الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخرى، فإنَّ الحقوق قد تتعلَّق بالله، وقد تتعلَّق بنفس العبد، وقد تتعلَّق بغيره من العباد، فأرشدهم بهذه الأمور إلى القيام بحقِّ الله وبحق النفس وبحقِّ الإخوان، فالإيمان من حقوق الله، وترك الانتباذ من حقوق النَّفس؛ فإنَّ الإنسان إذا انتبذ شرب فسكر فزال حكم عقله فصار كالبهائم الَّتي لا تعقل، وحقُّ الإخوان بإعطاء ما يستحقُّونه. انتهى.
(3)
(بَابُ البَيْعَةِ عَلَى إِقامَةِ الصَّلَاةِ)
أي هذا باب في بيان البيعة على إقامة الصَّلاة.
وقوله: (إِقَامَةِ الصَّلَاةِ) بالتَّاء رواية كريمة، وفي روايةٍ غيرها: <بابُ البيعةِ على إقامِ الصَّلاةِ>، بدون التَّاء وهو الأصل.
والبيعة: المبايعة على الإسلام، وقال ابن الأثير: البيعة عبارة عن المعاقدة على الإسلام والمعاهدة، كأنَّ كلَّ واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة أمره.
قال شيخنا: وكان صلى الله عليه وسلم أوَّل ما يشترط بعد التوحيد إقامة الصلاة؛ لأنَّها رأس العبادات البدنية، ثمَّ أداء الزكاة؛ لأنَّها رأس العبادات المالية، ثمَّ يُعلِّم كلَّ قوم ما حاجتهم إليه أمسُّ، فبايع جريرًا على النصيحة؛ لأنَّه كان سيَّد قومه، فأرشده إلى تعليمهم بأمره بالنصيحة لهم، وبايع وفدَ عبد القيس على أداء الخُمُس؛ لكونهم كانوا أهلَّ محاربة مع من يليهم من كفَّار مُضر. انتهى.
524 -
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى) أي بفتح النُّون المشدَّدة.
قوله: (قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى) أي القطَّان.
قوله: (قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيْلُ) أي ابن خالد.
قوله: (قَيْسٌ) أي ابن أبي حازم -بالحاء المهملة والزاي-
(1)
.
قوله: (عَنْ جَرِيْرِ بنِ عَبدِ اللهِ قالَ: بَايَعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَام ِالصَّلَاةِ، وَإِيْتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ).
مطابقته للترجمة ظاهرة، والحديث يشمل ثلاثة أشياء، والترجمة على الجزء الأوَّل منها.
وهذا الحديث بعينه مع هذا الإسناد غير محمَّد بن المثنَّى قد مضى في باب قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ((الدَّيْنُ النَّصِيْحَةُ للهِ وَلِرَسُوْلِهِ)) في آخر كتاب الإيمان، ورواه هناك عن مُسَدَّد عن يحيى، وقد ذكرنا ثمَّ ما يتعلَّق بلطائف الإسناد ومعنى الحديث وغير ذلك مُستوفىً مستقصىً.
(4)
(بَابٌ الصَّلاة كَفَّارَةٌ)
أي هذا باب يذكر فيه الصَّلاة كفارةٌ، هكذا الصَّلاة كفارة في أكثر الرِّوايات، وفي رواية المُسْتَمْلي: باب تكفير الصَّلاة.
قال العَيني: الكفَّارة عبارة عن الفِعلة والخصلة الَّتي من شأنها أن تكفِّر الخطيئة، أي تسترها وتمحوها، وهي على وزن فَعَّالة بالتشديد للمبالغة كقتّالة وضرّابة، وهي من الصفات الغالبة في باب الاسميَّة، واشتقاقها من الكَفر -بالفتح- وهو تغطية الشَّيء بالاستهلاك، والتكفير مصدر من كفَّر بالتشديد.
525 -
قوله: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ) أي ابن مُسَرْهَد.
قوله: (قَالَ حَدَّثَنَا يَحيَى) أي القطَّان.
قوله: (عَنِ الأَعْمَشِ) أي سُلَيمان.
قوله: (قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيْقٌ) أي ابن سلمة الأسدي أبو وائل الكوفي.
قوله: (قَالَ: حَدَّثَنِي حُذَيْفَةُ) أي ابن اليمان رضي الله عنه.
في هذا الإسناد التَّحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة الإفراد في الموضعين، وفيه العنعنة في موضع واحد، وفيه: <حَدَّثَنِي حُذَيْفَةُ> رواية المُسْتَمْلي، وفي رواية غيره: <سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ>، وفيه
(1)
في المخطوط: (والراء) ولعل الصَّواب ما أثبت.
بصريان، وهما مُسَدَّد ويحيى، وكوفيان الأَعْمَش وشَقيق.
قوله: (قَالَ: كُنَّا جُلُوْسًا عِنْدَ عُمَر رضي الله عنه فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: أَنَا أَحْفَظُهُ كَمَا قَالَهُ، قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ أَو عَلَيْهَا لَجَرِيءٌ! قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُها الصَّلاة وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ. قَالَ: لَيْسَ هَذَا أُرِيْدُ، وَلَكِنِ الفَتْنَةُ الَّتي تَمُوْجُ كَمَا يَمُوْجُ البَحْرُ. قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ بَأْسٌ مِنْهَا يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ؛ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَينَهَا لَبَابًا مُغْلَقًا، قالَ: أَيُكَسَرُ أَمْ يُفتَحُ؟ قالَ: يُكْسَرُ. قَالَ: إِذًا لا يُغلَقُ أَبَدًا. قُلْنَا: أَكَانَ عُمَر يَعْلَمُ البَابَ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَمَا أَنَّ دُوْنَ الغَدِ اللَّيْلَةَ، إِنِّي حَدَّثتُهُ بِحَدِيثٍ لَيْسَ بِالأَغَالِيْطِ، فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ، فَأَمَرْنَا مَسْرُوْقًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ: البَابُ عُمَر رضي الله عنه.
مطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله: (تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ).
هذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في الزكاة عن قُتَيْبَة عن جرير، وفي علامات النبوَّة عن عُمَر بن حفص، قاله المزِّي في «الأطراف». قال العَيني: وهو وهم، وإنما أخرجه عن عُمَر بن حَفْص في الفتن، وفي الصَّوم عن علي بن عبد الله، وأخرجه مسلم في الفتن عن ابن نُمَير وأبي بكر كلاهما عن أبي معاوية، قاله المزِّي. قال العَيني: وهو وهم، إنَّما رواه مسلم من طريق أبي معاوية عن ابن نُمَير وأبي كُرَيب ومحمَّد بن المثنَّى ثلاثتهم عن أبي معاوية، فوهم في ذكره لأبي بكر وفي إسقاطه لابن المثنَّى، وأخرجه التِّرْمِذي في الفتن أيضًا عن محمود بن غيلان، وأخرجه ابن ماجَهْ فيه أيضًا عن ابن نُمَير عن أبيه وأبي معاوية كلاهما عن الأَعْمَش به.
قوله: (جُلُوْسًا) أي جالسين.
قوله: (فِي الفِتْنَةِ) وهي الخِبْرَة والإعجاب بالشيء، فَتَنَه يَفْتِنَه فَتْنًا وفُتُونًا وأَفْتَنَه. قال العَيني: وأباها الأصمعي، وقال سيبويه: فتنه جعل فيه فتنة، وأفتنه أوصل الفتنة إليه، قال: إذا قال: أفتنته فقد تعرَّض لفتن، وإذا قال: فتنه فلم يتعرَّض لفتن، وحكى أبو زيد: أُفتِن الرجلُ بصيغة ما لم يسمَّ فاعله، أي فُتِنَ.
والفتنة: الضلال والإثم، وفَتَنَ الرجلَ: أماله عما كان عليه، قال تعالى:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 73]، والفتنة: الكفر، قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حتَّى لَا تَكُوْنَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]، والفتنة: الفضيحة، والفتنة: العذاب، والفتنة: ما يقع بين النَّاس من القتال، ذكره ابن سِيدَه، والفتنة: البليَّة، وأصل ذلك كلُّه من الاختبار، وإنَّه مِنْ فتنت الذهب في النَّار إذا اختبرته، وفي الغريبين: الفتنة الغلو في التأويل المظلم، وقال ابن طريف: فتنته وأفتنته، وفتِن بكسر التَّاء فتونًا: تحول من حسن إلى قبيح، وفتن إلى النِّساء وفتن فيهنَّ: أراد الفجور بهنَّ، وفي «الجمهرة» : فتنت الرجل أفتنه وأفتَنْتُه إفتانًا. وفي «الصِّحاح» قال الفرَّاء: أهل الحجاز يقولون: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِيْنَ} [الصافات: 163]، وأهل نجد يقولون:(بِمُفْتِنِيْنَ).
وقال عياض: إنَّها الابتلاء والامتحان، قال: وقد صار في عرف الكلام لكلِّ أمر كشفه الاختبار عن سوء، وتكون في الخير والشرِّ، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ [فِتْنَة]
(1)
} [الأنبياء: 35].
قوله: (أَنَا [أَحْفَظُهُ]
(2)
كَمَا قَالَهُ) أي أنا أحفظه كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قلت:
(1)
فتنة: ليست في الأصل.
(2)
أحفظه: ليس في الأصل.
قوله: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) أي ابن سعيد.
الكاف لماذا وهو حافظ لنفس قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كمثله؟ قال العَيني: يجوز أن تكون الكاف ههنا للتعليل؛ لأنَّها اقترنت بكلمة ما المصدريَّة، أي أحفظ لأجل حفظ كلامه، ويجوز أن تكون للاستعلاء، بمعنى: أحفظ على ما عليه قوله. وقال الكِرْماني: لعله نقله بالمعنى، فاللفظ مثل لفظه في أداء ذلك المعنى. قال العَيني: حاصل كلامه يؤول إلى معنى المثليَّة، وهو في سؤاله نفى المثلية، فانتفى بذلك أن تكون الكاف للتشبيه. وقال شيخنا: الكاف زائدة للتأكيد، أو هي بمعنى على، وتحتمل أن يُراد بها المثليَّة، أي أقوله مثل ما قاله.
قال العَيني: قوله: الكاف زائدة، أخذه من الكِرْماني، ولم يبين واحد منهما أنَّ الكاف إذا كانت زائدة ما تكون فائدته. انتهى. قلت: قد بين شيخنا الفائدة بقوله: للتأكيد، فلعل العَيني رأى النُّسخة الَّتي لم يبين شيخنا فيها الفائدة، وإنَّما ترك الكِرْماني ذلك وشيخنا أولًا لوضوحه. انتهى.
فإن قلت: لفظ أنا مفرد، وهو مقول قوله: قلت، وقد علم أنَّ مفعول القول يكون جملة. قال العَيني: أنا مبتدأ، وخبره محذوف تقديره: أنا أحفظ أو أضبط أو نحوهما.
قوله: (عَلَيْهِ) أي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (أَوْ عَلَيْهَا) أي أو على مقالته، والشك من حذيفة، قاله الكِرْماني. قال العَيني: يجوز أن يكون ممن دونه. وقال شيخنا: (عَلَيْهِ) أي على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أو (عَلَيْهَا) أي المقالة، والشك من أحد رواته.
قوله: (وَالأَمْرُ) أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما صرَّح به البخاري في الزكاة.
قوله: (لَجَرِيْءٌ) خبر إنَّ من قوله: (إِنَّكَ) واللَّام فيه للتأكيد، والجريء على وزن فعيل من الجُرأة، وهي الإقدام على الشَّيء.
قوله: (فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ) قال ابن بطَّال: أن يأتيَ من أجلِّهم ما لا يحلُّ له من القول والعمل مما لم يبلغ كبيرة. وقال المُهَلَّب: يريد ما يعرض له معهنَّ من شرٍّ أو حزن وشبهه.
قوله: (وَمَالِهِ) فتنة الرجل في ماله: أن يأخذه من غير مأخذه، ويصرفه في غير مصرفه، أو يفرط بما يلزمه من حقوق المال فتكثر عليه المحاسبة.
قوله: (وَوَلَدِهِ) فتنة الرجل في ولده: فرط محبَّتهم وشغله بهم عن كثير من الخير، أو التوغُّل في الاكتساب لأجلِّهم من غير اكتراث من أن يكون من حلال أو حرام.
قوله: (وَجَارِهِ) فتنة الرجل في جاره: أن يتمنَّى أن يكون حاله مثل حاله إن كان مُتَّسِعًا، قال تعالى:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20].
قوله: (تُكُفِّرُهَا الصَّلَاةُ) أي يكفِّر فتنة الرجل في أهلِّه وماله وولده وجاره أداءُ الصَّلاة، قال تعالى:{إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] يعني الصَّلاة الخمس إذا اجتنبت الكبائر، هذا قول أكثر المفسِّرين، وقال مجاهد: هي قول العبد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلَّا الله، والله أكبر.
وقال ابن عبد البرِّ: قال بعض المنتسبين إلى العلم من أهلِّ عصرنا: إنَّ الكبائر والصغائر تكفِّرها الصَّلوات والطَّهارة، استدلَّ بظاهر هذا الحديث، وبحديث الصُّنَابِحي:((إذا توضَّأَ خرجَتِ الخطايا مِنْ فيهِ)) الحديث وغيره. قال العَيني: قال أبو عُمَر:
هذا جهل وموافقة للمرجئة، وكيف يجوز أن تحمل هذه الآثار على عمومها وهو يسمع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا
إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] في آي كثير؟! فلو كانت الطهارة والصَّلوات وأعمال البرِّ مكفِّرة لما احتاج إلى التَّوبة، وكذلك الكلام في الصَّوم والصدقة والأمر والنَّهي، فإن المعنى: إنَّها تكفِّر إذا اجتنبت الكبائر.
قوله: (وَالأَمْرُ) أي الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر كما صرَّح به في الزكاة، وتقدَّم هذا عن قريب، فإن قلت: ما النُّكتة في تعيين هذه الأشياء الخمسة؟ قال العَيني: الحقوق لما كانت في الأبدان والأموال والأقوال فذكر من أفعال الأبدان أعلاها وهو الصَّلاة والصَّوم، قال الله تعالى:{وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، وذكر من حقوق الأموال أعلاها وهي الصَّدقة، ومن الأقوال أعلاها وهي الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.
قوله: (تَمُوْجُ) من ماج البحر، أي تضطرب ويدفع بعضها بعضًا لعظمها، وكلمة ما في (كَمَا تَمُوْجُ) مصدريَّة، أي كموج البحر، وهو تشبيه بليغ.
قوله: (قَالَ) أي قال حُذَيفة.
قوله: (بَأْسَ) أي شِدَّة.
قوله: (لَبَابًا) ويروى: ((بَابًا)) بدون اللَّام.
قوله: (مُغْلَقًا) صفة الباب، قال ثعلب في «الفصيح» : أغلقت الباب فهو مغلق، وقال ابن دُرُسْتويه: العامَّة تقول: غلَّقت بغير ألف وهو خطأ، وذكره أبو علي الدِّيْنَوَرِيُّ في باب ما يحذف منه العامَّة الألف، وقال ابن سيده في «العَويص» والجوهري في «الصَّحاح» : غَلَقت، قال الجَوهَري: وهي لغة متروكة رديئة. وقال ابن هشام في شرحه: الأفصح غلَّقت بالتشديد، قال الله تعالى:{وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} [يوسف: 23]، قال العَيني: وفيه؛ لأنَّ غلَّقت مشدَّدة للتكثير، قاله الجَوهَري وغيره، وفي «المحكم» : غلق الباب وأغلقه وغلَّقه، الأولى من ابن دُرَيد عزاها إلى أبي زيد وهي نادرة.
والمقصود من هذا الكلام: أنَّ تلك الفتن لا يخرج منها شيء في حياتك.
قوله: (قَالَ: أَيُكْسَرُ) أي قال عُمَر رضي الله عنه: أيكسر هذا الباب أم يفتح؟
قوله: (قَالَ: يُكْسَرُ) أي قال حُذَيفة: يكسر.
قوله: (قَالَ: إِذًا لَا يُغْلَقُ أَبَدًا) أي قال عُمَر رضي الله عنه: إذن لا يُغلق أبدًا هذا الباب، وإذن هو جواب وجزاء، أي إن انكسر لا يغلق أبدًا؛ لأنَّ المكسور لا يعاد بخلاف المفتوح، والكسر لا يكون غالبًا إلَّا عن إكراه وغلبة وخلاف عادةٍ.
ولفظ: (لَا يُغْلَقُ) رُوي مرفوعًا ومنصوبًا، وجه الرَّفع أن يقال: إنَّه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: الباب إذًا لا يُغلق، ووجه النَّصب: ألَّا يقدر ذلك، فلا يكون ما بعده معتمدًا على ما قبله، والحاصل: إنَّه فعل مستقبل منصوب بإذًا، وإذا عملَ النَّصب في الفعل المستقبل لعدم ثلاثة أشياء، وهي: أن يعتمد ما قبلها على ما بعدها، وأن يكون الفعل فعل حال، وألَّا يكون معها واو العطف، وهذه الثلاثة معدومة في النَّصب.
قوله: (قُلْنَا) هو مقول شَقيق.
قوله: (كَمَا أَنَّ دُوْنَ الغَدِ اللَّيْلَةَ) أي كما يعلم أنَّ الغد أبعدُ فينا من اللَّيلة، يقال: هو دون ذاك، أي أقرب منه.
قوله: (إِنِّي حَدَّثْتُهُ) مقول حُذَيفة.
قوله: (لَيْسَ بِالأَغَالِيْطِ) جمع أغلوطة، وهي: ما يغالط بها، قال النَّوَوي: معناه: حدَّثته حديثًا صدقًا محقَّقًا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من اجتهاده، أي ونحوه، وغرضه: أنَّ ذلك الباب رجل يقتل أو يموت كما جاء في بعض الروايات، قال: ويحتمل أن يكون حُذَيفة
علم أنَّ عُمَر يقتل ولكنَّه كره أن يخاطب عُمَر بالقتل؛ فإن عُمَر كان يعلم إنَّه هو الباب، فأتى بعبارة يحصل منها الغرض ولا تكون إخبارًا صريحًا بقتله، قال: والحاصل: أنَّ الحائل بين الفتنة والإسلام عُمَر رضي الله عنه وهو الباب، فما دام حيًا لا تدخل الفتن فيه، فإذا مات دخلت، وكذا كان قوله:(فَهِبْنَا) أي خفنا، مِن هاب، وهو مقول شَقيق أيضًا.
قوله: (مَسْرُوقًا) هو مَسْروق بن الأجدع، وقد تقدَّم ذكره، قلت: ترجمته في باب علامات المنافق. انتهى.
فقوله: (فَقَالَ: البَابُ عُمَرُ) أي قال مَسْروق: الباب هو عمر، فإن قلت: قال أوَّلًا: (إِنَّ بَينَكَ وَبيَنَها بَابًا) فالباب يكون بين عُمَر وبين الفتنة، وهنا يقول:(البَابُ عُمَرُ) وبين الكلامين مغايرة. قال العَيني: لا تغاير بينهما؛ لأن المراد بقوله: (بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا) أي بين زمانك وبين زمان الفتنة وجود حياتك. وقال الكِرْماني: أو المراد بين نفسك وبين الفتنة بدنُك؛ إذ الرُّوح غير البدن، أو بين الإسلام والفتنة.
وقال أيضًا: فإن قلت: من أين علم حُذَيفة أنَّ الباب عُمَر، وهل علم من هذا السِّياق إنَّه مسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كلُّ ما ذكر في هذا الموضع لم يسند منه شيء إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟
قلت: الكلُّ ظاهر مسند إليه عليه السلام بقرينة السُّؤال والجواب، ولأنَّه قال:(حدَّثته بحديث)، ولفظ الحديث المطلق لا يستعمل إلَّا في حديثه عليه الصلاة والسلام.
فإن قلت: كيف سأل عُمَر رضي الله عنه عن الفتنة الَّتي تأتي بعده خوفًا أن يدركها مع علمه بأنَّه هو الباب؟ قال العَيني: من شدَّة خوفه خشي أن يكون نسي فسأل مَنْ يذكره.
526 -
قوله: (قَالَ حَدَّثَنَا يَزيْدُ بنُ زُرَيْعٍ) أي من الزيادة، وزُرَيع -بضمِّ الزاي وفتح الرَّاء وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره عين مهملة-.
قوله: (عَنْ سُلَيمان التَّيْمِيِّ) أي ابن طَرْخان أبو المُعتَمِر، وقد مرَّ في باب من خصَّ بالعلم.
قوله: (عَنْ أَبِي عُثْمان النَّهْدِيِّ) أي عبد الرحمن بن مِلَّ بكسر الميم وضمِّها وتشديد اللام، النَّهْدي بفتح النُّون وسكون الهاء وكسر الدَّال المهملة نسبةً إلى نهد بن زيد بن ليث بن أسلم -بضمِّ اللَّام- ابن الحاف بن قُضاعة، أسلم على عهد رسول صلى الله عليه وسلم ولم يلقَه، ولكنَّه أدَّى إليه الصَّدقات، عاش نحوًا من مائة وثلاثين سنة، ومات سنة خمس وتسعين، وإنَّه كان يصلِّي حتَّى يُغشى عليه.
فإن قلت: ورد النَّهي عن ذلك بقوله: (اكلَفُوا مِنَ العَمَلِ ما تُطِيقونَ) فما هذا؟ قلت: الجواب إنَّه كان مطيقًا، وإنَّما هذا حال يطرقه فيُغشى عليه، فليس من باب ما لا يطاق من العمل. انتهى.
قوله: (عَنِ ابنِ مَسْعُوْدٍ) أي عبد الله رضي الله عنه.
في هذا الإسناد التَّحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في ثلاث مواضع، وفيه رواية التَّابعي عن التَّابعي عن الصَّحابي، وفيه أنَّ رواته بصريُّون ما خلا قَتَيْبَة.
قوله: (أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، فَأَنزَلَ اللهُ تَعالى:{أَقِمِ الصَّلاة طَرَفَيِ النَّهار وَزُلَفًا مِنَ اللَّيل إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات} [هود: 114]،
فَقالَ الرَّجُلُ: يَا رَسولَ اللهِ، أَلِي هَذَا؟ قَالَ: لجَمِيْعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ).
مطابقته للترجمة في قوله: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، لأنَّ المراد من الحسنات الصَّلوات الخمس، فإذا أقامها تكفِّر عن الذُّنوب إذا اجْتُنِبَتِ الكبائر كما ذكرنا.
هذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في التفسير عن مُسَدَّد عن يزيد بن زرع
(1)
، وأخرجه مسلم في التَّوبة عن قُتَيْبَة وابن كامل كلاهما عن يزيد بن زُرَيع، وعن محمَّد بن عبد الأعلى عن مُعتَمِر بن سُلَيمان، وعن عُثْمان بن جرير، وأخرجه التِّرْمِذي في التفسير عن محمَّد بن بشَّار عن يحيى، وأخرجه النَّسائي فيه عن قُتَيْبَة وابن أبي عَدِي، وعن إسماعيل بن مسعود عن يزيد بن زُرَيع، وأخرجه ابن ماجَهْ في الصَّلاة عن سُلَيمان بن وكيع، وفي الزهد عن إِسْحاق بن إبراهيم عن مُعتَمِر بن سُلَيمان.
قوله: (أَنَّ رَجُلًا) هو أبو اليسر -بفتح التحتانية والسِّين المهملة- وقد صرَّح به التِّرْمِذي في روايته: حدَّثنا عبد الله بن عبد الرحمن قال: أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا قيس بن الرَّبيع عن عُثْمان بن عبد الله بن موهب عن موسى بن طلحة عن أبي اليسر قال: ((أتتني امرأةٌ تبتاعُ تمرًا، فقلتُ: إنَّ في البيتِ تمرًا أطيبَ منه، فدخلَت معي في البيتِ فأهويت إليها فقبَّلتها، فأتيتُ أبا بكرِ رضي الله عنه فذكرْت ذلكَ له فقالَ: استرْ وتبْ، فأتيت عُمَر رضي الله عنه فذكرتُ ذلكَ له فقالَ: استرْ على نفسِك وتبْ ولا تخبرْ أحدًا، فلم أصبرْ، [فأتيتُ]
(2)
رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فذكرتُ ذلكَ له فقالَ: أخلفت غازيًا في سبيلِ اللهِ في أهلهِ بمثل هذا؟! حتَّى تمنَّى إنَّه لم يكن أسلَّم إلَّا تلك الساعة، حتَّى ظنَّ إنَّه منْ أهلِ النَّار، قال: فأطرقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم طويلًا حتَّى أوحى الله إليه: {وَأَقِمِ الصَّلاة طَرَفَي النَّهار وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] إلى قوله: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِيْنَ} [هود: 114]، قال أبو اليسر: فأتيته فقرأها عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ أصحابُه: يا رسولَ الله، ألهذا خاصَّة أم للنَّاسِ عامَّة؟ قالَ: بل للنَّاس عامَّة)).
ثمَّ قال: هذا حديث حسن غريب، وقيس بن الرَّبيع ضعّفه وكيع وغيره، وقال الذَّهَبي: أبو اليسر كعب بن عُمَر السُّلَمي بدريٌّ. انتهى.
واعلم إنَّه وَقَعَ خلاف في كون الرجل في الحديث المذكور أبا اليسر على ستَّة أقوال:
أحدها: هذا، وهو الأصحُّ.
الثاني: إنَّه عُمَر بن غزيَّة بن عَمْرو الأنصاري أبو حبَّة بالباء الموحَّدة التَّمَّار، رواه عن ابن عبَّاس:((جاءتِ امرأة إلى عَمْرو بن غزيَّة تبتاع تمرًا، فقالَ: إنَّ في بيتِي تمرًا فانطلقِي أبيعَكِ منهُ، فلما دخلتِ البيتَ بطشَ بها فصنعَ بها كلَّ شيءٍ إلَّا أنَّه لم يقعْ عليها، فلما ذهبَ عنه الشَّيطان ندمَ على ما صنعَ، وأتى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يا رسولَ اللهِ، تناولتِ امرأة فصنعتُ بها كلَّ شيءٍ يصنعُ الرجلُ بامرأتِهِ إلَّا أني لم أقعْ عليها، فقالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ما أدري. ولم يردَّ عليه شيئًا، فبينما همْ كذلك إذ حضرتِ الصَّلاة فصلَّوا، فنزلت: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [هود: 114])).
الثالث: إنَّه ابن مُعَتِّب رجل من الأنصار، ذكره ابن أبي خَيثَمَة في «تاريخه» من حديث إبراهيم النَّخَعي، قال:((أتى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ منَ الأنصارِ يقالُ لهُ: ابنُ مُعَتِّب)) فذكر الحديث.
الرابع:
(1)
كذا في الأصل، ولعل الصَّواب (زريع).
(2)
فأتيت: ليست في الأصل، أثبتت لاستقامة السياق، وهي مثبتة في (عمدة القاري).