الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد الله بن مسعود قال: ((ما رأيْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاةَ لغيرِ وقتِها إلَّا بجمعٍ، فإنَّه جمعَ بينَ المغربِ والعشاءِ بجمعٍ، وصلَّى صلاةَ الصُّبح منَ الغدِ قبلَ وقتِها))، وهذا الحديث يبطل العمل بكلِّ حديث فيه جواز الجمع بين الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء، سواء كان في حضر أو سفر أو غيرهما. انتهى.
قلت: لم ينفِ عبد الله إلَّا الرؤية، فكيف يقال: إنَّ قوله: يبطل العمل بقول من أثبته؟!. انتهى.
وقال العَيني أيضًا: فإن قلت: في حديث ابن عمر: ((إذا جَدَّ بهِ السَّيرُ جمعَ بينَ المغربِ والعشاءِ بعدَ أنْ يغيبَ الشَّفقِ)) رواه أبو داود وغيره، وهذا صريح في الجمع في وقت إحدى الصَّلاتين، وقال النَّوَوي: وفيه إبطال تأويل الحنفيَّة في قولهم: إنَّ المراد بالجمع تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية إلى أوَّل وقتها، ومثله في حديث أنس:((إذا ارتحلَ قبلَ أنْ تزيغَ الشَّمسُ أخَّرَ الظهرَ إلى وقتِ العصرِ ثمَّ نزلَ فجمعَ بينَهما))، وهو صريح في الجمع بين الصَّلاتين في وقت الثانية، والرواية الأخرى أوضح دلالة وهي قوله:((إذا أرادَ أنْ يجمعَ بينَ الصلاتَين في السَّفر أخَّرَ الظهرَ حتَّى يدخلَ أوَّلُ وقتِ العصرِ ثمَّ يجمعُ بينَهما))، وفي الرواية الأخرى:((ويؤخِّرُ المغربَ حتَّى يجمعَ بينَها وبينَ العشاءِ حتَّى يغيبَ الشَّفقُ))، قلت: الجواب عن الأوَّل أنَّ الشَّفق نوعان: أحمر وأبيض، كما اختلف العلماء من الصحابة وغيرهم فيه، ويحتمل أنَّه جمع بينهما بعد غياب الأحمر، فتكون المغرب في وقتها على قول من يقول: الشَّفق هو الأبيض، وكذلك العشاء تكون في وقتها على قول من يقول: الشَّفق هو الأحمر، ويطلق عليه إنَّه جمع بعد غياب الشَّفق، والحال إنَّه صلَّى كلَّ واحدة منهما في وقتها على اختلاف القولين في تفسير الشَّفق، وهذا مما فُتح لي من الفيض الإلهي! وفيه إبطال لقول من ادعى بطلان تأويل الحنفيَّة. انتهى.
قلت: يلزم على قول من يقول: الشَّفق هو الأبيض إخراجُ المغرب عن وقتها إن أوقعها بعد غيابه، وكذلك على قول من يقول: الشَّفق هو الأحمر، ويلزم على قول من يقول: الشَّفق هو الأبيض إخراج العشاء عن وقتها إن أوقعها قبل غيابه، ولا يتأتَّى لأحد أن يعتقد صحَّة المذهبين، فما هذا التأويل؟! ولهذا قال شيخنا: لا يشكُّ من تأمَّل كلام العَيني وفهمه بمقدار فهمه في تصرُّفه أنَّ هذا الفيض مختصٌّ به، فلذلك لا يرضى به من له أدنى تمييز. انتهى.
ثم قال: والجواب عن الثاني: أنَّ معنى قوله: ((أخَّرَ الظهرَ إلى وقتِ العصرِ)) أخَّره إلى آخر وقته الذي متصل به وقت العصر، فيصلِّي الظُّهر في آخر وقته، ثمَّ يصلِّي العصر متصلًا به في أوَّل وقت العصر، فيطلق عليه إنَّه جمع بينهما، لكنَّه فعلًا وقتًا، والجواب عن الثالث: أنَّ أوَّل وقت العصر مختلف فيه، وهو إمَّا بصيرورة ظلِّ كلِّ شيء مثله أو مثليه، فيحتمل أنَّه أخَّر الظُّهر إلى أن صار ظلُّ كلِّ شيء مثله، ثمَّ صلَّاها وصلَّى عقبها العصر، فيكون قد صلَّى الظُّهر في وقتها على قول من يرى أنَّ آخر وقت الظُّهر بصيرورة ظلِّ كلِّ شيء مثليه، ويكون قد صلَّى العصر في وقتها على قول من يرى أنَّ أوَّل وقتها بصيرورة ظلِّ كلِّ شيء مثله، ويصدق على من فعل هذا إنَّه جمع بينهما في أوَّل وقت العصر، والحال إنَّه قد صلَّى كلَّ واحدة منهما في وقتها على اختلاف القولين في أوَّل وقت العصر، ومثل هذا لو فعل المقيم يجوز فضلًا عن المسافر الذي يحتاج إلى التخفيف.
انتهى.
قلت: يقال ههنا ما قلناه بعد جوابه الأوَّل. انتهى.
قال: فإن قلت: قد ذكر البَيْهَقي في باب الجمع بين الصلاتين في السَّفر عن حمَّاد بن زيد عن أيُّوب عن نافع عن ابن عُمَر: ((أنَّه سارَ حتَّى غابَ الشَّفق فنزلَ فجمعَ بينَهما)) رواه أبو داود وغيره، وفيه:((أخَّرَ المغربَ بعدَ ذهابِ الشَّفق حتَّى ذهبَ هُوِيٌّ منَ الليلِ، ثمَّ نزلَ فصلَّى المغربَ والعشاءَ)) قلت: لم يذكر سنده حتَّى ننظر فيه، وروى النَّسائي بخلاف هذا، وفيه:((كانَ عليه السلام إذا جدَّ بهِ أمرٌ أو جدَّ بهِ السيرُ جمعَ بينَ المغربِ والعشاءِ))، قال: فإن قلت: قد قال البَيْهَقي: ورواه يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع، فذكر: إنَّه سار قريبًا من ربع اللَّيل ثمَّ نزل فصلَّى، قلت: أسنده في «الخلافيات» من حديث يزيد بن هارون بسنده المذكور، ولفظه:((فسرْنا أميالًا، ثمَّ نزلَ فصلَّى)) قال يحيى: فحدَّثني نافع هذا الحديث مرَّة أخرى فقال: ((سرْنا حتَّى إذا كانَ قريبًا مِنْ ربعِ اللَّيلِ نزلَ فصلَّى)) فلفظه مضطرب كما ترى قد رُوي على وجهين، فاقتصر البَيْهَقي في «السنن» على ما يوافق مقصوده.
واستدلَّ جماعة من الأئمَّة إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث على جواز الجمع في الحضر للحاجة مطلقًا، لكن بشرط ألَّا يُتخذ عادة، وممن قال به ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفَّال الكبير، وحكاه الخطَّابي عن جماعة من أصحاب الحديث، واستدلَّ لهم بما وَقَعَ عند مسلم في هذا الحديث من طريق سعيد بن جُبَير قال: فقلت لابن عبَّاس: لم فعل ذلك؟ قال: أراد ألَّا يحرج أحدًا من أمَّته.
وللنَّسائي من طريق عَمْرو بن هَرِم عن أبي الشَّعثاء: أنَّ ابن عبَّاس صلَّى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء، والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء، فعل ذلك من شُغل، وروى مسلم من طريق عبد الله بن شَقيق: أنَّ شُغل ابن عبَّاس رضي الله عنهما المذكور كان بالخطبة، وإنَّه خطب بعد صلاة العصر إلى أن بدت النُّجوم، ثمَّ جمع بين المغرب والعشاء.
والذي ذكره ابن عبَّاس من التعليل بنفي الحرج جاء مثله عن ابن مسعود مرفوعًا أخرجه الطَّبَرَاني ولفظه: ((جمعَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بينَ الظهرِ والعصرِ، وبينَ المغربِ والعشاءِ، فقيلَ لهُ في ذلك فقالَ: صنعْت هذا لئلَّا تُحرجَ أمَّتِي))، قال شيخنا: وإرادة نفي الحرج تقدح في حمله على الصُّوري؛ لأنَّ القصد إليه لا يخلو عن حرج. انتهى.
قال العَيني: قال الخطَّابي في الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عبَّاس: هذا حديث لا يقول به أكثر الفقهاء. وقال الترمذي: ليس في كتابي حديث أجمعت الأمم على ترك العمل به إلَّا حديث ابن عبَّاس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر، وحديث قتل شارب الخمر في المرَّة الرابعة، وأمَّا الذي أخرجه الطَّبَرَاني فيردُّه ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود:((ما رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاةً لغيرِ وقتِها)) الحديث، وقد ذكرناه عن قريب. انتهى. قلت: وقد ذكرنا جوابنا للعَيني هناك. انتهى.
(13)
(بَابُ وَقْتِ العَصْرِ)
أي هذا باب في بيان وقت صلاة العصر، والمناسبة بين هذه الأبواب ظاهرة خصوصًا بين هذا الباب والذي قبله.
544 -
قوله: (حَدَّثَنا إِبْرَاهِيْمُ بنُ المُنْذِرِ) أي ابن عبد الله القُرَشي، ترجمته في باب من سُئل علمًا.
قوله: (قَالَ حَدَّثَنَا أَنَس بنُ عِيَاضٍ) أي أبو ضمرة اللَّيثي، ترجمته في باب التبرُّز في البيوت.
قوله: (عَنْ هِشَامٍ) أي ابن عُرْوَة.
قوله: (عَنْ أَبِيْهِ)
أي عُرْوَة بن الزُّبَيْر، ترجمتهما في بدء الوحي.
قوله: (أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ) أي أمُّ المؤمنين رضي الله عنها، ترجمتها في البدء أيضًا.
في هذا الإسناد التَّحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في موضعين، وفيه القول، وفيه أنَّ رواته كلُّهم مدنيُّون.
قولها: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي العَصْرَ وَالشَّمْسُ لَم تَخرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهذا الحديث مضى في باب مواقيت الصَّلاة في آخر حديث المغيرة بن شُعْبَة معلقًا حيث قال: قال عروة: ولقد حدَّثتني عائشة رضي الله عنها: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ يصلِّي العصرَ والشَّمسُ في حجرتِها قبلَ أنْ تظهرَ)) وقد ذكرنا هناك معنى الحديث.
قوله: (وَالشَّمْسُ) الواو فيه للحال.
قوله: (مِنْ حُجْرَتِهَا) أي من حُجرة عائشة، قال العَيني: وكأنَّ القياس أن يقال: من حُجرتي. انتهى. قال شيخنا: زاد أبو أسامة - أي كما سيأتي - التقييد بقعر الحجرة، وهو أوضح في تعجيل العصر من الرواية المطلقة، وقد وصل الإسماعيلي طريق أبي أسامة في «مستخرجه» لكن لفظه:((والشَّمسُ واقعةٌ في حجرتِي)) وعُرف بذلك أنَّ الضَّمير لعائشة، وفيه نوع التفات. انتهى. قال العَيني: ليس التفات هنا ولا يصدق عليه حدُّ الالتفات، وإنَّما هو من باب التجريد، فكأنَّها جردت واحدة من النِّساء وأثبتت لها حجرة، وأخبرت: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي العصر والشَّمس لم تخرج من حجرتها، وفيه المجاز أيضًا؛ لأنَّ المراد من الشَّمس ضوؤها؛ لأنَّ عين الشَّمس لا تدخل حتَّى تخرج. انتهى.
545 -
قوله: (قُتَيبَةُ) أي ابن سعيد، ترجمته في باب السَّلام من الإسلام.
قوله: (قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) أي ابن سعد، ترجمته في بدء الوحي.
قله (عَنِ ابنِ شِهَابٍ) أي محمَّد بن مسلم الزُّهْري.
قوله: (عَنْ عُرْوَةَ) أي [ابن]
(1)
الزُّبَيْر بن العوَّام.
قوله: (عَنْ عَائِشَةَ) أي زوج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ترجمة هؤلاء في بدء الوحي.
في هذا الإسناد التَّحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في ثلاث مواضع، وفيه أنَّ رواته ما بين بلخي ومصري ومدني.
قوله: (أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى العَصْرَ وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا لَم يَظْهَرِ الفَيْءُ مِنْ حُجْرَتِهَا). مطابقته للترجمة ظاهرة.
قوله: (وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا) أي باقية، والواو فيه للحال.
قوله: (لَمْ يَظْهَرِ الفَيْءُ) أي الظل في الموضع الذي كانت الشَّمس فيه، وقد مرَّ في باب المواقيت:((والشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ)) معنى الظهور هنا: الصعود، يقال: ظهرت على الشيء إذا علوته، وحجرة عائشة كانت ضيِّقة الرقعة والشمس تَقلص عنها سريعًا، وما كان عليه السلام يصلِّي العصر قبل أن تصعد الشَّمس عنها.
فإن قلت: ما المراد بظهور الشَّمس وبظهور الفيء؟ أجيب: بأن المراد بظهور الشَّمس خروجها من الحجرة، وبظهور الفيء انبساطه في الحجرة، وليس بين الروايتين اختلاف؛ لأن انبساط الفيء لا يكون إلَّا بعد خروج الشمس.
قوله: (وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ) أي حمَّاد بن أسامة اللَّيثي، ترجمته في باب فضل من عَلِمَ وعَلَّمَ.
قوله: (عَنْ هِشَامٍ) أي ابن عُرْوَة المذكور في الباب.
قوله: (فِي قَعْرِ حُجْرَتِهَا) قال العَيني: هذا التعليق وَقَعَ في رواية أبي ذرٍّ والأَصِيلي وكريمة على رأس الحديث الذي عقب الباب، والصَّواب وقوعه ههنا، وأسنده الإسماعيلي عن ابن ناجية وغيره عن أبي عبد الرحمن قال: حدَّثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: ((كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يصلِّي العصرَ والشَّمسُ في قعرِ
(1)
ابن: ليس في الأصل.
حجرتِي)). انتهى.
قال شيخنا: والصَّواب تأخير التعليق عن الإسناد الموصول كما جرت به عادة البخاري، والحاصل: أنَّ أَنَس بن عياض وأبا أسامة رويا الحديث عن هشام عن أبيه عن عائشة.
والمراد بالحُجرة، وهي -بضمِّ المهملة وسكون الجيم-: البيت. انتهى.
546 -
قوله: (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ) أي الفَضْل بن دُكَين، ترجمته في باب فضل من استبرأ لدينه في كتاب الإيمان.
قوله: (قَالَ: حَدَّثَنَا ابنُ عُيَيْنَةَ) أي سُفْيان، ترجمته في بدء الوحي.
قوله: (عَنِ الزُّهْرِيِّ) أي محمَّد بن مسلم بن شِهاب، وفي «مسند الحُمَيدي» عن ابن عُيَيْنَة: حدَّثنا الزُّهْري، أي عكس ما ههنا، وفي رواية محمَّد بن مَنْصور عند الإسماعيلي عن سُفْيان: سمعته أذناي ووعاه قلبي عن الزُّهْري.
قوله: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي العَصْرَ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فِي حُجْرَتِي لَمْ يَظْهَرِ الفَيءُ بَعْدُ).
قوله: (وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ) أي ظاهرة، والواو فيه للحال.
قوله: (بَعْدُ) بالضمِّ بلا تنوين، قال العَيني:(بَعْدُ) مبني على الضمِّ؛ لأنَّه من الغايات المقطوع عنها الإضافة المنويِّ بها، ولو لم تنوِ الإضافة لقلت: من بعد بالتنوين.
قوله: (قَالَ أَبُو عَبْدَ اللهِ) أي البخاري نفسُه.
قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ) أي ابن أَنَس الإمام.
قوله: (وَيحَيَى بنُ سَعِيْدٍ) أي الأنصاري.
قوله: (وَشُعَيْبٌ) أي ابن أبي حمزة بالمهملة.
قوله: (وَابنُ أَبِي حَفْصَةَ) أي محمَّد بن ميسرة.
قوله: (وَالشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ) قال شيخنا: يعني أنَّ الأربعة المذكورين رووه عن الزُّهْري بهذا الإسناد، فجعلوا الظُّهور للشَّمس، وابن عُيَيْنَة جعله للفيء، وقد قدَّمنا توجيه ذلك وطريق الجمع بينهما، وأنَّ طريق مالك وصلها المؤلِّف في أوَّل المواقيت، وأمَّا طريق يحيى بن سعيد فوصلها الذُّهْلي في «الزُّهْريات» ، وأمَّا طريق سعيد - هو ابن أبي حمزة - فوصلها الطَّبَرَاني في «مسند الشَّاميين» ، وأمَّا طريق ابن أبي حفصة فرُوِّيناها من طريق ابن عَدِي في نسخة إبراهيم بن طَهْمان عن ابن أبي حفصة.
والمستفاد من هذا الحديث تعجيلُ صلاة العصر في أوَّل وقتها، وهذا هو الذي فهمته عائشة وكذا الرَّاوي عنها عروةُ، واحتجَّ به على عُمَر بن عبد العزيز في تأخِّيره صلاة العصر كما تقدَّم، وشذَّ الطَّحاوي فقال: لا دلالة فيه على التعجيل؛ لاحتمال أنَّ الحجرة كانت قصيرة الجدار فلم تكن تحتجب عنها إلَّا بقرب غروبها، فيدلُّ على التأخير لا على التعجيل؟ وتُعُقِّب بأنَّ الذي ذكره من الاحتمال إنَّما يتصوَّر مع اتِّساع الحجرة، وقد عُرف بالاستفاضة والمشاهدة أنَّ حُجر أزواج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لم تكن متَّسعة، ولا يكون ضوء الشَّمس باقيًا في قعر الحجرة الصغيرة إلَّا والشَّمس قائمة مرتفعة، وإلَّا متى مالت جدًا ارتفع ضوؤها عن قاع الحجرة ولو كانت الجُدُر قصيرة، قال النَّوَوي: كانت الحُجَر ضيِّقة العَرَصَة قصيرة الجدار بحيث كان طول جدارها أقلَّ من مسافة العَرَصَة بشيء يسير، فإذا صار ظلُّ الجدار مثله كانت الشَّمس بعد في أواخر العَرَصَة. انتهى.
قال العَيني: لا وجه للتعقُّب فيه؛ لأنَّ الشَّمس لا تحتجب عن الحجرة القصيرة الجدار إلَّا بقرب غروبها، وهذا يُعلم بالمشاهدة فلا يحتاج إلى المكابرة، ولا دخل هنا لاتساع الحجرة ولا لضيقها، وإنما الكلام في قِصَرِ جُدُرِها، بالنظر على هذا فالحديث حُجَّة على من يرى بتعجيل العصر في أوَّل وقتها. انتهى.
قلت: التحقيق ما قاله شيخنا، وهذا الكلام هو
المكابرة؛ لأنَّ الحسَّ يشهد على أنَّ ساحة الحجرة إذا كانت تقارب مسافة الجدار، فإنَّ الشَّمس لا تكون في ذلك القدر الزائد على مسافة الجدار إلَّا عند ارتفاع الشمس، فقول العيني: وهذا يُعلم بالمشاهدة، غير مسلَّم؛ لأنَّ المعلوم بالمشاهدة خلاف ما قاله، فالحديث حُجَّة على من خالف ذلك، والله أعلم. انتهى.
فإن قلت: عقد البخاري بابًا لوقت العصر، وذكر فيه أحاديث لا يدلُّ واحد منها على أنَّ أوَّل وقته بماذا يكون؟، بصيرورة ظلِّ كلِّ شيء مثليه أو مثله.
قال شيخنا: كأنَّ المؤلف لما لم يقع له حديث على شرطه من تعيين أوَّل وقت العصر، وهو مصير ظلِّ كلِّ شيء مثله، استغنى بهذا الحديث الدال على ذلك بطريق الاستنباط. انتهى.
وقد أخرج مسلم عدة أحاديث مصرحة بالمقصود، ولم ينقل عن أحد من أهل العلم مخالفة في ذلك إلَّا عن أبي حنيفة، فإنَّ المشهور عنه أنَّه قال: أوَّل وقت العصر مصير ظلِّ كلِّ شيء مثليه بالتثنية، قال القُرْطُبي: خالفه النَّاس كلَّهم في ذلك حتَّى أصحابه - يعني الآخذين عنه - وإلَّا فقد انتصر جماعة ممن جاء بعدهم فقالوا: ثبت الأمر بالإبراد، ولا يحصل إلَّا بعد ذهاب اشتداد الحرِّ، ولا يذهب في تلك البلاد إلَّا بعد أن يصير ظلُّ الشيء مثله، فيكون أوَّل وقت العصر عند مصير ظلِّ الشيء مثليه. وحكاية مثل هذا يُغني عن ردِّه. انتهى.
وقال العَيني: لا يلزم من عدم وقوعه له ألَّا يقع لغيره في تعيين ذلك.
وقد روى جماعة من الصحابة في هذا الباب منهم ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمَّني جبريلُ عليه السلام عندَ البيتِ مرَّتَين)) الحديث، وفيه:((صلَّى بِي العصرَ حينَ كانَ ظلُّه مثلَه)) هذا في المرَّة الأولى، وقال في الثانية:((وصلَّى بي العصرَ حينَ كانَ ظلُّه مثليه)) أخرجه أبو داود والتِّرْمِذي وقال: حديث حسن، وأخرجه ابن حبَّان في «صحيحه» والحاكم في «مستدركه» وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورواه ابن خُزَيمَة في «صحيحه» ، وقال ابن عبد البرِّ في «التمهيد» : وقد تكلَّم بعض النَّاس في حديث ابن عبَّاس هذا بكلام لا وجه له، ورواته كلُّهم مشهورون بالعلم، قال العَيني: هذا الحديث هو العمدة في هذا الباب.
وقوله: ((حِيْنَ كَانَ ظِلُّهُ مِثْلَيْهِ)) بالتثنية، وهذا آخر وقت الظُّهر عند أبي حنيفة؛ لأنَّ عنده إذا صار ظلُّ كلِّ شيء مثليه سوى فيء الزوال يخرج وقت الظُّهر ويدخل وقت العصر، وعند أبي يوسف ومحمَّد: إذا صار ظلُّ كلِّ شيء مثله يخرج وقت الظُّهر ويدخل وقت العصر، وهي رواية الحسن بن زياد عنه، وبه قال مالك والشافعي وأحمد والثوري وإسحاق، ولكن قال الشافعي: آخر وقت العصر إذا صار ظلُّ كلِّ شيءٍ مثله لمن ليس له عذر، وأما أصحاب العذر والضرورات فآخر وقتها لهم غروب الشَّمس. وإذا كان استدلال أبي حنيفة بالحديث فما يضرُّه مخالفة النَّاس له، ويؤيِّد ما قاله أبو حنيفة حديث علي بن شَيْبان قال:((قدمْنا على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، فكانَ يؤخِّر العصرَ ما دامَتِ الشَّمس بيضاءٌ نقيةٌ)) رواه أبو داود وابن ماجه، وهذا يدلُّ على أنَّه كان يصلِّي العصر عند صيرورة ظلِّ كلِّ شيء مثليه، وهو حُجَّة على خصمه، وحديث جابر: ((صلَّى بنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم العصرَ حينَ صارَ
ظلُّ كلِّ شيءٍ مثليه قدرَ ما يسيرُ الراكبُ إلى ذي الحليفةِ العَنَقَ)) رواه ابن أبي شَيْبَة بسند لا بأس به. انتهى.
قلت: ما استدلَّ به العَيني من الأحاديث لا يقاوم الأحاديث الذي استدلَّ الخصم عليه، ولو فعل هذا مخالفه لاستصرخ عليه. انتهى.
547 -
قوله: (حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ) أي أبو الحسن، ترجمته في باب ما يذكر في المناولة في كتاب العلم.
قوله: (قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ) أي ابن مبارك، ترجمته في بدء الوحي.
قوله: (قَالَ: أَخْبَرَنَا عَوْفٌ) أي الأعرابي، ترجمته في باب اتباع الجنائز من الإيمان.
قوله: (عَنْ سَيَّارِ بنِ سَلَامَةَ) أي أبو المِنْهال الرِّياحي البصري عن أبيه وأبي زرعة، وعنه شُعْبَة وحمَّاد بن سلمة.
قوله: (قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي) أي سلمة، قال شيخنا: سلامة حكى عنه ولده هنا، ولم أجد من ترجمه، وقد بعث لابنه رواية عنه في «الطَّبَراني الكبير» في ذكر الحوض. انتهى.
في هذا الإسناد التَّحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، وفيه الإخبار بصيغة الجمع في موضعين، وفيه ذكر فعل الرَّاوي ورفيقه، وفيه سؤال الراوي.
قوله: (عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ) -أي بفتح الباء الموحدة- واسمه نَضْلَة، وترجمته في باب وقت الظُّهر عند الزَّوال.
قوله: (فَقَالَ لَهُ أَبِي: كَيْفَ كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي المَكْتُوْبَةَ؟ فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الهَجِيْرَ الَّتي تَدْعُوْنَهَا الأُوْلَى حِيْنَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، وَيُصَلِّي العَصْرَ ثمَّ يَرجِعُ أَحَدُنَا إِلى رَحْلِهِ في أَقْصَى المَدِيْنَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيْتُ مَا قَالَ في المَغْرِبِ، وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ العِشَاءَ الَّتي تَدْعُوْنَهَا العَتَمَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوم قَبْلَهَا وَالحَدِيْثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَنفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الغَدَاةِ حِينَ يَعرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ، وَيَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إِلى المائَةِ).
مطابقته للترجمة في قوله: (وَيُصَلِّي العَصْرَ ثمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى المَدِينَةِ) وأخرج البخاري هذا الحديث أيضًا في باب وقت الظُّهر عند الزوال عن حَفْص بن عُمَر عن شُعْبَة عن أبي المِنْهال وهو سيَّار بن سلامة، وههنا عن محمَّد بن مقاتل عن عبد الله بن المبارك عن عَوْف الأعرابي عن سَيَّار بن سلامة عن أبي بَرزَة نَضْلَة بن عُبَيْد، وفيه تقديم وتأخير وزيادة ونقصان يظهر ذلك بالمقابلة، وقد ذكرنا هناك بما فيه الكفاية، ونذكر ههنا ما لم نذكر هناك.
قوله: (قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي) القائل هو سَيَّار وأبوه سلامة، وكان دخولهما على أبي بَرزَة زمن أُخرج ابن زياد من البصرة، قال شيخنا: وكان ذلك في سنة أربع وستين كما سيأتي في كتاب العتق، وقال الإسماعيلي: لما كان زمن أخرج ابن زياد من البصرة ووثب مروان بالشام، قال أبو المِنْهال: انطلق بي أبي إلى أبي بَرزَة وانطلقت معه، فإذا هو قاعد في ظل عُلوٍ له من قصب في يوم شديد الحرِّ، فذكر الحديث.
قوله: (المَكْتُوْبَةَ) أي الصَّلاة المفروضة الَّتي كتبها الله على عباده، قال شيخنا: استدلَّ به على أنَّ الوتر ليس من المكتوبة؛ لكون أبي بَرزَة لم يذكره، وفيه بحث. انتهى.
قال العَيني: عدم ذكره إياه لا يستلزم نفي وجوب الوتر، وقد ثبت وجوبه بدلائل أخرى.
قوله: (يُصَلِّي الهَجِيْرَ) وهو الهاجرة؛ أي صلاة الهجير، وهو وقت شدَّة الحرِّ، وسمِّي الظُّهر بذلك لأنَّ وقتها يدخل حينئذ.
قوله: (الَّتِي تَدْعُوْنَهَا الأُوْلَى) وتأنيث الضَّمير إما باعتبار الهاجرة، وإمَّا باعتبار الصَّلاة، ويروى:(يُصَلِّي الهَجِيْرَةَ) وإنما قيل لها: الأولى؛ لأنَّها أوَّل صلاة صلِّيت عند إمامة جبريل عليه السلام حين بيَّن له الصَّلاة الخمس، وقال البَيْضاوي: لأنَّها أوَّل صلاة النَّهار.
قوله: (حِيْنَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ) أي حين تزول عن وسط السَّماء إلى جهة المغرب، من الدحض، وهو الزلق، ومقتضى ذلك: إنَّه كان يُصلِّي الظهر في أوَّل وقتها، ولكن لا يعارض حديث الإبراد؛ لما ذكرنا وجه ذلك مستقصىً.
قال شيخنا: وفي رواية لمسلم: ((حينَ تزولُ الشمسُ)) ومقتضى ذلك: إنَّه كان يصلِّي الظُّهر في أوَّل وقتها ولا يخالف ذلك الأمر بالإبراد لاحتمال أن يكون زمن البرد وقبل الأمر بالإبراد، أو عند فقد شروط الإبراد؛ لأنَّه لا يختصُّ بشدَّة الحرِّ، أو لبيان الجواز، وقد تمسَّك بظاهره من قال: إنَّ فضيلة الوقت لا تحصل إلَّا بتقديم ما يمكن تقديمه من طهارةٍ وسترٍ وغيرها قبل دخول الوقت، ولكن الذي يظهر أنَّ المراد بالحديث التقريب، فتحصل الفضيلة لمن لم يتشاغل عند دخول الوقت بغير أسباب الصَّلاة. انتهى.
قوله: (إِلَى رَحْلِهِ) -بفتح الرَّاء وسكون الحاء المهملة- وهو مسكن الرجل وما يستصحبه من الأثاث.
قوله: (فِي أَقْصَى المَدِيْنَةِ) صفة لرحل، وليس ظرف للفعل.
قوله: (وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ) أي بيضاء نقية، والواو فيه للحال، قال شيخنا: قال الزَّين ابن المنيِّر: المراد بحياتها قوة أثرها حرارةً ولونًا وشعاعًا وإنارةً، وذلك لا يكون بعد مصير ظلِّ كلِّ شيءٍ مثليه، وفي «سنن أبي داود» بإسناد صحيح عن خيثمة أحد التَّابعين قال: حياتها أن تجد حرَّها. انتهى.
قوله: (وَنَسِيْتُ مَا قَالَ فِي المَغْرِبِ) قائل ذلك هو سَيَّار، بيَّنه أحمد في روايته عن حجَّاج عن شُعْبَة به.
قوله: (وَكَانَ) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ العِشَاءَ) أي صلاة العشاء، قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على استحباب التأخير قليلًا؛ لأنَّ التنصيص يدلُّ عليه، وتُعُقِّب بأنَّه بعضٌ مطلقٌ لا دلالة فيه على قلَّةٍ ولا كثرة، وسيأتي من باب وقت العشاء من حديث جابر: أنَّ التأخير إنَّما كان لانتظار من يجيء لشهود الجماعة. انتهى.
قوله: (الَّتِي تَدْعُوْنَهَا العَتَمَةَ) -بفتح العين المهملة والتاء المُثَنَّاة من فوق- والعتمة من الليل: بعد غيبوبة الشَّفق، وقد عتم اللَّيل؛ أي أظلم، وفيه إشارة إلى ترك تسميَّتها بذلك، قال شيخنا: وسيأتي الكلام عليه في باب مفرد. قال الطِّيبي: ولعل تقييده الظُّهر والعشاء دون غيرهما للاهتمام بأمرهما، فتسمية الظهر بالأولى يشعر بتقديمها، وتسمية العشاء بالعتمة يشعر بتأخيرها.
قوله: (وَالحَدِيثَ بَعدَهَا) أي التحديث، قال شيخنا: وسيأتي الكلام على كراهة النَّوم قبلها في باب مفرد. انتهى.
قوله: (وَكَانَ يَنْفَتِلُ) أي ينصرف من الصَّلاة، أو يلتفت إلى المأمومين.
قوله: (مِنْ صَلَاةِ الغَدَاةِ) أي الصبح، وفيه: إنَّه لا كراهة في تسمية الصُّبح بذلك.
قوله: (حِيْنَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيْسَهُ) تقدَّم الكلام على اختلاف ألفاظ الرُّواة فيه، واستدلَّ بذلك على التعجيل بصلاة الصبح؛ لأنَّ ابتداء معرفة الإنسان وجه جليسه يكون في أواخر الغلس، وقد صرَّح بأنَّ ذلك كان عند فراغ الصلاة، ومن المعلوم من عادته صلى الله عليه وسلم ترتيل القراءة وتعديل الأركان، بمقتضى ذلك إنَّه كان يدخل
فيها مُغلسًا، وادعى الزَّين ابن المنيِّر: إنَّه مخالف لحديث عائشة الآتي حيث قالت فيه: (لَا يُعْرَفْنَ مِنَ الغَلَسِ) وتعقِّب بأن الفرق بينهما ظاهر، وهو أنَّ حديث أبي برزة متعلِّق بمعرفة من هو مستقرٌّ جالس إلى جنب المصلِّي فهو ممكن، وحديث عائشة متعلِّق بمن هو متلفِّف مع إنَّه على بعد فهو بعيد.
قوله: (وَيَقْرَأُ) أي في الصُّبح (بِالسِّتِّيْنَ إِلَى المَائَةِ) أي من الآي، وقدَّرها في الطَّبَرَاني بسورة الحاقَّة ونحوها، وتقدَّم في باب وقت الظُّهر بلفظ:(مَا بَيْنَ السِّتِيْنَ إِلَى المَائَةِ) وأشار الكِرْماني إلى أنَّ القياس أن يقول: ما بين الستين والمائة؛ لأنَّ لفظ (بَيْنَ) يقتضي الدخول على متعدِّد، قال: ويحتمل أن يكون التقدير: ويقرأ ما بين الستين أو فوقها إلى المائة، فحذف لفظ (فوقها) لدلالة الكلام عليه.
وفي السِّياق تأدب الصغير مع الكبير، ومسارعة المسؤول بالجواب إذا كان عارفًا به.
وقال النَّوَوي: هذا الحديث حُجَّة على الحنفيَّة حيث قالوا: لا يدخل وقت العصر حتَّى يصير ظلُّ الشيء مثليه. قال العَيني: لا نسلِّم أنَّ الحنفيَّة قالوا ذلك، وإنما هو روايةُ أسد بن عَمْرو عن أبي حنيفة وحدَه، وروى الحسن عنه: أنَّ أوَّل وقت العصر إذا صار ظلُّ كلِّ شيء مثله، وهو قول أبي يوسف وزُفر واختاره الطَّحاوي، وروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: إذا صار الظلُّ أقلُّ من قامتين يخرج وقت الظُّهر، ولا يدخل وقت العصر حتَّى يصير قامتين. وصحَّحه الكَرْخي، وفي رواية الحسن أيضًا: إذا صار ظلُّ كلِّ شيءٍ قامة خرج وقت الظُّهر، ولا يدخل وقت العصر حتَّى يصير قامتين، وبينهما وقت مهمل وهو الذي يسمِّيه الناس: بين الصلاتين.
وحكى ابن قُدامة في «المغني» عن ربيعة: أنَّ وقت الظُّهر والعصر إذا زالت الشَّمس، وعن عطاء وطاوس: إذا صار كلُّ شيءٍ مثله دخل وقت الظُّهر، وما بعده وقتٌ لهما على سبيل الاشتراك حتَّى تغرب الشَّمس. وقال ابن راهويه وأبو ثور والمُزَني والطَّبَرني: إذا صار ظلُّ كلِّ شيء مثله دخل وقت العصر، ويبقى وقت الظُّهر قدرَ ما يصلِّي أربع ركعات، ثمَّ يتمحَّض الوقت للعصر، وبه قال مالك. انتهى.
548 -
قوله: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْلَمَةَ) أي القَعنَبي، ترجمته في باب من الدِّين الفرار من الفتن.
قوله: (عَنْ مَالِكٍ) أي الإمام، ترجمته في بدء الوحي.
قوله: (عَنْ إِسْحاق بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي طَلْحَةَ) واسمه: زيد بن سهل الأنصاري، ابنُ أخي أَنَس بن مالك، يكنَّى أبا يحيى، مات سنة أربع وثلاثين ومائة، قال الواقدي: كان مالك لا يُقَدَّمُ عليه أحدًا في الحديث. قلت: أعاد العَيني ترجمة إسحاق، وقد تقدَّمت في باب من قعد حيث ينتهي به المجلس.
قوله: (عَنْ أَنَسٍ) أي ابن مالك رضي الله عنه، ترجمته في باب من الإيمان أن يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه.
في هذا الإسناد: التَّحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه القول.
قوله: (قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي العَصْرَ، ثمَّ يَخْرُجُ الإِنْسَانُ إِلى بَنِي عَمْرو بنِ عَوْف فَيَجِدُهُمْ يُصَلُّوْنَ العَصْرَ).
مطابقته هذا الحديث ومطابقة بقيَّة أحاديث هذا الباب للترجمة من حيث إنَّ دلالتهما على تعجيل العصر، وتعجيله لا يكون إلَّا في أوَّل وقته، وهو عند صيرورة ظلِّ كلِّ شيء مثله، قال العَيني: أو مثليه على الخلاف.
هذا الحديث أخرجه