الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هُشَيم في روايته: ((حتى نعس بعض القوم)).
قال شيخنا: ويدخل في هذا الباب ما سيأتي في الإمامة من طريق زائدة عن حميد قال: حدثنا أنس قال: ((أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه))، زاد ابن حِبَّان:((قبل أن يُكبِّرَ فقال: أقيموا صفوفكم وتراصُّوا)) لكن لما كان هذا يتعلق بمصلحة الصلاة كان الاستدلال بالأول أظهر في جواز الكلام مطلقًا والله أعلم. انتهى.
قال التيمي: هذا رد على من قال: إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة، وجب على الإمام تكبير الإحرام.
وفيه: دليل أنَّ اتصال الإقامة بالصلاة ليس من وكيد السنن، وإنما هو مستحبها. قاله العيني.
قال شيخنا: اشتمل كتاب الأذان وما معه من الأحاديث المرفوعة على سبعة وأربعين حديثًا، المعلق منها ستة أحاديث، المكرر فيه وفيما مضى ثلاثة وعشرون، والخالص أربعة وعشرون، وافقه مسلم على تخريجها سوى أربعة أحاديث: حديثِ أبي سعيد: ((لا يسمع مدى صوت المؤذن))، وحديثِ معاوية وجابر في القول عند سماع الأذان، وحديثِ بلال في جعل إصبعيه في أذنيه. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ثمانية آثار والله أعلم. انتهى.
(29) بسم الله الرحمن الرحيم
أَبْوَابُ الجَمَاعَةِ وَالإِمَامَةِ
قال شيخنا: ولم يفرِده البخاري بكتابٍ فيما رأيت من نسخِ كتابه بل أَتْبَع به كتاب الأذان لتعلقه به، لكن ترجم عليه أبو نعيم في «المستخرج» : كتابُ صلاة الجماعة. وكأنها روايةُ شيخه أبي أحمد الجرجاني
قوله:
(بَابُ وُجُوبِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ)
أي هذا بابٌ في بيان وجوب صلاة الجماعة.
قال شيخنا: هكذا بَتَّ الحكم في هذه المسألة، وكأنَّ ذلك لقوة دليلها عنده، لكن أطلق الوجوب وهو أعم من كونه وجوب عين أو كفاية، إلا أن الأثر الذي ذكره عن الحسن يُشعِر بكونه يريد أنه وجوبُ عين، لِمَا عُرِف من عادته أنه يستعمل الآثار في التراجم لتوضيحها وتكميلها وتعيين أحد المحتملات في حديث الباب، وبهذا يُجاب مَن اعترَض عليه بأن قول الحسن يُستدلُّ له لا به.
قال العيني: لا يقال: هذه القسمة إلا في الفرض، فيقال: فرض عين وفرض كفاية، اللهم إلا أن يكون عند من لم يفرق بين الواجب والفرض، ومن أين علم أن البخاري أراد وجوب العين؟ ومن أين يدل عليه أثر الحسن؟ وكيف يجوز الاستدلال على وجوب العين بالأثر المروي عن التابعي وهذا محل نظر.
قوله: (وَقَالَ الحَسَنُ) أي البصري، ترجمته في باب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا.
قوله: (إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنِ العِشَاءِ فِي الجَمَاعَةِ شَفَقَةً لَمْ يُطِعْهَا) يعني: إن منعت الرجلَ أمُّه عن الحضور إلى صلاة العشاء مع الجماعة، شفقةً عليه أي لأجل الشفقة لم يطع أمه فيه، فهذا يدل على أن الصلاة بالجماعة فرض عندَه، ولهذا قال: لم يطع أمه، مع أن طاعة الوالدين فرض في غير المعصية، وإنما عيَّن العشاء، مع أن الحكم في كل الصلوات سواء لكونها من أثقل الصلاة على المنافقين. فإن قلتَ: الفجر كذلك. يقال: ذِكرُ أحدهما
يغني عن الآخر.
وإنما عين الأمَّ مع أن الأب كذلك في وجوبِ طاعتهما، لأن الأم أكثرُ شفقةً من الأب على الأولاد.
قال العيني: ولم يذكر صاحب «التلويح» - أي مغلطاي - ولا صاحب «التوضيح» - أي ابنُ الملقن - وصْلَ هذا الأثر مع كثرة تتبُّعِ صاحب «التلويح» لمثل هذا واتساعِ اطلاعه في هذا الباب.
قال شيخنا: ولم ينبه أحدٌ من الشراح على مَن وصَل أثر الحسن، وقد وجدتُه بمعناه وأتم منه وأصرح في كتاب «الصيام» للحسين بن الحسن المروزي بإسنادٍ صحيح عن الحسن: في رجلٍ يصوم - يعني تطوعًا - فتأمُرُه أمه أن يفطر؟ قال: فلْيفطر ولا قضاء عليه، وله أجر الصوم وأجر البِرِّ. قيل: فتنهاهُ أن يصليَ العِشاء في جماعة. قال: ليس ذاك لها، هذه فريضة.
644 -
قوله: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ) أي التنيسي.
قوله: (قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) أي الإمام، ترجمتهما في بدء الوحي.
قوله: (عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) أي بالزاي والنون، عبدُ الله بن ذكوان، ترجمته في باب حب الرسول من الإيمان.
قوله: (عَنِ الأَعْرَجِ) أي عبد الرحمن بن هرمز، ترجمته في الباب أيضًا.
قوله: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) أي عبد الرحمن بن صخر، ترجمته في باب أمور الإيمان.
في هذا الإسناد: التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضع. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: اثنان لم يُذكَرَا باسمهما، فأحدهما ذُكِر بالكُنية، والآخرُ باللقب. وفيه:(عَنِ الأَعْرَجِ)، وفي رواية السراج من طريق شعيب عن أبي الزناد: سمع الأعرج. وفيه: أن رواتَه كلُّهم مدنيُّون ما خلا شيخ البخاري.
قوله: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ، فَيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ، فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا لِيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ، أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا، أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ، لَشَهِدَ العِشَاءَ)
مطابقته للترجمة من حيث أنه يدل على وجوب الصلاة بالجماعة لما فيه من وعيد شديد يدل على أن تاركها يدخل فيه. وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في الأحكام عن إسماعيل، وأخرجه النَّسائي في الصلاة أيضًا عن قتيبة عن مالك.
وقد رُوِي هذا الحديث بألفاظٍ مختلفة: فعند البخاري في باب فضل صلاة العشاء في الجماعة: ((ليس صلاةٌ أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء)) الحديث. وفي لفظ له: ((ولقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم))، وفيه:((ثم آخذ شُعَلًا من نار فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة بغير عذر)). وفي لفظ: ((ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم)).
وعند أحمد بن حنبل رحمه الله: ((لولا ما في البيوت من النساء والذرية: أقمتُ صلاةَ العشاء وأمرتُ فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار)). وعند أبي داود: ((ثم آتي قومًا يصلون في بيوتهم ليست بهم عِلَّةٌ فأحرقها عليهم)).
وفي «مسند» السراج: ((آمر فتيتي إذا سمعوا الإقامة مَن تخلَّف أن يحرقوا عليهم، لو يعلمون ما فيهما لأتوهُما ولَوْ حَبْوًا)). وفي لفظ آخر: أخَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء حتى تهوَّر الليل وذهب ثلُثُه أو نحوُه، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس عِزُون وإذا هم
قليل، فغضبَ غضبًا شديدًا، لا أعلم أنِّي رأيُته غضب غضبا أشد منه، ثم قال:((لقد هممت أن آمر رجلًا يصلي بالناس ثم أتَتَبَّع هذه الدور التي تخلف أهلوها عن هذه الصلاة فأضرمها عليهم بالنيران)).
وفي «كتاب» الطوسي مصحَّحًا: ((ثم آتي قومًا يتَخلَّفون عن هذه الصلاة فأحرق عليهم)) - يعني: صلاة العشاء -. وفي «مسند» عبد الله بن وهب: حدثنا ابن أبي ذئب حدثنا عجلان عنه: ((لينتهِيَنَّ رجالٌ مِن حول المسجد لا يشهدون العشاء أو لَأُحرِّقَنَّ بيوتهم)). وفي كتاب «الثواب» لحميد بن زنجويه: ((آمر رجالا في أيديهم حُزَمُ حطبٍ لا يؤتى رجلٌ في بيته سمع الأذان إلا أُضرِم عليه بيتُه)).
وفي «الأوسط» للطبراني: ((آمر رجالا إذا أقيمت الصلاة أن يتخلفوا دونَ من لا يشهد الصلاة فيُضرِموا عليهم بيوتهم))، قال:((ولو أنَّ رجلًا آذَنَ الناس إلى طعامٍ لأتَوه، والصلاةُ ينادَى بها فلا يأتوها)). وفي «معجمه الصغير» : ((ثم أنظر فمن لم يشهد المسجد فأحرق عليه بيته)). وفي كتاب «الترغيب والترهيب» لأبي موسى المديني الأصبهاني: خرج بعدما تهوَّر الليلُ وذهب ثلثه ثم قال: ((لو أن رجلًا نادَى الناسَ إلى عَرْقٍ أو مِرْمَاتَين أتوه لذلك، وهم يتخلفون عن هذه الصلاة)). وعند الدارقطني في «مسنده» : ((لو كان عَرْقًا سمينا أو مِغرَفتين لشهدوها)).
وفي «مصنف» عبد الرزاق - بسند صحيح -: ((لقد هممتُ أن آمر فتياني أن يجمعوا إليَّ حُزمًا من حطب ثم أنطلق فأحرق على قوم بيوتهم لا يشهدون الجمعة))، رواه عن جعفر عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة. ولِمَا رواه البيهقي من طريق أحمد بن منصور الرمادي عن عبد الرزاق قال: كذا قال: ((الجمعة))، وكذلك روي عن أبي الأحوص عن ابن مسعود. والذي يدل سائر الروايات أنه عبَّر بالجمعة عن الجماعات. وروي في «المعجم الأوسط» عن ابن مسعود بالإطلاق من غير تقييدٍ بالجمعة، والذي فيه التقييدُ بالجمعة رواه السراج عن أبي الأحوص عن عبد الله.
قوله: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أي والله الذي نفسي بيده القدرة، وهو قَسَمٌ كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يُقسِم به.
قوله: (لَقَدْ هَمَمْتُ) جوابُ القسم، أكَّدَهُ باللام وكلمةِ «قد» ، ومعنى:(هَمَمْتُ) أي قصدتُ، مِنَ الهَمِّ وهو العزمُ، وقيل: دونَه.
قوله: (فَيُحْطَبَ) بالفاء، وهو على صيغة المجهول، وهو رواية الكُشْمِيهَني. وفي رواية الحموي والْمُستملي: <لِيُحْطَبَ> باللام. ورواية الكُشْمِيهَني هو روايةُ الأكثرين وروايةُ «الموطأ» أيضًا، وقال الكِرماني: وفي بعض الرواية ((ليحطب)) بالنصب ولام كي وبالجزم ولام الأمر. وقال أيضًا: ((ليحتطب)) أي ليُجمَع، يُقال: حطبتُ واحتَطبتُ إذا جمعْتُ الحطب.
وقال بعضُهم: ومعنى «يُحطَب» : يُكسر ليسهُل إشعالُ النارِ به. قال العيني: ليس المعنى كذلك، والمعنى: أن آمُرَ بحطب فيُحطب أي فيُجمع، وكذلك معنى:«يُحتَطب» كما ذكرناه، ولم يقل أحدٌ من أهل اللغة أي معنى يُحَطب: يُكسَر.
قوله: (ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ) الألف واللام فيها إن كانت للجنس فهو عام، وإن كانت للعهد ففي روايةٍ: أنها العِشاء، وفي أُخرَى: الفجرُ، وفي أُخرَى: الجمعة، وفي أخرى: يتخلفون عن الصلاة مطلقًا. ولا تضاد بينها؛ لجواز تعدُّدِ الواقعة، نعم إذا كان المرادُ الجُمعة فالجماعة شرط فيها، ومحل الخلاف إنما هو في غيرها.
وقال البيهقي: والذي يدل عليه سائر الروايات أنه عبَّر بالجمعة عن الجماعة، ونوزع فيه، لأن أبا داود والطبراني روَيَا من طريق يزيد بن يزيد بن جابر عن يزيد بن الأصم فَذَكَر الحديث. قال يزيد: قلتُ ليزيد بن الأصم يا أبا عوف الجمعة عَنَى أو غيرها؟ قال: صُمَّتْ أُذُناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يؤثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذَكَر جمعةً ولا غيرها. فظهر من ذلك أن الراجح في حديث أبي هريرة أنها غيرُ الجمعة، وظهر أن البيهقي وهِم في هذا، نعم جاء في حديث ابن مسعودٍ وأخرجه مسلم وفيه: الجزمُ بالجمعة، وهو حديث مستقل برأسه، ومَخْرَجُه مُغايرٌ لحديث أبي هريرة لا يَقدح أحدُهما في الآخر، لإمكان كونهما واقعتين كما أشرنا إلى ذلك عن قريب.
قوله: (فَيُؤَذَّنَ لَهَا) كذا هو باللام، أي أُعلِمَ الناس لأجلها، ويُروَى بالباء أي أعلمتُ بها. والهاءُ مفعول ثانٍ.
قوله: (ثُمَّ أُخَالِفَ) من باب المفاعَلة، قال الجوهري: قولهم: هو يخالف إلى فلان، أي يأتيه إذا غاب عنه. وقال الزمخشري: يقال: خالفني إلى كذا، إذا قصدَه وأنت مُوَلِّ عنه، قال تعالى {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ} [هود: 88]، والمعنى: أخالفَ المشتغلين بالصلاة قاصدًا إلى بيوت الذين لم يخرُجوا عنها إلى الصلاة فأُحرقها عليهم. ويقال: معنى أخالفَ إلى رجال: أذهبَ إليهم. والتقييدُ بالرجال يُخرِج الصبيانَ والنساء.
قوله: (فَأُحَرِّقَ) بالتشديدِ مِنَ التحريق، والمراد به التكثيرُ، يقال: حَرَّقَه - بالتشديد - إذا بالغ في تحريقه، ويُروى:((فأُحْرِقَ)) من بابِ الإحراق، وروايةُ التَّشديد أكثرُ وأشهرُ.
قوله: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أَعَادَ يمينَه لأجل المبالغةِ في التهديد.
قوله: (عَرْقًا) بفتح العين المهملة وسكون الراء، جَمعُه عُراق، قال الأزهري في «التهذيب» : هي العظام التي يؤخذ منها هَبْرُ اللحم ويبقى عليها لحومٌ رقيقة طيِّبةٌ فتُكسر وتطبخ وتؤخذُ إِهالتُها من طُفاحتها ويؤكل ما على العظام من لحم رقيق ويُتَمَشَّشُ العظامُ، ولحمها من أطيب اللحوم عندهم. يقال: عَرَقتُ اللحمَ وتَعرَّقتُهُ وأَعْرَقْتُهُ، إذا أخذتَ اللحمَ منه نَهْشًا بأسنانك، وعظم معروق: إذا أُلقي عليه لحمُه أي قُشِر، والعُرام مثل العُراق، قاله الرياشي. وقال القُتيبي: سمعتُ الرياشي يروي عن أبي زيد أنه قال: قول الناس: ثريدةٌ كثيرة العُراقِ خطأ، لأن العُراقَ العظامُ.
وفي «الموعِب» لابن التياني عن ابن قتيبة: تسمى عُراقًا إذا كانت جرداءَ لا لحم عليها، وتسمى عُراقًا وعليها اللحم، وزعم الكلابي أن العَرْق العظمُ الذي أخذ أكثرُ ما بقي عليه، وبقي عليه شيء يسير. وعن الأصمعي: العَرْقُ بجزم الراء: الفِدرةُ من اللحم، وجمعُها عُراق وهو من الجمع العزيز. وحكى ابن الأعرابي في جمعه: عِراق بالكسر، وهو أقيس وفي «الْمُغرِب» : العَرْقُ العظم.
قوله (أَوْ مِرْمَاتَيْنِ) بكسر الميم وفتحها، وهي تثنية مِرماة، وقال الخليل: هي ما بين ظلفي الشاة. وحكاه أبو عبيد وقال: لا أدري ما وجهُه، ونقله المستملي في روايته في كتاب الأحكام عن الفَربري عن محمد بن سليمان
عن البخاري قال: الْمِرماةُ - بِكسر الميم مثلُ مِنْسَاة ومِيضَاة -: ما بين ظلفي الشاة من اللحم. قال عياض: فالميم على هذا أصلية.
وقال الأخفش: الْمِرْماةُ لُعبة كانوا يلعبونها بنصال محدَّدة يرمونها في كومٍ من تراب، فأيُّهم أثبتها في الكَوْمِ غَلَب، وهي المرماة والمِدحاة. وحكى الحربي عن الأصمعي: أن المرماة سهمُ الهدف. ويؤيده ما حدثني، ثم ساق من طريق أبي رافع عن أبي هريرة بلفظ:((لو أن أحدهم إذا شهد الصلاة معي كان له عظم من شاة سمينة أو سهمان لفعل)). وقيل: المرماةُ سهم يُتعلَّم عليه الرمي، وهو سهم دقيق مستٍو غير محدَّد.
وقال أبو سعيد: المِرماتان في الحديث سهمان يرمي بهما الرجل فيَحُوزُ سَبْقَه، يقول: سابَقَ إلى إحراز الدنيا وسَبْقِها ويَدَعُ سبق الآخرة.
فإن قلتَ: لِمَ وصف العَرْق بالسِّمَن والمِرماةَ بالحُسْنِ؟ قال العيني: ليكون الباعث النفساني في تحصيلها. وقال الطيبي: الحسنتين بدلٌ مِنَ المِرماتين إذا أريد بهما العظم الذي لا لحم عليه، وإن أريد بهما السهمان الصغيران فالحسنتين بمعنى الجيدتين، صفةٌ للمِرماتين، قال: والمضاف محذوف، يعني: في قوله: (لَشَهِدَ العِشَاءَ) أي صلاةَ العشاء، فالمعنى: لو عَلِمَ أنه لو حضر الصلاة لوجد نفعًا دنيويًا وإن كان خسيسًا حقيرًا لَحَضَرها، لقُصُور همته على الدنيا ولا يحضرها لما لها من مثوبات العُقبَى ونعيمها. انتهى.
استُدِلَّ بهذا الحديث: على أنَّ الجماعة فرض عين، وقال صاحب «التلويح» - أي مغلطاي -: اختُلِف في صلاة الجماعة هل هي شرطٌ في صحة الصلاة - كما قال داود بن علي وأحمد بن حنبل - أو فرض على الأعيان كما قاله جماعة من العلماء وجماعة من محدثي الشافعية ابنُ حِبَّان وابن خزيمة وابن المنذر وأبو ثور، وهو الصحيح عند أحمد، وقال في «شرح المهذب» : وقيل أنه قول للشافعي، وعن أحمد واجبةٌ ليست بشرط، وقيل: سنة مؤكدة كما قاله القُدُوري.
وفي «شرح الهداية» : عامة مشايخنا أنها واجبة، وقد سماها بعضُ أصحابنا سنةً مؤكدة. وفي «المفيد» : الجماعة واجبة، وتسميتُها سنةً لوجوبها بالسنة. وفي «البدائع» : إذا فاتته الجماعة لا يجب عليه الطلبُ في مسجد آخر بلا خلاف بين أصحابنا، لكن إن أتى مسجدًا يرجو إدراك الجماعة فيه فَحَسَنٌ، وإن صلى في مسجد حَيِّهِ فَحَسَن. وعن القُدُوري: يجمع بأهله.
وفي «التحفة» : إنما تجب على من قدِر عليها من غير حرج، وتسقط بالعذر فلا تجب على المريض ولا على الأعمى والزَّمِنِ ونحوِهم، هذا إذا لم يجد الأعمى والزَّمِن مَن يحمله، وكذا إن وَجَد عند أبي حنيفة، وعندهما يجب. وعن شرف الأئمة وغيرِه: ترْكُها بغير عذر يوجب التعزير ويأثم الجيران بالسكوت عن تاركها. وعن بعضهم: لا تُقبَل شهادتُه، فإن اشتغل بتكرار اللغة لا يُعذَر في ترك الجماعة وبتكرار الفقه أو مطالعته يُعذر، فإن تَرَكَها أهلُ ناحية قوتلوا بالسلاح.
وفي «الغنية» : يشتغل بتكرار الفقه ليلًا ونهارًا ولا يحضر الجماعة! لا يُعذر ولا نقبل شهادته. وقال أبو حنيفة: سها أو نام أو شغله عن الجماعة شغل جمعَ بأهله في منزله، وإن صلى وحده يجوز.
واختلف العلماء في إقامتها في
البيت، والأصح أنها كإقامتها في المسجد. وفي «شرح» خواهر زاده: هي سنةٌ مؤكدةٌ غاية التأكيد، وقيل: فرض كفاية وهو اختيار الطحاوي والكرخي وغيرهما وظاهر نص الشافعي أنها فرض كفاية، وعليه جماهير المتقدمين مِن أصحابه، وقال به كثير من الحنفية والمالكية، والمشهورُ عند الباقين أنها سنة مؤكدة. وفي «الجواهر» عن مالك: هي سنة مؤكدة. وقيل: فرض كفاية.
استدل من قال بفرضية عينِها بحديث الباب، وقالوا: لو كانت فرض كفاية لكان قيام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابُه بها كافيًا، أو لو كانت سنةً فتارك السنة لا يحرق عليه بيتُه، إذْ سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهِمُّ إلا بحق. ويدل على وجوبها صلاةُ الخوف إذْ فيها أعمالٌ منافية للصلاة ولا يُعمل ذاك لأجل فرض كفايةٍ ولا سنة.
وبما في صحيح مسلم: أنَّ أعمى قال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني المسجد، قال:((هل تسمع النداء؟)) قال: نعم، قال:((فأجب)) وخرَّجه أبو عبد الله في «مستدركه» من حديث عبد الرحمن بن عباس عن ابن أم مكتوم قلتُ: يا رسول الله إن المدينة كثيرة الهوامِّ والسِّباع، قال:((تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح؟)) قال: نعم، قال:((فَحَيَّهَلَا)). وقال صحيحُ الإسناد إن كان سمع من ابن أم مكتوم. وخرَّجه من حديث زائدة عن عاصم عن أبي رزين عن ابن أم مكتوم بلفظ: إني كبير شاسعُ الدار ليس لي قائد يلازمني فهل تجد لي من رخصة؟ قال: ((تسمع النداء؟)) قلت: نعم، قال:((ما أجد لك رخصة)) قال الحاكم: وله شاهد بإسناد صحيح، فذَكَر حديث أبي جعفر الرازي عن حسين بن عبد الرحمن عن عبد الله بن شداد عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل الناس في صلاة العشاء فقال: - يعني ابن أم مكتوم -: ((لقد هممتُ أن آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن هذه الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم)) قال: فقلتُ: يا رسول الله لقد علمتَ ما بي
…
الحديث.
وعند أحمد: أتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسجدَ فوجد في القوم رِقَّةً فقال: ((إني لأهِمُّ أن أجعل للناس إمامًا ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلفُ عن الصلاة في بيته إلا أحرقه عليه))، فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله إن بيني وبين المسجدِ نخلًا وشجرًا ولا أقدر على قائدٍ كلَّ ساعة، أيسعني أن أصليَ في بيتي؟ فقال:((أتسمع الإقامة؟)) قال: نعم، قال:((فأْتِها)). وأعلَّ ابنُ القطان حديثَ ابن أم مكتومٍ فقال: لأن الراوي عنه أبو رزين وابن أبي ليلى، فأما أبو رزين فإنَّا لا نعلم سِنَّهُ ولكنْ أكبرُ ما عنده من الصحابة عليٌّ رضي الله عنه، وابنُ أم مكتوم قُتل بالقادسية زمن عمر رضي الله عنه، وابنُ أبي ليلى مولدُه لِسِتٍّ بقين من خلافة عمر رضي الله عنه. انتهى.
قال صاحب «التلويح» مغلطاي: أما قوله: أبو رزين لا نعلم مولده. غيرُ جيد لأنَّ ابن حِبَّان ذَكَر أنه كان أكبر سِنًّا من أبي وائل، وأبو وائل قد عُلِم إدراكُه لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا لا ُتنكَر روايته عن ابن أم مكتوم.
الثاني: قوله: أَعلى ما له
الروايةُ عن علي. مردودٌ بروايته الصحيحة عن ابن مسعود رضي الله عنه.
الثالث: قوله: مات ابنُ أمِّ مكتومٍ بالقادسية. مردودٌ بقول ابن حِبَّان في كتاب «الصحابة» : شَهِدَ القادسية ثم رجع إلى المدينة فمات بها في خلافة عمر رضي الله عنه.
الرابع: قوله: إنَّ سِن ابن أبي ليلى لا يقتضي له السماع من عمر. مردودٌ بقول أبي حاتم الرازي - وسأله ابنُه: هل سمع عبد الرحمن من بلال؟ - فقال: بلالٌ خرج إلى الشام قديما في خلافة عمر، فإنْ كان رآه صغيرًا فهذا أبو حاتم لم ينكِر سماعَه من بلال المتوفى سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة، بل جوَّزه، فكيف ينكَرُ من عمر! ورواه البيهقي من حديث ابن شهاب الخياط عن العلاء بن المسيب عن ابن أم مكتوم: قلتُ: يا رسول الله إن لي قائدًا لا يُلازمني في هاتين الصلاتين العشاءِ والصبحِ. فقال: ((لو يعلمُ القاعدون عنهما ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا)).
وفي «الأوسط» من حديث البزار: أن ابن أم مكتوم شكَى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسَأَله أن يرخِّصَ له في صلاة العشاء والفجر، وقال: أن بيني وبينك أَشَبٌ، فقال:((هل تسمع الأذان؟))، قال: نعم. مرَّةً أو مرتين، فلم يرخِّص له في ذلك.
وعنده أيضًا من حديث عَدي بن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة: جاء رجل ضريرٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أسمع النداء فلعلِّي لا أجد قائدًا، ويشُقُّ عليَّ أن أتخذ مسجدًا في بيتي، فقال عليه السلام:((أيبلُغُك النداء؟)) قال: نعم، قال:((فإذا سمعتَ فأجِبْ)). وقال: تفرَّدَ زيد بن أبي أنيسة عن عدي عن عبد الله بن مغفل. قوله: «أَشَبٌ» بفتح الهمزة وفتح الشين المعجمة وفي آخره باءٌ موحدة، وهو كثرة الشجر، يقال: بلد آشِبةٌ إذا كانت ذات شجر، وأراد ههنا النخل.
وعند مسلم من حديث أبي هريرة: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ أعمى، فقال: يا رسول الله ليس لي قائدٌ يقودني إلى المسجد، فسألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يرخِّصَ له فيصلي في بيته فرخَّصَ له، فلما ولَّى دعاه فقال:((هل تسمع النداء بالصلاة؟)) قال: نعم، قال:((فأجب)). وخرَّجه السراج في «مسنده» من حديث عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: أتى ابنُ أم مكتومٍ الأعمى
…
الحديث.
وبما رُويَ عن ابن عباسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر)). خرجه ابن حِبَّان في «صحيحه» من حديث سعيد بن جبير عنه. وفَسَّر العذر في حديث سلمان بن قرم بلفظ: ((من سمع النداء ينادَى به صحيحًا فلم يأتِهِ من غير عُذرٍ لم يقبل الله له صلاةً غيرها))، قيل: وما العذر؟ قال: ((المرض والخوف)).
وبما رواه ابن ماجه من حديث الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن الحكم بن مينا أخبرني ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم سمعا النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول على أعواده: ((لينتَهِيَنَّ أقوامٌ عن وَدْعِهِم الجماعات أو لَيَخْتِمَنَّ اللهُ على قلوبهم)). قلتُ: المراد بأعوادِه: منبرُه عليه السلام.
وبما رواه ابن ماجه أيضًا من حديث الوليد بن مسلم عن الزِّبرِقان بن عمرو الضَّمري عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لينتهين رجالٌ على ترك الجماعة أو لأحرقن بيوتهم)). وبما رواه أبو سعيد بن يونس في «تاريخه» من حديث واهب
بن عبد الله المعافري عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: ((لَأَنا على أمتي في غير الخمر أخوفُ عليهم من الخمر: سكنى البادية وتركِ المساجد)).
وبما رواه الطبراني في «الأوسط» بسند جيد عن أنس رضي الله عنه: ((لو أن رجلا دعا الناس إلى عَرْق أو مِرمَاتين لأجابوه، وهم يُدعون إلى هذه الصلاة في جماعة فلا يأتوها! لقد هممتُ أن آمر رجلًا يصلي بالناس في جماعة فأضرمها عليهم نارًا فإنه لا يتخلف إلا منافق)). وبما رواه أبو داود في «سننه» بسند لا بأس به عن أبي الدرداء مرفوعًا: ((ما من ثلاثةٍ في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما تأكل الذئبُ القاصيةَ)).
وبما رواه أبو نعيم الدُّكَيْنِي بسندٍ صحيحٍ يرفعُه: ((من سمع النداء فلم يجبْ من غير عذر فلا صلاة له)). وبما رواه الكَجِّي في «سننه» عن حارثة بن النعمان يرفعه: ((يخرج الرجل في غنيمته فلا يشهد الصلاة حتى يطبع على قلبه)). في إسناده عمر مولى عفرة. وعن أبي زُرَارة الأنصاري قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((من سمع النداء فلم يجب كُتِبَ من المنافقين)). ذكره أبو يعلى أحمد بن علي المثنى في «مسنده» بسند فيه ضعف. وبما رواه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» عن جابر رضي الله عنه قال عليه السلام: ((لولا شيءٌ لأمرتُ رجلًا يصلي بالناس ثم لحرقت بيوتًا على ما فيها)).
وأما استدلال من قال بأنها سنٌة أو فرض كفاية فيما تقدم في هذا الكتاب من الأحاديث التي فيها: ((صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذِّ))، لأن صيغة «أَفْعَل» تقتضي الاشتراك في الفضل وترجيحَ أحد الجانبين، وما لا يصحُّ لا فضل فيه. ولا يجوز أن يقال: إنَّ «أفضل» قد تُستعمل بمعنى الفاضل. ولا يقال: إنَّ ذلك محمول على صلاة المعذور فذًّا؛ لأن «الفَذّ» مُعرَّفٌ بالألف واللام فيفيد العموم ويدخل تحته كلُّ فذٍّ من معذورٍ وغيرِه. ويدل أيضًا أنه أراد غيرَ المعذور بقوله: ((أو في سوقه))، لأنَّ المعذور لا يروحُ إلى السوق، وأيضًا فلا يجوز أن يُحمَل
(1)
على المعذور لأن المعذور في أجر الصلاة كالصحيح.
واستدلوا أيضًا بما رواه الحاكم وصححه عن أُبَي بن كعب رضي الله عنه: ((صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاتِه وحدَه، وصلاته مع رجلين أزكى من صلاته مع رجل، وما كثُرَ فهو أحب إلى الله عز وجل).
وبقوله عليه السلام لِلَّذَين صلَّيا في رحالهما من غير جماعة: ((إذا صليتُما في رحالكما ثم أتيتُما المسجد فصليا فإنَّها لكما نافلة)). فلو كانت الجماعة فرضًا لأمَرَهُما بالإعادة، ومثلُ هذا جرى لمحجن الديلي. ذكره في «الموطأ» .
وأما الجواب عن حديث الباب فعلى أوجه:
أحدها: ما قاله ابن بطال، وهو أن الجماعة لو كانت فرضًا لقال حين توعَّدَ بالإحراق من تخلَّفَ عن الجماعة:«لم تجزيه صلاتُه» ، لأنه وقتُ البيان. وتعقَّبَه ابن دقيق العيد بأنَّه البيان قد يكونُ بالتنصيص وقد يكون بالدلالة، فلَمَّا قال عليه السلام: ((لقد هممتُ
…
)) إلى آخره دَلَّ على وجوب الحضور وهو كافٍ في البيان.
قال العيني: ليس فيه دلالة من الدلالات الثلاث: المطابقة والتضمن والالتزام،
(1)
((يحمل)) ليس في (الأصل) والصواب إثباتها.
ولا فيه دلالة أصولية فافهم.
الثاني: ما قاله الباجي، وهو أن الخبر ورد مورِد الترهيب وحقيقتُه غير مرادة، إنما المرادُ المبالغةُ، ويرشد إلى ذلك وعيدهم
(1)
بالعقوبة التي يعاقَب بها الكفار، وقد انعقد الإجماعُ على منع عقوبةِ المسلمين بذلك
(2)
، قيل: إنَّ المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار، وكان قبل ذلك جائزًا بدليل حديث أبي هريرة الآتي في الجهاد الدال على جواز التحريق بالنار ثم على نَسْخِه، فحَمْلُ التهديد على حقيقته غير ممتنع
الثالث: ما قاله ابن بَزِيزَة عن بعضهم أنه استنبط من نفس الحديث عدم الوجوب، لكونه عليه السلام هَمَّ بالتوجه إلى المتخلفين، فلو كانت الجماعةُ فرض عينٍ ما هَمَّ بتركها إذا توجه، وتعقَّبَهُ بأن الواجب يجوز تركُه لِمَا هو أوجب منه. انتهى. وقال شيخنا: وليس فيه أيضًا دليل على أنه لو فعل ذلك لم يتداركها في جماعةٍ آخرين.
الرابع: كونه صلى الله عليه وسلم ترك تحريقَهم بعد التهديد، فلو كان واجبًا لما عفا عنهم. قال القاضي عياض ومن تبعه: وليس في الحديث حجة، لأنه- عليه السلام -هَمَّ ولم يفعل. زاد النووي: ولو كانت فرض عين لَمَا تركهم. قال العيني: قول النووي أقرب. وقال ابن دقيق العيد: هذا ضعيف، لأنه عليه السلام لا يَهِمُّ إلا بما يجوز له فِعْلُهُ لو فَعَلَه، وأما الترك فلا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك وتَرَكوا التخلف الذي ذمهم بسببه، على أنه جاء في بعض الطرق بيان سبب الترك وهو فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ:((لولا ما في البيوت من النساء والذرية)) الحديث. وقد تقدم.
الخامس: ما قيل: إنَّ المراد بالتهديد قومٌ تركوا الصلاة رأسًا لا مجرد الجماعة. وَرُدَّ بما رواه مسلم: ((لا يشهدون الصلاة))، أي لا يحضرون. وفي رواية عجلان عن أبي هريرة:((لا يشهدون العِشاء في الجميع)) أي في الجماعة. وفي حديث أسامة بن زيد عند ابن ماجه مرفوعًا: ((ليَنتَهِيَنَّ رجالٌ عن تركهم الجماعات أو لأحرقنَّ بيوتهم)).
السادس: ما قيل: إنَّ الحديث وَرَدَ في الحثِّ على مخالفة فِعلِ أهل النفاق والتحذيرِ من التشبه بهم، لا لخصوص ترك الجماعة، فلا يتم الدليل. أشار إليه الزين بن المنير. قال شيخنا: وهو قريب من الوجه الثاني. انتهى.
السابع: ما قيل: إن الحديث وَرَد في حق المنافقين، فليس التهديد به لترك الجماعة بخصوصه فلا يتم الدليل. وتعقب باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على ترك الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم، وبأنه كان مُعرِضًا عنهم وعن عقوبتِهم مع علمه بطَوِيَّتِهم، وقد قال:((لا يتحدث الناس أنَّ محمدًا يقتل أصحابه)) وتعقَّب ابنُ دقيق العيد هذا التعقُّبَ بأنه لا يتم إلا إن ادَّعَى أن ترك معاقبة المنافقين كان واجبًا عليه فلا دليل على ذلك، فإذا ثبت أنه كان مخبِرًا فليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقوبتهم. انتهى.
قلت: وأيضًا إعراضه عن عقوبة المنافقين لِمَا أظهروه من الإسلام ((وحسابهم على الله)) - كما قال عليه السلام، وهذا الإعراضُ لا يقتضي الإعراضَ عنهم بالكلية حتى لا يُحوِجَهم على ترك ما يرجو فيه صلاح قلوبهم من الصلاة معه والقُربِ من الرحمةِ وسماعِ كلام الله الذي لو نُزِّل على جبلٍ لرأيته خاشعًا، لأنه
(1)
في (الأصل) : ((وعندهم)) والصواب ((وعيدهم)).
(2)
في (الأصل) : ((فذلك)) والصواب ((بذلك)).
- عليه السلام ربما رجا لهم التوبةَ، لقول الله تعالى:{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 24]. انتهى.
قال شيخنا: والذي يظهر لي أن الحديث وَرَد في المنافقين، لقوله في صدر الحديث الآتي بعد أربعة أبواب:((ليس صلاةٌ أثقلُ على المنافقين من العشاء والفجر)) الحديث. ولقوله: ((لو يعلم أحدهم
…
)) إلى آخره، لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل، لكنَّ المرادَ به نفاق المعصية لا نفاق الكفر بدليل قوله في رواية عجلان:((لا يشهدون العشاء في الجميع))، وقولِه في حديث أسامة:((لا يشهدون الجماعة))، وأصرحُ من ذلك قوله في رواية يزيد بن الأصم عن أبي هريرة عند أبي داود:((ثم آتي قومًا يُصَلُّون في بيوتهم ليست بهم علة)).
فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصيةٍ لا كفر، لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياءً وسُمعةً فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء. نبه عليه القرطبي. وأيضًا فقوله في رواية المقبري:((لولا ما في البيوت من النساء والذرِّية)) يدل على أنهم لم يكونوا كفارًا، لأن تحريق بيت الكافر إذا تعيَّنَ طريقًا إلى الغَلَبَةِ عليه لم يمنع ذلك وجودُ النساء والذرية في بيته.
وعلى تقدير أن يكون المراد بالنفاقِ في الحديث نفاقُ الكفر فلا يدل على عدم الوجوب، لأنه يتضمن أنَّ ترك الجماعة من صفات المنافقين وقد نُهينا عن التشبه بهم، وسياق الحديث يدل على الوجوب من جهة المبالغةِ في ذمِّ من تخلف عنها. قال الطيبي: خروج المؤمن مِن
(1)
هذا الوعيد ليس من جهة أنهم إذا سمعوا النداء جاز لهم التخلُّفُ عن الجماعة، بل من جهة أن التخلفَ ليس من شأنهم بل هو من صفات المنافقين، ويدل عليه قول ابن مسعود: لقد رأيتُنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق. رواه مسلم. انتهى كلامه.
وروَى ابنُ أبي شيبة وسعيدُ بن منصور بإسنادٍ صحيح عن أبي عمير بن أنس
(2)
قال: حدثني عمومتي من الأنصار قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يشهدهما منافق)) -يعني العشاء والفجر -.
قال شيخنا: ولا يقال: فهذا يدل على ما ذهب إليه صاحبُ هذا الوجه لانتفاء أن يكون المؤمن قد يتخلف، وإنما ورد الوعيدُ في حق من تخلف لأني أقول: بل هذا يُقَوِّي ما ظهر لي أولًا أنَّ المراد بالنفاق نفاقُ المعصية لا نفاق الكفر، فعلى هذا الذي خَرَجَ هو المؤمنُ الكامل لا العاصي الذي يجوز إطلاق النفاق عليه مجازًا لِمَا دل عليه مجموع الأحاديث.
الثامن
(3)
: ما ادعاه بعضهم أن فرضية الجماعة كانت في أول الأمر لأجل سد باب التخلف عن الصلاة على المنافقين، ثم نُسِخ. حكاه عياض، ويمكن أن يتقوى بثبوت نسخ الوعيد المذكور في حقهم وهو التحريقُ بالنار كما سيأتي واضحًا في كتاب الجهاد، وكذا ثبوت نسخ ما يتضمنه التحريق من جواز العقوبة بالمال، ويدل على النسخ الأحاديُث الواردة في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ كما سيأتي بيانه في الباب الذي بعد هذا، لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفعل
(4)
، ومِن لازِمِ ذلك الجواز.
التاسع
(5)
: أن المراد بالصلاة الجمعةُ لا باقي الصلوات.
(1)
((مِن)) ليست في (الأصل) والصواب إثباتها.
(2)
في (الأصل) : ((عمير بن أنيس)) والصواب ((أبي عمير بن أنس)).
(3)
في (الأصل) : ((السابع)) والصواب ((الثامن)).
(4)
كذا في (الأصل) : ((الفعل)) ولعل الصواب ((الفضل)).
(5)
في (الأصل) : ((الثامن)) والصواب ((التاسع)).
ونصره القرطبي. وتُعُقِّبَ بالأحاديث المصرِّحة بالعِشاء.
قال شيخنا: وفيه بحثٌ، لأن الأحاديث اختلفت في تعيين الصلاة التي وقع التهديدُ بسببها هل هي الجمعة أو العشاء والفجر معًا، فإن لم تكن أحاديث مختلفة ولم يكن بعضُها أرجح من بعض وإلا وقف الاستدلال، لأنه لا يتم إلا إن تعين كونها غير الجمعة، أشار إليه ابنُ دقيق العيد، ثم قال: فليُتَأَمَّل الأحاديثُ الواردة في ذلك. انتهى.
قال شيخنا: وقد تأملتُها فرأيتُ التعيينَ ورد في حديث أبي هريرة وابنِ أم مكتوم وابنِ مسعود، أما حديثُ أبي هريرة فحديث الباب من رواية الأعرج عنه تُومِئ إلى أنها العشاء؛ لقوله في آخره:(لَشَهِدَ العِشَاءَ)، وفي رواية مسلم:((يعني العشاء)). ولهما من رواية أبي صالح أيضًا الإيماءُ إلى أنها العشاء والفجر، وعينها السراج في رواية له من هذا الوجه العشاء، حيث قال في صدر الحديث: أَخَّر العشاء ليلة فخرج فوجد الناس قليلًا فغضب
…
فذكر الحديث. وفي رواية ابن حبان من هذا الوجه: ((يعني الصلاتين العشاء والغداة)). وفي رواية عجلان والمقبري عند أحمد التصريحُ بتعيين العشاء.
ثم سائر الروايات عن أبي هريرة على الإبهام، وقد أورده مسلم من طريق وكيع عن جعفر بن بُرقان عن يزيد بن الأصم عنه فلم يسُق لفظه، وساقه الترمذي وغيرُه من هذا الوجه بإبهام الصلاة، وكذلك رواه السراج وغيره من طرق عن جعفر وخالفهم معمر عن جعفر فقال:((الجمعة)) أخرجه عبد الرزاق عنه، والبيهقي من طريقه وأشار إلى ضعفها لشذوذها، ويدل على وهمِه فيها روايةُ أبي داود والطبراني في «الأوسط» من طريق يزيد بن يزيد بن جابر عن يزيد بن الأصم فذكر الحديث. قال يزيد: قلت ليزيد بن الأصم: يا أبا عوف الجمعة عنى أو غيرها؟ قال: صُمَّتْ أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر جُمعةً ولا غيرها.
فظهر أن الراجح في حديث أبي هريرة أنها لا تختص بالجمعة.
وأما حديث ابنِ أمِّ مكتوم فسأذكره قريبًا وأنه موافق لأبي هريرة، وأما حديث ابن مسعود فأخرجه مسلم وفيه الجزم بالجمعة وهو حديث مستقل، لأن مخرجه مغاير لحديث أبي هريرة، ولا يقدح أحدُهما في الآخر فيُحمل على أنهما واقعتان كما أشار إليه النووي والمحب الطبري. وقد وافق ابن أم مكتوم أبا هريرة على ذكر العشاء، وذلك فيما أخرجه ابن خزيمة وأحمد والحاكم من طريق حصين بن عبد الرحمن عن عبد الله بن شداد عن ابن أم مكتوم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل الناس في صلاة العشاء فقال: ((لقد هممت
…
)) الحديث.
ولابن حبان من حديث جابر قال: ((أتسمع الأذان؟)) قال: نعم، قال:((فأتها ولو حبوًا)). وقد حمله العلماء على أن ابن أم مكتوم كان لا يشق عليه التصرف بالمشي وحده ككثير من العُميان، واعتمد ابن خزيمة وغيرُه حديث بن أم مكتوم هذا على فرضية الجماعة في الصلوات كلِّها ورجحوه بحديث الباب وبالأحاديث الدالة على الرخصة في التخلف عن الجماعة، قالوا: لأن الرخصة لا تكونُ إلا عن واجب.
قال شيخنا: وفيه نظر ووراء ذلك أمر آخر ألزَمَ به ابن
دقيق العيد من يتمسك بالظاهر ولا يتقيد بالمعنى، وهو أن الحديث وَرَد في صلاة معينة فيدل على وجوب الجماعة فيها دون غيرِها، وأشار إلى الانفصال عنه بالتمسك بدلالة العموم، لكن نوزع في كون القول لِمَا ذكر أولًا ظاهرية محضة، فإنَّ قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضيه، ولا يستلزم ذلك تركَ اتباعِ المعنى، لأن غير العشاء والفجر مظنة الشُّغل بالتكسب وغيِره، أما العصران فظاهر وأما المغرب فلأنها في الغالب وقتُ الرجوع إلى البيت والأكل، لا سيما للصائم مع ضيقِ وقتها، بخلاف العشاء والفجر فليس للمتخلف عنهما عذر غير الكسل المذموم، وفي المحافظة عليهما في الجماعة أيضًا انتظامُ الألفة بين المتجاورين في طرفي النهار وليختموا النهار بالاجتماع على الطاعة ويفتتحوه كذلك.
وقد وقع في رواية عجلان عن أبي هريرة عند أحمد تخصيصُ التهديدِ بمن حول المسجد. انتهى.
قلت: تقع الأُلفةُ باجتماع المتجاورين في هذه الصلوات الخمس، وتقع لأهل المدينة باجتماعهم في صلاة الجمعة، وتقع لأهل القرى باجتماعهم في صلاة العيدين، وتقع لأهل الدنيا باجتماعهم في الحج. انتهى.
وسيأتي توجيهُ كون العشاء والفجر أثقلُ على المنافقين من غيرهما.
قال شيخنا: وقد أطلتُ في هذا الموضع لارتباط بعضِ الكلام ببعض، واجتمع من الأجوبة لمن لم يقل بالوجوب أوجه لا توجد مجموعةً في غير هذا الشرح. انتهى.
وفي الحديث من الفوائد أيضًا: تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة، لأن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزجر اكتُفِي به عن الأعلى بالعقوبة. قال العيني: يكون هذا من باب الدفع بالأخف. انتهى.
وفيه: جواز العقوبة بالمال بحسب الظاهر، واستدل به قوم من القائلين بذلك من المالكية، وَعَزَى ذلك أيضًا إلى الإمامِ مالك.
قال شيخنا: وفيه نظر لِمَا أسلفناه، ولاحتمال أن التحريق من باب ما لا يتمُّ الواجب إلا به، إذْ الظاهر أن الباعثَ على ذلك أنهم كانوا يختفون في بيوتهم فلا يُتَوصل إلى عقوبتهم إلا بتحريقها عليهم.
قال العيني: وأجاب الجمهور عنه - أي عن جواز العقوبة بالمال - بأنَّه كان ذلك في أول الإسلام ثم نُسخ. انتهى.
وفيه: جوازُ أخذ أهل الجرائم على غِرَّة، لأنه صلى الله عليه وسلم هَمَّ بذلك في الوقت الذي عُهِد منه فيه الاشتغالُ بالصلاة بالجماعة، فأراد أن يبغتهم في الوقت الذي يتحققون أنه لا تطرقهم فيه، وفي السياق إشعار بأنه تقدم منه زجرهم عن التخلف بالقول حتى استحقوا التهديد بالفعل. وترجم عليه البخاري في كتاب الأشخاص وفي كتاب الأحكام بابُ إخراج أهل المعاصي والرِّيَب من البيوت بعد المعرفة. يريدُ أنَّ من طُلِب منهم بحٍّق فاختفى إذا امتنع في بيته لَدَدًا
(1)
أو مطلًا أُخرِج منه بكل طريق يُتوصل إليه بها، كما أراد صلى الله عليه وسلم إخراجَ المتخلفين عن الصلاة بإلقاء النار عليهم في بيوتهم.
وحكى الطحاوي في «أدب القضاء الصغير» له أن بعضهم كان يرى الهجوم على الغائب، وبعضَهم لا يرى، وبعضَهم يرى
(1)
((لَدَدًا)) غير مفهومة في (الأصل).