الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن يرجع فيقول: ألا إن العبدَ نام -كما تقدم-، يعني: أنَّ غلبةَ النوم على عينيه منعتْهُ من تبيين الفجر. وهو حديث أخرجه أبو داود وغيره من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر موصولاً مرفوعاً ورجاله ثقاتٌ حفاظ. ٌ
لكن اتفقَ أئمةُ الحديث: علي بن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري والذهلي وأبو حاتم وأبو داود والترمذي والأثرم والدارقطني على أن حمَّادًا أخطأ في رفعه، وأن الصواب وقفُه على عمر بن الخطاب أنه هو الذي وقع ذلك مع مؤذنه وأن حمادًا انفرد برفعه ومع ذلك فقد وُجِد له متابع: أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن زَرْبِيٍّ - وهو بفتح الزاي وسكون الراء بعدها موحدة ثم ياء كياء النسب - فرواه أيوب عنه موصولاً، لكن سعيدَ ضعيفٌ.
ورواه عبدُ الرزاق عن مَعْمَر عن أيوب أيضاً لكنَّه أعضَلَه فلم يذكر نافعاً ولا ابن عمر.
وله طريق أخرى عن نافع عند الدارقطني وغيره، اختُلِف في رفعها ووقفِها أيضاً، وأخرى مرسلةٌ من طريق يونس بن عبيد وغيره عن حُميد بن هلال، وأخرى من طريق شعبة عن قتادة مرسلةً، ووصلها أبو يوسف عن سعيد بذكر أنس. وهذه طرق تقوَّى بعضُها ببعض قوةً ظاهرة، فلهذا والله أعلم استقر بلال يؤذن الأذان الأول.
وسنذكر اختلافهم في تعيين الوقت المراد من قوله: (يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ) في الباب الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قوله: (بِلَيْلٍ) الباء فيه للظرفية.
(13)
بَابُ الأَذَانِ قَبْلَ الفَجْرِ
أي هذا بابٌ في بيان حكم الأذان قبل طلوع الفجر، هل هو مشروع أم لا؟ وميلُ البخاري إلى الإعادة بدليل إيرادِه الأحاديثَ في هذا الباب الدالة على الإعادة، وقد بيَّنَّا المذاهبَ فيه مفصلةً فيما مضى.
قال شيخنا: وإن كان إعادةً لكن لا يخلو عن فائدة، وإلى مشروعيته مطلقاً ذهب الجمهور وخالف الثوري وأبو حنيفة ومحمد، وإلى الاكتفاء مطلقاً ذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم وخالف ابنُ خزيمة وابن المنذر وطائفة من أهل الحديث، وقال به الغزالي في «الإحياء» .
وادعى بعضهم أنه لم يرد في شيء من الحديث ما يدل على الاكتفاء. وتُعُقِّب بحديث الباب، وأجيب بأنه مسكوت عنه فلا يَدُلُّ. وعلى التنَزُّلِ فمحله فيما إذا لم يَرِد نطقٌ بخِلافه، وهنا قد ورد.
وحديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما لا يُشعر بعدم الاكتفاء، وكأنَّ هذا هو السر في إيراد البخاري لحديثيهما في هذا الباب عقب حديث ابن مسعود، نعم حديثُ زياد بن الحارث عندَ أبي داود يدل على الاكتفاء، فإن فيه أنه أذَّنَ قبل الفجر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه استأذنه في الإقامة فمنعه إلى أن طلع الفجر فأمره فأقام. لكن في إسناده ضعف.
وأيضاً فهي واقعةُ عين وكانت في سفر، ومن ثَمَّ قال القرطبي: إنه مذهب واضحٌ غيرَ أن العمل المنقولَ بالمدينة على خلافِه فلم يَرُدَّهُ إلا بالعمل على قاعدة المالكية.
وادعى بعض الحنفية كما حكاه السروجي
منهم: أن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الأذان وإنما كان تذكيراً أو تسحيراً كما يقع للناس اليوم. وهذا مردودٌ لأن الذي يصنعه الناس اليوم مُحدَثٌ قطعاً، وقد تضافرت الطرق على التغيير بلفظ الأذان، فحمْلُه على معناه الشرعي مقدم، ولأنَّ الأذان الأول لو كان بألفاظه مخصوصةً لما الْتَبَسَ على السامعين. وسياق الخبر يقتضي أنه خشي عليهم الالتباس.
قال العيني: لفظ الأذان يتناول معناه اللغوي والشرعي، وقد قام دليلٌ من الشارع أن المراد من أذان بلال ليسَ معناه الشرعي، وهو أذان ابنُ أمِّ مكتوم، ولو لم يكن كذلك لم يوجَد الفرقُ بين أذانيهما، والحال أن الشارع فرَّق بينهما، وقد قال:((إن أذان بلال لإيقاظ النائم وليرجع القائم))، وقال لهم:((لا يغرنكم أذان بلال)). وجعل أذان ابن أم مكتوم هو الأصل كما قررناه فيما مضى، وتضافُر الطرق لا يصادم ما ذكرناه. انتهى.
وادعى ابن القطان أن ذلك كان في رمضان خاصة
(1)
وفيه نظر. انتهى.
621 -
قوله: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) أي المعروف بشيخ الإسلام، ترجمته في باب من قال الإيمان هو العمل.
قوله: (قَالَ: زُهَيْرٌ) أي ابن معاوية الجعفي، ترجمته في باب الصلاة من الإيمان.
قوله: (قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ) أي ابن طرخان، ترجمته في باب من خص بالعلم قوماً.
قوله: (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ) أي بفتح النون عبدُ الرحمن، وقد مر في باب الصلاة كفارة.
قوله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه ترجمته في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس.
في هذا الإسناد: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه القول في موضعين، وفيه أحدُ الرواة من المخضرمين وهو أبو عثمان.
قلت: وقد تقدم معنى الخضرمة في باب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا في كتاب الإيمان. انتهى.
قوله: (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ - أَوْ وَاحَدًا مِنْكُمْ - أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سَحُورِهِ
(2)
، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ - أَوْ يُنَادِي بِلَيْلٍ - لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ، وَلِيُنَبَّهَ نَائِمَكُمْ، وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ الفَجْرُ - أَوِ الصُّبْحُ -» وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ وَرَفَعَهَمَا إِلَى فَوْقُ وَطَأْطَأَ إِلَى أَسْفَلُ حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا وَقَالَ زُهَيْرٌ: «بِسَبَّابَتَيْهِ إِحْدَيهِمَا فَوْقَ الأُخْرَى، ثُمَّ مَدَّهَمَا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ)
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهي أن أذان بلالٍ كان قبل الفجر، لأنه أَخبَر أنه كان يؤذن بليل، يعني: قبل طلوع الفجر.
وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضاً في الطلاق عن القَعنَبي عن يزيد بن زُريع، وفي خبر الواحد عن مسدد عن يحيى القطان. وأخرجه مسلم في الصوم عن زهير بن حرب وعن محمد بن نمير وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وعن إسحاق بن إبراهيم. وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن يونس به، وعن مسدد به، وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن علي عن يحيى به، وفي الصلاة عن إسحاق بن إبراهيم. وأخرجه ابن ماجه في الصلاة عن يحيى بن حكيم.
قوله: (لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ) بنصب (أَحَدَكُمْ)، وفاعله هو قوله:(أَذَانُ بِلَالٍ).
قوله:
(1)
في (الأصل) : ((خصاصة)) والصواب ((خاصة)).
(2)
في (الأصل) : ((سجوده)) والصواب ((سحوره)).
(أَوْ أَحَدًا مِنْكُمْ) شكٌّ من الراوي، وقال صاحب «التلويح» - أي مغلطاي -: يحتمل أن يكون هذا الشك من زهير، فإن جماعة رووه عن سليمان التيمي فقالوا:((لا يمنعن أحدَكم أذان بلال)). وقال الكِرماني: (أَوْ وَاحَدًا مِنْكُمْ)، ثم قال: هل فَرْقٌ بين (أَحَدَكُمْ) أو (وَاحَدًا مِنْكُمْ)؟ قلتُ: كلاهُما عام، لكنَّ الأول من جهة أنه اسم جنسٍ مضاف، والثاني: أنه نكرة في سياق النفي. انتهى.
قال العيني: الفرقُ بين أحد وواحد من جهة المعنى: أن أحداً يرجع إلى الذات، وواحداً يرجع إلى الصفات.
قوله: (مِنْ سَحُورِهِ) بفتح السين، اسمٌ لما يؤكل في السُّحور، ويجوز الضَّمُّ وهو اسم الفعل أي التَسَحُّر كالوَضوء والوُضوء.
قال العيني: وفي بعض النسخ: <من سَحَرِهِ>، ولم أعلم صِحَّتَه. انتهى.
قوله: (فَإِنَّهُ) - أي فإن بلالاً - (يُؤَذِّنُ أَوْ يُنَادِي) شَكٌّ من الراوي ومعناهما واحد.
قوله (بِلَيْلٍ) الباء للظرفية، أي في ليل.
قوله: (لِيَرْجِعَ) بفتح الياء وكسر الجيم المخففة، يُستعمل هكذا لازماً ومتعدياً. تقول: رجع زيدٌ ورجعتُ زيداً، أو لا يقال في المتعدي بالتثقيل. وههنا مُتَعَدٍّ وفاعلُه: بلال.
قوله: (قَائِمَكُمْ) بالنصب مفعولُه، وقال الكِرماني:(لِيَرْجِعَ)، إما من الرجوع وإما من الرَّجْعِ. و (قَائِمَكُمْ)، مرفوع أو منصوب؟
قال العيني: فُهِم منه أنه جوز الوجهين ههنا: أحدُهما كونُ (لِيَرْجِعَ) لازماً، ويكون (قَائِمَكُمْ) فاعلُه مرفوعاً، والآخر: يكون متعدياً، ويكون (قَائِمَكُمْ) منصوباً على أنه مفعول له.
قوله: (وَلِيُنَبَّهَ) من التنبيه وهو الإنباه، وفي بعضها: <ولينتبه> من الانتباه. قال العيني: جُوِّز الوجهان فيه أيضاً قال ثم قال: معناه أنه إنما يؤذن بالليل ليُعلِمكم أن الصبح قريب، فيَرُدَّ القائم المتهجدَ إلى راحته لينام لحظةً ليصبح نشيطًا، ويوقظ نائمَكم ليتأهب للصبح بفعل ما أراده من تهجدٍ قليلٍ أو تسحُّرٍ أو اغتسالِ أو لإيتارٍ إن نام عن الوتر، وهذا كما ترى جوَّز الكِرماني الوجهين في كل واحد من قوله:(لِيَرْجِعَ) و (لِيُنَبَّهَ) ولم يُبيِّن أنهما رواية أم لا، والظاهر أنه تصرف من جهة المعنى. انتهى.
قال شيخنا فيما تقدم آنفاً: ولا يقال في المتعدي بالتثقيل، فعلى هذا من رواه بالضم والتثقيل أخطأ، فإنه يصير من الترجيع وهو الترديد وليس مراداً هنا وإنما معناه يُرَدَّ القائمُ، أي كما تقدم. انتهى.
قال العيني: إن كان خطؤه من جهة الرواية فيمكن، وإلا فمن جهة المعنى فليس بخطأ، وتعليل هذا القائل الخطأ بقوله: فإنه يصير من الترجيع وهو الترديد وليس مراداً هنا. فيه نظر، لأن الذي رَوى من الترجيع يقول: ما أردت به الترديد، وإنما أردت به التعدية، فإنَّ رَجَع الذي هو لازم يجوز تعدِّيه بالتضعيف كما في سائر الألفاظ اللازمة. انتهى.
قوله: (وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ) بالياء آخر الحروف، أي الشخصُ. وهذا من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: (الفَجْرُ أَوِ الصُّبْحُ) على الشك من الراوي هل قال النبي صلى الله عليه وسلم الفجر أو الصبح. واعلم أن قوله: (الفَجْرُ) اسمُ ليس، وخبرُه هو قوله:(أَنْ يَقُولَ).
قوله: (وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ وَرَفَعَهَا) أي أشار. هذه رواية الأكثر، وفي رواية الكُشْمِيهَني: <بإصبعيه ورفعهما>،
قال الكرماني: ويروى: <بإصبعه> بلفظ المفرد، ولم يذكُرْهُ غيره. وفي الأصبع عشر لغات: فتح الهمزة، وضمُّها، وكسرُها، وكذلك الباء فهذه تسعة، والعاشر أُصبُوع.
قوله: (إِلَى فَوْقُ) رُوي مبنياً على الضم على نية الإضافة، ومنوناً بالجر على عدم نيتها، وهكذا حكم الأسفل لكنه غير منصرف فجره بالفتح، وكذا سائر الظروف التي تُقطع عن الإضافة، وقُرئ بهما في قوله تعالى:{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4].
قوله: (وَطَأْطَأَ) على وزن: دَحرَجَ، أي: خفض إصبعه إلى أسفل. وأشار به النبي صلى الله عليه وسلم إلى الفجر الكاذب وهو الضوءُ المستطيل من العُلُوِّ إلى السُّفْلِ، وهو الذي تسميه العرب ذنبَ السِّرْحان، وهو من الليل ولا يدخل به وقت الصبح ويجوز التسحر ونحوه.
قوله: (حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا وَقَالَ زُهَيْرٌ بِسَبَّابَتَيْهِ إِحْدَيهِمَا فَوْقَ الأُخْرَى، ثُمَّ مَدَّهَمَا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ) قال شيخنا: أطلقَ القولَ هُنا على الإشارة.
في قوله: (قَالَ زُهَيْرٌ بِسَبَّابَتَيْهِ) قال العيني: والسبابة من الأصابع التي تلي الإبهام، وسميت بذلك لأن الناس يشيرون بها عند الشتم.
قال شيخنا: وكأنه جمع بين إصبعيه ثم فرقهما ليحكِيَ صفةَ الفجر الصادق، لأنه يطلُع معترضًا ثم يعُمُّ الأفقَ ذاهبًا يمينًا وشمالًا بخلاف الفجر الكاذب فإنه يظهر في أعلى السماء ثم ينخفض، وإلى ذلك أشار بقوله: رفع وطأطأ.
وفي رواية الإسماعيلي من طريق عيسى بن يونس عن سليمان: ((فإن الفجر ليس هكذا ولا هكذا ولكن الفجر هكذا)) فكأن أصل الحديث كان بهذا اللفظ مقروناً بالإشارة الدالة على المراد، ولهذا اختلفت عبارةُ الرواة، وأخصرُ ما وقع فيها روايةُ جرير عن سليمان عند مسلم:((ليس الفجرُ المعترضُ ولكنْ المستطيلُ)).
قال العيني: رواية مسلم: ((لا يغرنكم من سحوركم أذانُ بلال، ولا بياضُ الأفق المستطيل هكذا، حتى يستطير هكذا)). وحكاه حماد بن زيد، وقال: يعني معترضاً. وفي رواية أبي الشيخ من طريق شعبة عن سوادة: سمعت سَمُرة يخطب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا يغرنكم أذان بلال، ولا هذا البياض حتى يبرُق الفجرُ أو ينفجر الفجر)). انتهى.
فيه: أن الأذان الذي كان يؤذِّنُه بلال رضي الله عنه كان ليرجعَ القائم وإيقاظِ النائم، وبه قال أبو حنيفة. قال: ولا بد من أذان آخر كما فعل ابن أم مكتوم، وهو قول الثوري أيضاً، وقد ذكرنا اختلاف العلماء فيه فيما مضى.
قال شيخنا: وتمسك الطحاوي بحديث ابن مسعود هذا لمذهبه فقال: قد أَخبَر أن ذلك النداء كان لما ذُكِر لا للصلاة، وتُعُقِّبَ بأن قوله: لا للصلاة. زيادةٌ في الخبر وليس فيه حصر فيما ذُكِر.
فإن قيل: تقدَّمَ في تعريف الأذان الشرعي أنه إعلامٌ بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة، والأذان قبل الوقت ليس إعلاماً بالوقت، فالجواب أن الإعلام بالوقت أعمُّ من أن يكون إعلاماً بأنه دَخَل أو قَارَبَ أن يدخل وإنما اختصت الصبح بذلك من بين الصلوات لأن الصلاة في أول الوقت مُرَغَّبٌ فيه، والصبح يأتي غالبا عقب نومٍ فناسب أن يُنَصَّب
من يوقِظُ الناس قبلَ دخول وقتها ليتأهبوا ويدركوا فضيلة أول الوقت والله أعلم.
قال أبو الفتح القشيري: الذي قالوا يجوز الأذان للصبح قبل دخول وقتِه اختلفوا في وقتِه، فذكر بعضُ الشافعية أنه يكون في وقت السحر من الفجر الصادق والكاذب، قال: ويُكره التقديم على ذلك الوقت، وعند البعض: يؤذَّن عند انقضاء صلاة العَتَمة من نصف الليل، وهو الأصح من أقوال أصحاب الشافعي.
والقول الثاني: عند طلوع الفجر في السحر، قال النووي: وبه قطع البغوي وصححه القاضي حسين والمتولي.
الثالث: يؤذَّن لها في الشتاء لسُبع يبقى من الليل، وفي الصيف لنصفِ سُبع يبقى.
والرابع: من ثلث الليل آخر الوقت المختار.
والخامس: جميعُ الليل وقتٌ لِأَذان الصبح، حكاه إمامُ الحرمين وقال: لولا حكاية أبي علي له، وأنه لم يَنقل إلا ما صح عندَه لما استخرتُ نقلَه، وكيف يخشى الدعاءَ لصلاة الصبح في وقت الدعاء للمغرب؟ والسرفُ في كل شيء مطَّرَح.
وأما السُبع ونصف السُبع فحديث باطل عند أهل الحديث، وإنما رواه الشافعي عن بعض أصحابه عن الأعرج عن إبراهيم عن محمد عن عمارة عن أبيه عن جده عن سعد
(1)
القرظ، وهو مخالِفٌ لمذهبه فإنه قال: كان أذانُنا في الشتاء لسُبْعٍ ونصف سُبع يبقى من الليل، وفي الصيف لسُبع يبقى منه.
وقال ابن الأثير في «شرح المسند» : وتقديمُ الأذان على الفجر مستحب. وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وأبو يوسف. وفيه بيانُ الفجر الكاذب والصادق وفيه زيادة الإيضاح بالإشارة باليد للتعليم.
وقال المهلب: يؤخذ منه أن الإشارة تكون أقوى من الكلام. انتهى.
قلتُ: وقد غلَّبَ الفقهاءُ الإشارةَ على العِبارة في مواطنَ معروفةٍ وأن الراوي يتحفظ في الرواية فلا يَجزِم بشيء مُشَكٍّ وإن كان المعنى لا يختلف.
وفيه: تعليمُ الميقات للأحكام الشرعية، وتقريرُه لغير المؤذنين. انتهى.
622 -
623 - قوله: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) قال شيخنا: لم أره منسوبًا، وتردد فيه الجِيَّاني، أي فقال: يحتمل أن يكون إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أو إسحاق بن منصور الكَوْسَج. وهو عندي ابنُ إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهَوْيه كما جزم به المِزِّي - أي أبو الحجاج الدمشقي - في «أطرافه» أنه إسحاق بن إبراهيم، ويدل عليه تعبيره بقوله:«أخبرنا» ، فإنه لا يقول قط:«حدثنا» ، بخلاف إسحاق بن منصور وإسحاق بن نصر.
وأما ما وقع بخط الدمياطي - أي على حاشية «الصحيح» - أنه هو ابن شاهين الواسطي فليس بصواب لأنه لا يُعرف له عن أبي أسامة شيءٌ لأن أبا أسامة كوفي وليس في شيوخ ابن شاهين أحدٌ من أهل الكوفة. انتهى.
قال العيني: عدم معرفته بعدم رواية ابن شاهين عن أبي أسامة لا يستلزم العدم مطلقاً، وجهلُ الشخص بشيء لا يستلزم جهلَ غيره به. انتهى.
قلتُ: التصرف في الرواية بالأمور العقلية لا يتمشَّى عند أهل الفن، فإن الرواية أمرٌ نقلي، ولهذا يقع للكِرماني أمورٌ يتصرف فيها بالعقل وتكون أمرُ الرواية بخلافه، فإذا قال الحافظ المطلع: ليس في شيوخ فلان كوفي. كيف ثبت له خلاف ذلك من غير دليل! انتهى.
ترجمة إسحاق بن راهَوْيه في باب فضل من علِم
(1)
في (الأصل) : ((سعيد)) والصواب ((سعد)).
وعلَّم، وكذا ترجمةُ إسحاق بن منصور وإسحاق بن نصر به. فإن قلتَ: هذا الالتباس قدحٌ في الإسناد؟ قال العيني: لأنَّ أيًّا كان منهم فهو عدلٌ ضابط بشرط البخاري. انتهى.
قوله: (قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ) أي حمادُ بن أسامة، ترجمته في باب فضل من علِم وعلَّم أيضاً.
قوله: (قَالَ: عُبَيْدُ اللَّهِ) بتصغير العبد، هو: عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني العمري العدوي القرشي، ترجمته في باب الصلاة في مواضع الإبل.
قوله: (حَدَّثَنَا عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ) أي ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ترجمته في باب من بدأ بالحِلاب أو الطيب.
قوله: (عَنْ عَائِشَةَ) أي أم المؤمنين رضي الله عنها، ترجمتها في بدء الوحي.
قوله: (وَعَنْ نَافِعٍ) أي جرجس، ترجمته في باب العلم والفتيا.
قوله: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) أي عبد الله، ترجمته في كتاب الإيمان.
قوله: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَولُهُ: (وَحَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ عِيسَى) أي أبو يعقوب المرْوَزِي، ترجمته في باب من توضأ من الجنابة.
قوله: (قَالَ: حَدَّثَنَا الفَضْلُ بْنُ مُوسَى) أي السيناني. وسينان بكسر السين
(1)
قرية من قرى مرو، ترجمته في
(2)
.
قوله: (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ)
في هذا الإسناد: أنه أخرج هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر من وجهين ذَكَر له في أحدهما إسنادين: نافع عن ابن عمر، والقاسم عن عائشة. والوجه الثاني اقتصر فيه على القاسم عن عائشة.
وفيه التحديث بصيغة الإفراد عن إسحاق وعن يوسف، ويروى بصيغة الجمع عن إسحاق وبصيغة الجمع أيضاً في ثلاثة مواضع: عبيد الله عن القاسم، والفضل عن عبيد الله، ويوسف عن الفضل. وفيه الإخبار بصيغة الجمع إسحاق عن أبي أسامة. وفيه: العنعنة في سبعة مواضع، وهو ظاهر لا يخفى. وفيه: القول في أربعة مواضع: بعد إسحاق وبعد أبي أسامة وبعد يوسف وبعد الفضل.
وفيه قوله: (قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: حَدَّثَنَا عَنِ القَاسِمِ) فاعل، هو أبو أسامة، وعبيد الله هو القائل بقوله:(حَدَّثَنَا). وفيه: تقديمٌ وتأخيرٌ، وأصلُ التركيب: قال أبو أسامة: حدثنا عبيد الله عن القاسم، وكأنه راعى لفظ شيخه ولم يذكره على الأصل.
وفيه قوله: (وَعَنْ
(3)
نَافِعٍ) عَطْفٌ على القاسم، أي: قال عبيد الله عن نافع أيضاً.
وفيه كلمة: (ح) في أكثر النسخ، وهي إشارةٌ إلى التحويل من إسناد إلى إسناد آخر قبلَ ذكر متن الحديث، أو إشارةٌ إلى الحائل أو إلى الحديث، وقد مرَّ في الكتاب مثلُ هذا في غير موضع.
قوله: (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ)
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهو أذان بلال في الليل قبل دخول وقت الفجر.
قوله: (حَتَّى يُؤَذِّنَ)، في رواية الكُشْمِيهَني: <حتى ينادي>، وقد أورده في الصيام بلفظ:((حتى يؤذن))، وزاد في آخره:((فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر)). وقال القاسم: لم يكن بين أذانيهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا.
قال شيخنا: وفي هذا تقييد لما أُطلِق في الروايات الأخرى من قوله: (إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ
(1)
في (الأصل) : ((الشيباني وشيبان بكسر الشين)) والصواب ((السيناني وسينان بكسر السين)).
(2)
في (الأصل) : بياض بقدر كلمة بعد قوله: ((ترجمته في))
(3)
في (الأصل) : ((عن)) والصواب ((وعن)).
بِلَيْلٍ)، ولا يقال إنه مرسل لأن القاسم تابعي فلمْ يدرك القصة المذكورة، لأنه ثبت عند النَّسائي من رواية حفص بن غياث وعند الطحاوي من رواية يحيى القطان كلاهما عن عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها: فذكر الحديث. قالت: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا.
وعلى هذا فمعنى قوله في رواية البخاري: قال القاسم. أي في روايته عن عائشة. وقد وقع عند مسلم من رواية ابن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مثلُ هذه الزيادة وفيها نظر، أو في صحته في كتاب «المدرج» ، وتثبت الزيادة أيضاً في حديث أُنيسة الذي تقدمت الإشارةُ إليه.
وفيه حجة لمن ذهب إلى أن الوقت الذي يقع فيه الأذان قبل الفجر هو وقت السحر، وهو أحد الأوجه في مذهب الشافعي واختاره السبكي في «شرح المنهاج» وحكى تصحيحه عن القاضي حسين والمتولي، قال: وقطع به البغوي، وكلام ابن دقيق العيد يُشْعِر به، فإنه قال بَعدَ أَنْ حكاه: يُرجِّح هذا بأن قوله: (إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ) خبرٌ يتعلق به فائدةُ السَّامعين قطعاً، وذلك إذا كان وقت الأذان مشتبهاً محتملاً لأنْ يكونَ عند طلوع الفجر، فبيَّنَ صلى الله عليه وسلم أنَّ ذلك لا يمنع الأكل، بل الذي يمنعه طلوعُ الفجر الصادق. قال: وهذا يدل على تقارب وقت أذان بلال من الفجر.
قال شيخنا: ويقويه أيضاً ما تقدمَ من أن الحكمة في مشروعيته التأهبُ لإدراك الصبح في أول وقتها. وصحح النووي في أكثر كتبه أنَّ مبدأه من نصف الليل الثاني، وأجاب عن الحديث في شرح مسلم فقال: قال العلماء: معناه أن بلالًا كان يؤذِّن ويتربَّصُ بعد أذانه للدعاء ونحوِه، فإذا قارب طلوعُ الفجر نزل فأخبر ابنَ أمَّ مكتوم فيتأهب للطهارة ثم يرقى ويشرع في الأذان مع أول وقت طلوع الفجر. وهذا مع وضوح لمخالفته لسياق الحديث يحتاج إلى دليل خاص لما صححه حتى يسوغ له التأويل. ووراء ذلك أقوالٌ أخرى معروفة في الفقهيات. انتهى.
قال الكِرماني: قالت الحنفية: لا يسن الأذان قبل وقت الصبح. قال الطحاوي: إن ذلك النداء من بلال ليُنبِّه النائم ويَرجعَ القائم لا للصلاة، وقال غيرُه: إنه كان نداءً لا أذانًا، كما جاء في بعض الروايات أنه كان ينادي.
أقول: للشافعية أن يقولوا: المقصودُ بيانُ أن وقوعَ الأذان قبل الصبح، وتقريرُ الرسول عليه الصلاة والسلام له، وأما أنه للصلاة أو لِغرضٍ آخر، فذلك بحث آخر. وأما رواية:(كان ينادي)، فمعارَض برواية:(كان يؤذن). والترجيح معنا لأنَّ كلَّ أذانٍ نداءٌ بدون العكس، فالعمل برواية:(يُؤَذِّنُ) عملٌ بالروايتين، وجمْعٌ بين الدليلين، والعكسُ ليس كذلك. انتهى.
قال العيني: أراد الكِرماني أن ينتصرَ لمذهبه ولكن لم يأت بشيء عليه قَبول، فقوله: قال الطحاوي: إن ذلك النداء من بلال لينبه النائم ويرجع القائم، هو من كلام الشارع، فإن أراد بذلك الاعتراض عليه فهو باطل. وقوله: لا للصلاة، مسَلَّم
عندهم أيضاً، حتى لو صلى بذلك الأذان صلاة الفجر لا يجوز. وقوله: المقصود بيان أن وقوع الأذان قبل الصبح، فهذا من نازَعَهم فيه، ونحن أيضاً نقول: إنه وقع قبل الصبح، ولكن لا يُعتد به في حق الصلاة. وقوله: وتقرير الرسول عليه السلام له، يردُّه قوله عليه السلام لبلال: أنْ يرجع فينادي: ((ألا إن العبد نام، فرجع فنادى: ألا إن العبد نام)). رواه الطحاوي والترمذي من حديث حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، رضي الله عنهما.
فإن قلتَ: قال الترمذي: هذا حديث غيرُ محفوظ، والصحيحُ ما رَوى عبيد الله بن عمر وغيرُه عن نافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)).
قال العيني: ما لحماد بن سلمة، وهو معه، وليس حديثُه يخالف حديث عبيد الله بن عمر، لأن حديثه لإيقاظ النائم ورجع القائم، ولم يكن لأجل الصلاة، فلذلك لم يأمره عليه السلام بأن يرجع وينادي:((ألا إن العبد نام)). وأما حديث حماد بن سلمة فقد كان لأجل غفلة بلال عن الوقت، وعلى كلا التقديرين: أذان بلال لم يكن معتداً للصلاة.
وقوله: وأما رواية: كان ينادي، فليس كذلك، لأن كلًّا من الأذان والنداء في الحقيقة يرجع إلى معنى واحد، وهو الإعلام، ولا إعلام قبل الوقت. ثم قال الكِرماني: فإن قلتَ: الأذان للإعلام بوقت الصلاة بالألفاظ التي عيَّنها الشارع، وهو لا يَصدق عليه، لأنه ليس إعلامًا بوقتها بأنَّ الإعلام بالوقت أعم من أن يكون إعلامًا بأن الوقت دخل أو قرُب أن يدخل. انتهى.
قال العيني: فعلى ما ذكره إذا أذَّنَ عند قُرب وقت صلاةٍ أيِّ صلاة كانت ينبغي أن يُكتفى به ولا يُعاد، ويصلَّى به. ولم يقل به أحد في كل الصلوات. انتهى.
قلتُ: فهذه مكابرة في البين، فإن الشارع خص الصبح بذلك، وقد سبق التنبيهُ على الحكمة فيه. وقد تقدم أيضاً الجواب عمَّا قاله العيني وأطال فيه بما لا تقبله الشافعيةُ منه، فلا نطيل بإعادته مع الإعادات التي وقعت في كتاب الأذان. انتهى.
قال شيخنا: واحتج الطحاوي لعدم مشروعية الأذان قبل الفجر بقوله: لما كان بين أذانيهما من القرب، ما ذُكِر في حديث عائشة ثبت أنهما كانا وقتاً واحداً وهو طلوع الفجر، فيخطِئُهُ بلال ويصيبُه ابنُ أم مكتوم. وتُعُقِّب بأنه لو كان كذلك لما أقره النبي صلى الله عليه وسلم مؤذِّنًا واعتمد عليه، ولو كان كما ادعى لكان وقوعُ ذلك منه نادرًا. وظاهرُ حديث ابن عمر يدل على أن ذلك كان شأنَه وعادتَه والله أعلم. انتهى.
قال العيني: لو اعتمد عليه في أذان الفجر لكان لم يقل: ((لا يغرنكم أذان بلال))، وتقريرُه عليه السلام إياه على ذلك لم يكن إلا لمعنىً بيَّنه في الحديث، وهو تنبيه النائم ورجْع القائم، لمعان مقصودة في ذلك. انتهى.
قلت: قوله: لا يغرنكم.