة جيش كذا كما يكفيني هو مؤنتي؟
وقوله: (ألا وذلك الأجير) ألا حرف تنبيه و (ذلك) إشارة إلى الرجل الذي يكره البعث لوجه اللَّه ويرغب فيه للأغراض الدنيوية، وذلك مبتدأ والأجير خبره وتعريف الخبر للحصر.
وقوله: (إلى آخر قطرة من دمه) أي: إلى القتل، يعني أنه وإن قُتِلَ فهو أجيرٌ ليس غازيًا، وفي هذه العبارة مبالغة في نفي ثواب الغزو عنه، أي: هو أجيرٌ ليس له إلا الجُعْلُ المشروط، وظاهره أنه لا سهمَ له، فهذا الحديث أيضًا يدل على نفي السهم له، نعم حديثُ يعلى بن أمية أصرحُ وأظهرُ في ذلك، فافهم.
3844 -
[58](يعلى بن أمية) قوله: (آذن) بالمد، أي: أعلَمَ.
فَلَمَّا حَضَرَتْ غَنِيمَةٌ أَرَدْتُ أَنْ أُجْرِيَ لَهُ سَهْمَهُ، فَجئْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ:"مَا أَجِدُ لَهُ فِي غَزْوَتِهِ هَذِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِلَّا دَنَانِيرَهُ الَّتِي تُسَمَّى". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. [د: 2527].
3845 -
[59] وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! رجلٌ يُرِيدُ الْجهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا أَجْرَ لَهُ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. [د: 2516].
3846 -
[60] وَعَنْ مُعَاذٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْغَزْوُ غَزْوَانِ، فَأَمَّا مَنِ ابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ، وَأَطَاعَ الإِمَامَ، وَأَنْفَقَ الْكَرِيمَةَ،
ــ
وقوله: (أن أجري له) بضم الهمزة.
وقوله: (إلا دنانيره التي تسمى) له، وهذا في الأجير للخدمة، وأما الأجير للغزو الذي دل عليه حديث ابن عمر فغيره، وهو صحيح عند الحنفية، ويكون له السهم، لكن الشارحين لم يذكروا مذهب الحنفية فيه، ولم نجده في (الهداية)، فتدبر.
3845 -
[59](معاذ) قوله: (عرضًا من عرض الدنيا) في (القاموس)(1): العَرْضُ: المَتاعُ، ويحرك، وكل شيء سوى النقدين، ونقل عن (المغرب) (2): العرض بفتحتين: حُطَام الدنيا، ويروى بالفتح والسكون.
3846 -
[60](معاذ بن جبل) قوله: (من ابتغى وجه اللَّه) أي: رضاه، (وأطاع الإمام) بأن أتى على وجه أمره، (وأنفق الكريمة) أي: المختارَ من ماله، فيكون التاء
(1)"القاموس المحيط"(ص: 595).
(2)
"المغرب"(ص: 175).
وَيَاسَرَ الشَّرِيكَ، وَاجْتَنَبَ الْفَسَادَ، فَإِنَّ نَوْمَهُ وَنبهَهُ أَجْز كُلُّهُ، وَأَمَّا مَنْ غَزَا فَخْرًا وَرِيَاءً، وَسُمْعَةً، وَعَصَى الإِمَامَ، وَأَفْسَدَ فِي الأَرْضِ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ بِالْكَفَافِ". رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. [ط: 2/ 466، د: 2515، ن: 4195].
3847 -
[61] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَخْبِرْنِي عَنِ الْجهَادِ فَقَالَ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو! إِنْ قَاتَلْتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا بَعَثَكَ اللَّهُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، وَإِنْ قَاتَلْتَ مُرَائِيًا مُكَاثِرًا بَعَثَكَ اللَّهُ مُرَائِيًا مُكَاثِرًا،
ــ
للنقل من الوصفية إلى الاسمية، أو نفسَه فيكون الموصوف محذوفًا، ويحتمل على الأول أيضًا أن يكون محذوف الموصوف، أي: أموالَه الكريمةَ النفيسةَ.
وقوله: (وياسر الشريك) من المياسرة بمعنى المساهلة والأخذ باليسر، أي: ساهَلَ الرفيقَ. (واجتنب الفساد) أي: التجاوز عن المشروع قتلًا ونهبًا وتخريبًا وخيانة.
وقوله: (ونبهه) صحح في بعض النسخ بفتح النون والباء، وفي بعضها بالفتح والسكون. وفي (القاموس) (1): النُّبه بالضم: الفِطنةُ، والقِيامُ من النَّوم.
وقوله: (أجر) أي: ذو أجر.
وقوله: (فإنه لم يرجع بالكفاف) أي: بالثواب، وقيل: لم يرجع من الغزو رأسًا برأس بحيث لا يكون له أجر ولا يكون له وزر أكثر من أجره.
3847 -
[61](عبد اللَّه بن عمرو) قوله: (محتسبًا) أي: ناويًا للثواب.
وقوله: (مكاثرًا) أي: مُفاخِرًا، والتكاثُر: التَّبارِي في الكثرة في الأنفس والأموال،
(1)"القاموس المحيط"(ص: 1154).