الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو صبياً أو امرأة، وتكلم ابن بطال هنا على مسألة أقل الجمع والاختلاف فيها، ورده الزين ابن المنير بأنه لا يلزم من قوله الاثنان جماعة أن يكون أقل الجمع اثنين، قال شيخنا وهو واضح. انتهى.
(36)
باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد
أي: هذا باب في بيان فضل من جلس في المسجد حال كونه منتظر الصلاة ليصليها بالجماعة وفي بيان فضل المساجد.
659 -
قوله: (حَدَّثَنَا عَبْد الله بن مَسْلَمَة عن مَالِك عَنْ أبِي الزِّنَاد) أي بالزاي والنون عبد الله (عَنِ الأعرج عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَال: الملائكة تُصلِّي على أحَدِكُم ما دَام في مُصَلَّاه ما لمْ يُحْدِث، اللهمَّ اغْفِرْ له، اللَّهم ارْحمْه، لا يزَاَل أحدُكُم في صلَاٍة ما دَامَتِ الصَّلاةُ تَحِبِسُه لا يمنعه أن ينقلِبَ إلى أهْلِه إلَّا الصَّلَاة).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
هذا الحديث إلى قوله: (لا يزالُ أحَدُكُم)، ذكره البخاري في: باب الحدث في المسجد، أخرجه عن عبد الله بن يوسف عن مالك إلى آخره، نحوه، غير أن هناك:(إنَّ الملائِكَة تصلي).
وقوله: (لا يَزَالُ أَحَدُكُم) إلى آخره، أفرده مالك في «موَطَّأِه» عما قبله، وأكثر الرواة ضموه إلى الأول وجعلوه حديثاً واحداً.
وذكر البخاري: في: باب فضل الجماعة، حديث أبي هريرة مطولاً، وفيه:(لا يزَالُ أَحَدُكُم في صَلَاةٍ ما انْتَظرَ الصَّلَاة).
قوله: (تُصَلِّي على أَحَدِكُم)، قد ذكرنا غير مرة أنَّ الصلاة من الملائكة الاستغفار. فإنْ قلت: ما النُّكْتة في ذكر لفظ الصلاة دون لفظ الاستغفار؟ قلت: لتقع المناسبة بين العمل والجزاء.
قوله: (مَا دَامَ في مُصَلَّاه) كلمة: ما للمدة في الموضعين، ومعناه: ما دام في موضعه الذي يصلي فيه منتظرا للصلاة، كما صرح به البخاري في الطهارة من وجه آخر.
قوله: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَه)، بيان لقوله:(تُصَلِّي)، وفيه مقدر، وهو إمَّا لفظ: تقول الملائكة: اللهم اغفر له، وإما: قائلين: اللهم، وعلى التقديرين كلاهما بالنصب على الحال.
[قوله: (لا يزال أحدكم) إلى آخره، هذا القدر أفرده مالك في (موطأه) عما قبله، وأكثر الرواة ضموه إلى الأول وجعلوه حديثاً واحداً.]
(1)
قال شيخنا: ولا حجر في ذلك. انتهى.
قوله: (في صَلَاةٍ) أي: في ثواب صلاة، لا في حكم الصلاة، لأنَّه يحل له الكلام وغيره مما منع الصلاة. قوله:(ما دَامَت) وفي رواية الكُشْمِيهَنِي: (ما كانت) وهو عكس ما مضى في الطهارة.
قوله: (لا يمْنَعُه)، جملة من الفعل والمفعول.
قوله: (أن ينْقَلِبَ)، فإنْ مصدرية في محل الرفع على الفاعلية تقديره: لا يمنعه الانقلاب، أي: إلى أهله إلا الصلاة، وهذا يقتضي أنَّه إذا صرف نيته عن ذلك صارف آخر انقطع عنه الثواب المذكور، ولذلك إذا شارك نية الانتظار أمر آخر، ويدخل في ذلك من أشبههم في المعنى ممن حبس نفسه على أفعال البر كلها. وهل يحصل ذلك لمن نيته إيقاع الصلاة في المسجد ولو لم يكن فيه؟
قال شيخنا: الظاهر خلافه؛ لأنَّه يرتب الثواب المذكور على المجموع من النية وشغل البقعة بالعبادة، لكن للمذكور فيه أن يخصه.
660 -
قوله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن بَشَّار) - أي بفتح الباء الموحدة وتشديد الشين المعجمة- ترجمته في باب ما كان النبي صلى الله
(1)
هذه الجملة مكررة في الأصل، ولا حاجة لها هنا.
عليه وسلم يتَخَوَّلُنا بالموعظة.
قوله: قال: (حَدَّثَنا يَحْيَى) أي - ابن سعيد القَطَّان- ترجمته في باب من الإيمان أن يحب.
قوله: (عن عُبَيْد الله) -بتصغير العبد- ابن عمر العمري ترجمته في باب الصلاة في مواضع الإبل.
قوله: قال: (حَدَّثَني خُبَيْب بن عَبْد الرَّحمن) أي - بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره بالموحدة- بن خُبَيْب بن يَسَاف أبو الحارث الأنصاري المدني وهو خال عبيد الله بن عمر المذكور.
قوله: (عن حَفْص بن عَاصِم) أي - ابن عمر بن الخطاب- وهو جد عبيد الله المذكور لأبيه.
قوله: (عن أبي هُرَيْرَة) أي -عبد الرحمن بن صخر- ترجمته في باب أمور الإيمان.
في هذا الإسناد التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة الإفراد في موضع، وفيه العنعنة في أربع مواضع، وفيه القول في موضعين، وفيه رواية الرجل عن خاله، وفيه أنَّ رواته ما بين بصريين وهما محمد بن بشار ويحيى والبقية مدنيون، وفيه عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة في حديث يحيى بن يحيى، والترمذي من حديث معن قالا: حدثنا مالك عن خُبَيْب عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة وأبي سعيد.
قال الترمذي: كذا روى غير واحد عن مالك وشك فيه، وقال ابن عبد البر: كل من رواه عن مالك قال فيه: أو أبي سعيد إلا أبا قرة ومصعباً فإنهما قالا: عن مالك عن خُبَيْب عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعاً، وكذا رواه أبو معاذ البلخي عن مالك، ورواه الوَقَّار زكريا بن يحيى عن ثلاثة من أصحاب مالك عن أبي سعيد وحده ولم يتابع.
قال العيني: الثلاثة هم: عبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن القاسم، ويوسف بن عمرو بن يزيد.
وفي «غرائب مالك» للدارقطني: رواه أبو معاذ عن أبي سعيد أو عن أبي هريرة أو عنهما جميعاً أنهما قالا فذكره. قلت: وفيه رد لما ذكره ابن عبد البر. انتهى.
قال شيخنا: لم يختلف الرواة عن عبيد الله في ذلك. ورواه مالك في الموطأ عن خبيب، فقال: عن أبي سعيد أو أبي هريرة على الشك، ورواه أبو قُرَّة عن مالك فواو العطف جعله عنهما وتابعه مصعب الزبيري وشذَّ في ذلك عن أصحاب مالك، والظاهر أنَّ عبيد الله حفظه لكونه لم يشك فيه، ولكونه من رواية خاله وجده. انتهى.
قوله: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُم الله في ظِلِّه يوم لا ظل َّإلا ظله، الإمَامُ العَادِلُ وشابٌّ نَشَأ في عبادة ربِّه، ورجُلٌ قلْبُه مُعَلَّقٌ في المساجد ورجلان تحابَّا في الله اجتَمَعا عليه وتفرَّقَا عليه ورجل طلبته امْرَأةٌ ذاتُ منصِبٍ وجمَال فَقَال إنِّي أخَاف الله ورجل تصَدَّق أخفى حتَّى لا تعْلم شماله ما تنفقُ يمينه ورجُلٌ ذكرَ الله خَالياً ففَاضَتْ عيْنَاه).
مطابقته للترجمة في قوله: (وَرَجُلٌ قَلْبُه مُعَلَّقٌ في المَسَاجِد)، أي: متعلق، ولو لم يكن للمساجد فضل لم يكن لمن قلبه معلق فيها هذا الفضل العظيم، وهذا للجزء الثاني من الترجمة، وهو قوله:(وَفَضْلُ المَسَاجد) ويدل على هذا الجزء أيضا قوله: (وشَابٌّ نَشَأ في عِبَادة رَبِّه)،
لأنَّ من هذه صفته يكون له ملازمة للمساجد بقالبه، وأما عن قلبه فلا يخلو، وإن عرض لقالبه عارض، وهذا أيضا يدل على فضل المساجد.
هذا الحديث أخرجه البخاري أيضاً في الزكاة عن مسدد، وفي الرقاق عن محمد بن بشار، وفي المحاربين عن محمد بن سلام. وأخرجه مسلم في الزكاة عن زهير بن حرب، ومحمد بن المثنى وعن يحيى بن يحيى عن مالك. وأخرجه الترمذي في الزهد عن سَوَّارُ بن عبد الله العنبري ومحمد بن المثنى وعن إسحاق بن موسى. وأخرجه النسائي في القضاء وفي الرقاق عن سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك به.
قوله: (سَبْعَةٌ) أي: سبعة أشخاص، وإنما قدرنا هكذا ليدخل فيه النساء، والأصوليون ذكروا أنَّ أحكام الشرع عامة لجميع المكلفين، وحكمه على الواحد حكم على الجماعة إلا ما دل الدليل على خصوص البعض، فإن قلت: ما وجه التخصيص بذكر هذه السبعة؟
قال العيني: التنصيص بالعدد في شيء لا ينفي الحكم عما عداه، وقال الكرماني: وأما التخصيص بذكر هذه السبعة فيحتمل أن يقال فيه: ذلك لأن الطاعة إما تكون بين العبد وبين الله أو بينه وبين الخلق، والأول: إما أن يكون باللسان أو بالقلب أو بجميع البدن، والثاني: إما أن يكون عاماً وهو العدل، أو خاصاً وهو إما من جهة النفس وهو التحاب أو من جهة البدن، أو من جهة المال. انتهى.
قال العيني: أراد كونه باللسان الذكر، وأراد كونه بالقلب هو المعلق بالمسجد، وأراد بجهة جميع البدن في الصورة الخاصة هي: العفة. انتهى.
قال شيخنا: ظاهر الحديث اختصاص السبعة بالثواب المذكور.
وقد نظم السبعة العلامة أبو شَامَة عبد الرحمن بن إسماعيل فيما أنشدناه أبو إسحاق التَّنوخي إذناً عن أبي الهدى أحمد بن أبي شامة عن أبيه سماعاً من لفظه قال:
وقال النبي المصطفى إنَّ سبعة
…
يظلُّهُم الله العظيم بظله
محبٌّ عفيف ناشئ متصدق
…
وبَاكٍ مصَلٍّ والإمام بعدله
ووقع في صحيح مسلم من حديث أبي اليسر مرفوعاً: ((من أنظر معسراً أو وضع له أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله))، وهاتان الخصلتان غير السبعة الماضية فدل على أن العدد المذكور لا مفهوم له وقد ألقيت هذه المسألة على العالم شمس الدين الرازي المعروف بالهروي لما قدم القاهرة، وادعى أنه يحفظ صحيح مسلم، فسألته بحضرة الملك المؤيد، أيٌّ شيخ عن هذا وعن غيره فما استحضر في ذلك شيئاً قلت: ومن ثمَّ نظر الملك المؤيد لشيخنا بعين التعظيم فلم يزل مقرباً رحمه الله. انتهى.
قال شيخنا: ثم تتبعت بعد ذلك الأحاديث الواردة في مثل ذلك فزادت على عشر خصال، وقد انتقيت منها سبعة وردت بأسانيد جياد ونظمتها في بيتين تذييلا على بيتي أبي شامة وهما
وزد سبعة إظلال غازٍ وعونه
…
وإنظار ذي عسر وتخفيف حمله
وإرفاد ذي غرم وعون مكاتب
…
وتاجر صدق في المقال وفعله
فأما إظلال الغازي فرواه بن حبان وغيره من حديث عمر رضي الله عنه، وأما عون المجاهد فرواه أحمد والحاكم من حديث سَهْل بن حُنَيْف، وأما إنظار المعسر والوضيعة عنه فرواهما مسلم كما ذكرنا، وأما عون المجاهد وإرفاد الغارم وعون المكاتب فرواها أحمد والحاكم من حديث سهل بن حنيف،
وأما التاجر الصدوق فرواه البَغَوِي في شرح السنة من حديث سلمان، وأبو القاسم التيمي من حديث أنس، والله أعلم، ونظمته مرة أخرى فقلت في البيت الثاني:
وتحسين خلق مع إعانة غارم
…
خفيف يد حتى مكاتب أهله
وحديث تحسين الخلق أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف، ثم تتبعت ذلك فجمعت سبعة أخرى ونظمتها في بيتين آخرين وهما
وزد سبعة حزن ومشي لمسجد
…
وكره وضوء ثم مطعم فضله
وآخذ حق باذل ثم كافل
…
وتاجر صدق في المقال وصدقه
ثم تتبعت ذلك فجمعت سبعة أخرى ولكن أحاديثها ضعيفة قلت: والسبعة السابقة أيضاً ضعيفة لأن شيخنا نظم السَّبْعَيْن في أبيات فقال في أولها: وزد مع ضعف سبعين، وهي هذه:
وزد مع ضعف سبعين إعانة
…
لأخرق مع أخذ بحق وبذله
وكره وضوء ثم مشي لمسجد
…
وتحسين خلق ثم مطعم فضله
وكافل ذي يتم وأرمله وهتْ
…
وتاجر صدق في المقال وفعله
وحزن وتصبير ونصح ورأفة
…
تربع بها السبعات من فيض فضله
قال شيخنا: ثم أوردت الجميع في «الأمالي» وقد أفردته في جزء سميته «معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال» انتهى.
قلت: وقد تتبعت ذلك فزدت على ما ذكره شيخنا عشرين خصلة وأردتها في كتابي المسمى «عناية الخالق لمن وفقه من الخلائق» وذكرتها أجمع مسندة وتكلمت على الأحاديث بالحكم على الأسانيد، ثم بلغني أنَّ حافظ العصر شمس الدين السخاوي أورد ذلك في جزء وأوصل الخصال إلى نيف وسبعين خصلة بسبب سؤال ورد من دمشق، فنسب زيادة وقلت في حديث من ذلك؟؟؟ أوردها محذوفة الأسانيد خوف الإطالة، وذكر لي أنه لم يقف على الجزء الذي لشيخنا في ذلك،
وقد نظمت ما وقفت عليه من الخصال في أبيات قد ملا عليَّ أبيات شيخنا وأبيات شيخنا قد ملا عليَّ أبيات أبي شامة فتصير قصيدة واحدة وهي:
وزد قاصر الطرف عن حالة الزنا
…
وتارك منهي الربا لحله
ومن لم ير أخذ الرشا في حكومة
…
وحب علي ثم سبعة عدله
ومن حفظ القرآن في حال صغره
…
على كبر يتلوه صدقاً لأجله
وصاحب ضعف؟؟؟
(1)
وقد نظم السبعة الولي العارف عبد الله اليافعي فيما أنْشَدْنِيْه قاضي القضاة السيد الشريف حسام الدين ابن جرير المالكي قراءةً مني عليه قال: أنشدنيه العارف بالله حسين بن الأهْدَل تجاه البيت الحرام إذناً مشافهة قال: أنشدني أبو الحسين نور الدين بن أبي بكر بن الأزرق بن ثوب الهمداني قال: انشدني العارف بالله عبد الله بن أسعد اليافعي رحمه الله
روينا حديثاً في الصحيحين سبعة
…
يظلهم المولى بخير ظلال
يظلهم في ظله الله يوم لا
…
سوى ظله ظل فهاك مقالي
إمام له عدل ومن في عبادة
…
نشأ بالتقى لله لا بضلال
ومن قلبه يهوى المساجد دائماً
…
تعلقه فيها بغير زوال
وشخصان فى الله الكريم تحابَبَا
…
بحال افتراق منهما ووصال
وإني أخاف الله من قال عندما
…
دعت ذات عالي منصب وجمال
ومصدق أخفى التصدق لم يكن
…
بما أنفقت يمناه علم شمال
ومن ذكر الرب المهيمن خاليا
…
ففاضت به عيناه خوف نكال
وخوف القلى والهجر بعد وصاله
…
وشوقا إلى رؤيا جمال جلال
فأكرم بهن من سبعة طيبي الثَّنَا
…
وأكرم بها في القوم سبع خصال
وأكرم به فخرا سما كل مفخر
…
ومجد فعال فوق كل فعال
بمقعد صدق تحت عرش مَلِيْكِهِم
…
تجلى لهم باهي جمال كمال
تراهم ملوكا فوق نجب من البها
…
وغرفات در كالنجوم عوال
على سرر الياقوت في فرش سندس
…
وحور من النور المضيء غوال
وما تشتهيه النفس من كل لذة
…
ومن زينة والكل ليس ببال
(1)
يوجد أكثر من بيت شعر لم أستطع قراءته
هنيئا لهم طوبى لهم سعدهم لقد
…
أَنِيْلُو نوالا خير كل نوال
قلت: قد ذكر شيخنا من خرج الأحاديث السبعة التي أسانيدها جيدة ولم يذكر من خرج السَبْعَيْن التي أسانيدها ضعيفة وها أنا أذكرها مع الأحاديث التي زدتها فأقول: أما حديث إعانة الأخرق فرواه الطبراني في «الأوسط» .
فائدة: الأخرق الذي لا صناعة له ولا يقدر أن يتعلم صنعة.
وأما حديث أخذ الحق ورده أخرجه ابن منيع، وأما كره الوضوء والمشي للمسجد وتحسين الخلق أخرجه ابن عدي، وأمَّا مطعم فضله وكافل اليتيم أو الأرملة والتاجر الصدوق أخرجه شيخنا في «الأمالي» أيضاً، وأما الذين لا ينظرون بأعينهم الزنا ولايَتَّبِعُون في أموالهم الربا ولا يأخذون على أحكامهم الرَّشَا والذي إذا صلى الغداة قرأ ثلاث آيات: منْ أول سورة الأنعام إلى {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} فأخرجها شيخنا في «أمَالِيه» وأمَّا من تعلم القرآن في صغره فهو يتلوه في كبره فرواه البيهقي في «شعب الإيمان»
وأمَّا واصل الرحم وكافل أولادها الأيتام وطاعم اليتيم والمسكين لوجه الله فرواه أبو الشيخ وغيره، وأورده أبو الليث السمرقندي في «تنبيه الغافلين» له بلا إسناد.
وأما راعي الشمس والقمر لذكر الله أخرجه أبو منصور الديلمي، المراقب أي: الذي حيث ما توجه علم أنَّ الله معه، والرجل الذي يحب الناس بجلال الله ذكره الحافظ شمس الدين في «مؤلفه» في ذلك.
وأمَّا من أحيا سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر الصلاة عليه ذكره صاحب «الدر المنظم في المولد المعظم» أبو العباس السبتي لكن بغير إسناد، وعزاه بعضهم «لفوائد الخِلَعِي» لكن قال من حديث أبي هريرة، وأما حامل القرآن أخرجه أبو منصور الدَّيْلَمي في «الفردوس» وأما قائد أخاه المسلم الضعيف والجالس عنده أخرجه أبو يعلى في «مسنده» وعباد بن كثير.
وأما من تثبت بحكم وعلم أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب «الحلم» له وهو موقوف وحكمه الرفع لأن مثله لا يقال بالرأي، فإنْ قلت: ما السر في تخصيص هذا العدد بالذكر دون سائر الأعداد؟
قلت: قال صاحب «النسمات الفائحة» السبعة أول الأعداد الكاملة لأنها جمعت العدد كله، لأَنَّ العدد أزواج وأفراد وأجمع منهما أول وثاني، فالاثنان أول الأزواج والأربعة عدد ثاني والثلاثة أول الفرد الأول والخمسة فرد ثاني، فإذا جمعت الزوج الأول مع الفرد الثاني أو الفرد الأول مع الزوج الثاني كانت سبعة وهذه الخاصية لا توجد في عدد قبل السبعة،
قال: وواو الثَّمَانِيَة إنما أدخلتها العرب في العدد بعد السبعة لأنها عدد كامل فما بعدها مستأنف، وقال تعالى: سبعة وثامنهم كلبهم، وفي المسألة كلام ذكره
صاحب «الجَنَى الدَّانِي» في واو الثمانية فقد علمت بهذا لأن الشارع عليه السلام ذكر أول الأعداد الكاملة لأصحاب المقامات الكاملة.
قلت: وقد وقع في هذا الحدث عددان باعتبارين، عدد باعتبار الأوصاف، وعدد باعتبار المتصفين، فالأوصاف سبعة والمتصفين ثمانية لأن المحبة من اثنين فكأنهما جَامِعَان لمعان السِتَّة، من عمل بمجموع الأوصاف غلقت عنه أبواب النار، وفتحت له أبواب الجنة انتهى.
قوله: (يُظِلُّهُم الله) جملة في محل الرفع على أنَّها خبر المبتدأ وهو قوله (سَبْعَة).
قوله: (في ظِلِّه) قال عياض: إضافة الظل إلى الله إضافة ملك، وكل ظل فهو ملكه كذا قال، وكان حقه أن يقول إضافة تشريف ليحصل امتياز هذا على غيره كما قيل للكعبة بيت الله مع أن المساجد كلها ملكه، وأما الظل الحقيقي فالله تعالى منزه عنه لأنَّه من خواص الأجسام، وقيل المراد بظله كرامته وحمايته كما يقال فلان في ظل الملك وهو قول عيسى بن دينار وقواه عياض، يقول العرب: أنَا في ظل فلان، أي في ستره وكنفه. وتسمي العرب الليل ظلاً لبرده، ويقال المراد ظل عرشه.
ويؤيده ما رواه سعيد بن منصور بإسناد حسن من حديث سلمان رضي الله عنه: ((سبعة يظلهم الله في ظل عرشه
…
)) فذكر الحديث، وإذا كان المراد ظل العرش استلزم ما ذكر من كونهم في كنف الله وكرامته من غير عكس، قال شيخنا: فهو أرجح، وبه جزم القرطبي، ويؤيد أيضاً تقييد ذلك بيوم القيامة كما صرح به عبد الله بن المبارك في روايته عن عبيد الله بن عمر وهو عنْد البخاري في كتاب الحدود، وبهذا يندفع قول من قال المراد ظل طوبى أو ظل الجنة لأنَّ ظلهما إنما يحصل لهم بعد الاستقرار في الجنة،
ثم إنَّ ذلك مشترك لجميع من يدخلها والسياق يدل على امتياز أصحاب الخصال المذكورة ولا يكون ذلك إلا يوم يقوم الناس لرب العالمين ودنت منهم الشمس ويشتد عليهم حرها ويأخذهم العرق ولا ظل إلا العرش فترجح أنَّ المراد ظل العرش.
وروى الترمذي وحسنه من حديث أبي سعيد مرفوعا: ((أحب الناس إلى الله تعالى يوم القيامة منه إمام عادل)).
قوله: (يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه) أي يوم القيامة الذي ليس لأحد فيه الشفاعة لدفع مكروه عن غيره، وإنَّما الحماية له.
قوله: (الإمَامُ العَادِلُ) خبر مبتدأ محذوف تقديره أحد السبعة الإمام العادل، والعادل اسم فاعل من العدل، وقال أبو عمر: أكثر رواة الموطأ عادل، وقد رواه بعضهم عدل وهو المختار عند أهل اللغة، يقال رجل عدل ورجال عدل وامرأة عدل، ويجوز إمام عادل على اسم الفاعل يقال عدل فهو عادل كما يقال ضرب فهو ضارب.
وقال ابن الأثير: العدل في الأصل مصدر سمي به ووضع موضع العادل فهو أبلغ منه لأنَّه جعل المسمى نفسه عدلاً. انتهى.
ومعنى الإمام العدل الواضع كل شيء في موضعه، وقيل الوسط بين طرفي
الإفراط والتفريط سواء كان في العقائد أو في الأعمال أو في الأخلاق، وقيل: الجامع بين أمهات كمالات الإنسان الثلاث.
وهي الحكمة والشجاعة والعفة التي هي أوساط القوى الثلاث أعني القوة العقلية والغضبية والشهوانية، وقيل: المطيع لأحكام الله، وقيل: المراعي لحقوق الرعية.
قال شيخنا: وأحسن ما فسر به العادل أنَّه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط والمراد به صاحب الولاية العظمى؛ وهو الخليفة أو السلطان، ويلتحق به كل من ولي شيئاً من أمور المسلمين فعدل فيه ويؤيده رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه:((أنَّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)) قال العلماء: وبدأ به في الحديث لكثرة مصالحه وعموم نفعه، وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: العادل من الأئمة والولاة والحكام أعظم أجراً من جميع الأنام بإجماع أهل الإسلام.
قوله: (وشَابٌّ نَشَأ في عِبَادَة ربِّه) أي: والثاني من السبعة شاب آخره، يقال: نشأ الصبي ينشأ نشأ فهو ناشئ إذا كبر وشب. يقال: نشأ وأنشأ إذا خرج وابتدا، وأنشأ يفعل كذا أي: ابتدا يفعل، وفي رواية الإمام أحمد عن يحيى القطان:((شاب نشأ بعبادة ربه))، وهي رواية مسلم أيضاً، وزاد حماد بن زيد عن عبيد الله بن عمر:((حتى توفي على ذلك))، أخرجه الجَوْزَقِي.
وفي حديث سلمان: ((أفنى شبابه ونشاطه في عبادة الله)). فإنْ قلت: لم خص الثاني من السبعة بالشباب، ولم يقل: ورجل نشأ في عبادة ربه؟ كما قال: ورجل قلبه متعلق، يقال: لأن العبادة في الشباب أشد وأشق لكثرة الدواعي وغلبة الشهوات، وقوة البواعث على متابعة الهوى تلازمه العبادة مع ذلك تدل على غلبة التقوى.
قوله: (ورجُلٌ قَلْبُهٌ مُتَعلِّقٌ في المسَاجد) أي: الثالث رجل قلبه معلق أي بفتح اللام هكذا في الصحيحين وظاهره أنَّه من التعليق كأن شبهه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل مثلاً إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وإن كان جسده خارجاً عنه، ويدل عليه رواية الجوزقي:((كأنما قلبه معلق في المسجد)) ويحتمل أنْ يكون من العلاقة وهي شدة الحب، ويدل عليه رواية الحموي والمستملي ((متعلق)) بزيادة
التاء المثناة بعد الميم وكسر اللام، زاد سلمان ((من جهة)) وزاد مالك ((إذا خرج منه حتى يعود إليه)) وهذه الخصلة هي المقصودة من هذا الحديث للترجمة كما تقدم.
قلت: وقد تقدم الكلام على لفظة (رَجُلٌ) في بدء الوحي عند قوله: ((يتمثل إلي الملك رجلاً)) انتهى.
قوله: (ورجُلَانِ تَحَابَّا) أي: الرابع: رجلان تحابا، بتشديد الباء الموحدة، وأصله تحابَبَا، فلما اجتمع الحرفان المتماثلان أسكن الأول منهما وأدرج في الثاني وهو حد
الإدغام، وهو من باب: التفاعل،
وقال الكرماني فإن قلت: التفاعل هو للإظهار أن أصل الفعل حاصل له وهو منتف ولا يريد حصوله نحو تجاهلت، قلت: يجيء لغير ذلك نحو: باعدته فتباعد. انتهى.
قال العيني: التحقيق في هذا أن تفاعل لمشاركة أمرين أو أكثر في أصله، يعني في مصدر فعله الثلاثي صريحاً، نحو: تضارب زيد وعمرو، فلذلك نقص مفعولاً عن فاعل.
وحاصله أنَّ وضع فاعل لنسبة الفعل إلى الفاعل متعلقاً بغيره، مع أنَّ الغير فعل مثل ذلك، ووضع تفاعل لنسبة المشتركين فيه من غير قصد إلى تعلق له، فلذلك جاء الأول زائداً على الثاني بمفعول أبداً، فإذا كان الأمر كذلك كان المقام يقتضي أنْ يقال: ورجلان تحاببا، من باب: المفاعلة، لا من باب: التفاعل،
ليدل على أن الغير فعل مثل ما فعل هو، فالجواب عنه: أن تفاعل قد يجيء للمطاوعة وهو كونها دالة على معنى حصل عن تعلق فعل آخر متعد كقولك: باعدته فتباعد، فقولك: تباعد، عبارة عن معنى حصل عن تعلق تحاببا عبارة عن معنى حصل عن تعلق حابب.
والجواب الذي قاله الكرماني غير مستقيم، لأنَّ معنى ذاك هو الدلالة على أنَّ الفاعل أظهر أن المعنى الذي اشتق منه: تفاعل حاصل له مع أنه ليس في الحقيقة كذلك. فمعنى: تجاهل زيد أنه أظهر الجهل من نفسه، وليس عليه في الحقيقة فافهم، فإنَّه موضع دقيق. انتهى.
قال شيخنا: (تَحَابَّا) أي: اشتركا في جنس المحبة وأحب كل منهما الآخر حقيقة لا إظهار فقط، ووقع في رواية حماد بن زيد:((ورجلان قال كل منهما للآخر إني أحبك في الله فصدرا على ذلك)) ونحوه في حديث سلمان قوله: (فِي الله) أي: لأجل الله لا لغرض دنيوي، وكلمة:(في) قد تجيء للسببية كما في قوله عليه السلام: ((في النفس المؤمنة مائة إبل)) أي بسبب قتل النفس المؤمنة. قلت: وقد تقدم الكلام في الاسم العظيم الأعظم في أول كتاب الوحي. انتهى.
قوله: (اجْتَمَعا عَلَى ذَلِك وتَفَرَّقَا عَلَيْه) في رواية الكُشْمِيهَنِي اجتمعا عليه وهي رواية مسلم أي على الحب يعني كان سبب اجتماعهما حب الله واستمروا عليه حتى تفرقا من مجلسهما، كذا قاله الكَرْمَاني.
قال العيني: ولا نحتاج إلى قوله: (حَتَّى يَتَفَرَّقَا مِنْ مَجِلسِهِمَا) بل المعنى أنهما داما على المحبة الدينية ولم يقطعاها بعارض دنيوي سواء اجتمعا حقيقة أم لا حتى فرق بينهما الموت. انتهى.
قال شيخنا: ووقع في «الجمع» للحميدي ((اجتمعا على خير)) ولم أر ذلك في شيء من نسخ «الصحيحين» ولا غيرهما من «المستخرجات» وهي عندي تحريف. انتهى.
فإن قلت: قال عليه السلام: (سَبْعَةٌ) ثم قال في التفصيل: (رَجُلَان) فيكون المتصفون ثمانية لا سبعة؟ أجيب عن ذلك: بأنَّ المعنى ورجل يحب غيره في الله، والمحبة أمر نسبي فلا بد لها من المنتسبين فلذلك قال:(رجُلَان)، ولأنَّ الغرض عد الخصال لا عد جميع من اتصف بها.
قلت: قد تقرر آنفاً أنَّ المراد الاجتماع على المحبة سواء اجتمعا حقيقة
أم لا حتى لو كان أحدهما في المشرق والآخر في المغرب وسمع كل واحد منهما أنَّ الآخر من الطائعين لله فأحب كل واحد صاحبه لله كان الحكم كذلك، إذا علمت ذلك فاعلم أنَّ في هذا بشارة عظيمة لجميع الأمة لأنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبهم وذلك في الله بلا شك، ويؤيده قوله عليه السلام: للذي سأله عن الساعة ((أنت مع من أحببت)). انتهى.
قوله: (وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ) أي: الخامس رجل طلبته ذات منصب، قال شيخنا: بين المحذوف أحمد في روايته عن يحيى القطان فقال: (دَعَتْهُ امْرَأةٌ) وكذا في رواية كريمة، ولمسلم وهو عند المصنف في الحدود عن ابن المبارك انتهى. وزاد ابن المبارك:(إلى نَفْسِهَا) وفي رواية البيهقي في «شعب الإيمان» من طريق أبي صالح عن أبي هريرة: (فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْه) والمراد بالمنصب: الأصل أو شرف.
وفي رواية قال: (دَعَتْه ذَاتُ حَسَبٍ) وهو يطلق أيضاً على الأصل وعلى المال أيضاً ووصفها بأكمل الأوصاف التي جرت العادة بمزيد الرغبة لمن تحصل فيه وهو المنصب الذي يستلزم الجاه والمال مع الجمال وقلَّ من يجتمع ذلك فيها من النساء.
قال شيخنا: والظَّاهر أنها دعته إلى الفاحشة وبه جزم القرطبي ولم يحك غيره، وقيل: يحتمل أنْ تكون دعته إلى التزوج بها فخاف أن يشتغل عن العبادة بالافتتان بها، أو خاف أنْ لا يقوم بحقها لشغله بالعبادة عن التكسب لما يليق بها، والأول أظهرٌ ويؤيده وجود الكناية في قوله:(إلى نفسها) ولو كان المراد التزويج لصرح به والصبر عن الموصوفة بما ذكر من أكمل المراتب لكثرة الرغبة في مثلها وعسر تحصيلها لا سيما وقد أغنت من مشاق التوصل إليها بمراودة ونحوها.
قلت: قد وقع هذا بعينه ليوسف عليه السلام، وحكي أنَّه وقع مثله لابن سيرين فرأى يوسف في المنام وقال له أنت الذي راوَدَتْك فلانةٌ عن نفسها فتركتها خوفاً من الله كما وقع لي مع زليخة، فقال: نعم، فقال: افتح فاك فخذ ما وهبني الله من العلم، ففتح فاه فتفل فيه فأوتي ما حصل له من علم التعبير. انتهى.
قوله: (فَقَالَ إنِّي أخَافُ الله) زاد في رواية كريمة رب العالمين، قال القاضي عياض: يحتمل أنْ يقول ذلك بلسانه ويحتمل بقلبه ليزجر نفسه.
قال القرطبي: إنما يصدر ذلك عن شدة خوف من الله والصبر عنها لخوف الله من أكمل المراتب وأعظم الطاعات.
قوله: (ورجُلٌ تَصَدَّقَ) أي: السادس (رَجُلٌ تَصَدَّق أخفَى) بلفظ الماضي وهو جملة وقعت حالاً بتقدير: قد، ومفعول: أخفى، محذوف أي: أخفى الصدقة، ووقع في رواية أحمد:(فأخفى)، وكذا في رواية البخاري في الزكاة: عن مسدد عن يحيى: ((تصدق بصدقة فأخفاها))، ومثله لمالك في «الموطأ» .
ظاهر أنَّ راوي الأول حذف العاطف. ووقع في رواية الأَصِيْلِي: تصدق إخفاء، بكسر الهمزة ممدوداً
على أنه مصدر منصوب، على أنه حال بمعنى مخفياً.
قوله: (بِصَدَقَةٍ) نكَّرها ليشمل كل ما يتصدق به من قليل وكثير، وظاهره أيضاً يشمل المندوبة والمفروضة، لكن نقل النووي عن العلماء أنَّ إظهار المفروضة أولى من إخفائها، وسيأتي في فقه الحديث طرق من ذلك.
قوله: (حَتَّى لا تَعْلَم) بضم الميم وفتحها، نحو: مرض حتى لا يرجونه، وسرت حتى تغيب الشمس.
قوله: (شمَالُه) مرفوع لأنه فاعل لقوله: (لا تعْلَم).
قوله: (مَا تُنْفِقُ يَميْنُه) جملة في محل النصب على أنها مفعول. ثم اعلم أنَّ معظم الروايات في هذا الحديث في البخاري وغيره ((حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه))، ووقع في صحيح مسلم مقلوباً ((حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله)) وهو نوع من أنواع علوم الحديث أغفله ابن الصلاح، وإن ْكان أفرد نوع المقلوب لكنه قصره على ما يقع في الإسناد.
ونبه عليه شيخ الإسلام البُلْقِيْنِي في «محاسن الاصطلاح» : ومثَّل له بحديث ابن أم مكتوم يؤذن بليل وقد قدمنا الكلام عليه في كتاب الأذان، وقال شيخ الإسلام البُلْقِيْنِي: ينبغي أنْ يسمى هذا النوع المعكوس. انتهى.
قال شيخنا: والأولى تسميته مقلوباً فيكون المقلوب تارة في الإسناد وتارة في المتن، كما قالوه في المدرج سواء، وقد سمَّاه بعض من تقدم مقلوباً. قال عياض: هكذا في جميع النسخ التي وصلت إلينا من صحيح مسلم وهو مقلوب والصواب الأول أي قوله: (مَا تنْفِقُ يمِيْنُه) وهو وجه الكلام لأنَّ السنة المعهودة في الصدقة بإعطائها باليمين، وقد ترجم عليه البخاري في الزكاة باب الصدقة باليمين.
قلت: ويحتمل أنَّه جعل التصدق بالشمال في هذه الصورة لأنه من أسباب الإخفاء لكون المعهود أنْ تكون الصدقة باليمين، فإذا بالغ في إخفائها تصدق بشماله حتى لا يتفطن لذلك. انتهى.
قال عياض: ويشبهه أنْ يكون الوهم فيه ممن دون
(1)
مسلم بدليل قوله في رواية مالك لما أوردها عقب رواية عبيد الله بن عمر، فقال: بمثل حديث عبيد الله، فلو كانت بينهما مخالفة لبينها كما نبه على الزيادة في قوله:((ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه)). انتهى.
قال شيخنا: وليس الوهم فيه ممن دون مسلم ولا منه، بل هو من شيخه أو من شيخ شيخه يحيى القطان فإنَّ مسلماً أخرجه عن زهير بن حرب وابن نمير كلاهما عن يحيى، وأشعر سياقه بأن اللفظ لزهير وكذا أخرجه أبو يعلى في مسنده عن زهير وأخرجه الجَوْزَقِي في «مستخرجه» عن أبي حامد بن الشرقي فقول يحيى القطان عندنا واهم في هذا، إنما هو:((حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)).
قال شيخنا: والجزم بكون يحيى هو الواهم فيه نسبة نظر؛ لأنَّ الإمام أحمد قد رواه عنه على الصواب، ولذلك أخرجه البخاري هنا عن محمد بن بشار، وفي الزكاة عن مسدد.
وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق يعقوب الدَّوْرَقِي وحفص بن عمر وكلهم عن يحيى، وكأنَّ أبا حامد لما رأى عبد الرحمن تابع زهيراً ترجح عنده أنَّ
(1)
قوله: ((ممن دون)) ليس في الأصل وما أثبته من الفتح.
الوهم من يحيى وهو محتمل بأن يكون منه لما حدث به هذين خاصة مع احتمال أن يكون الوهم منهما تواردا عليه.
وقد تكلف بعض المتأخرين توجيه هذه الرواية المقلوبة وليس بجيد، لأن المخرج متحد ولم يختلفوا فيه على عبيد الله بن عمر شيخ يحيى فيه ولا على شيخه خبيب ولا على مالك رفيق عبيد الله بن عمر فيه، وأمَّا استدلال عياض على أنَّ الوهم فيه ممن دون مسلم بقوله في رواية مالك مثل عبيد الله لكونهما ليستا متساويتين، والذي يظهر أنَّ مسلماً لا يقصر لفظ المثل على المساوي في جميع اللفظ، والترتيب بل في المعظم إذا تساويا في المعنى.
والمعنى المقصود من هذا الموضع: إنَّما هو أخفى الصدقة، ولم نجد هذا الحديث من وجه من الوجوه إلا عن أبي هريرة إلا ما وقع عند مالك من التردد هل هو عنه أو عن أبي سعيد كما قدمناه قبل، ولم نجده عن أبي هريرة إلا من رواية حفص ولا عن حفص إلا من رواية خبيب، نعم أخرجه البيهقي في «الشعب» من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، والراوي له عن سهيل عبيد الله بن عامر الأسلمي وهو ضعيف لكنه ليس بمتروك، وحديثه حسن في المتابعات.
ووافق في قوله: (تَصَدَّق بِيَمِيْنِه) وكذا أخرجه سعيد بن منصور من حديث سلمان الفارسي بإسناد حسن مرفوعاً: ((أنَّ الملائكة قالت: رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم الحديد، قالت: فهل أشد من الحديد قال نعم النار قالت فهل أشد من النار قال نعم الماء، قالت فهل أشد من الماء قال نعم الريح قالت فهل أشد من الريح قال نعم بن آدم يتصدق بيمينه فيخفيها عن شماله)).
ثم إن المقصود منه المبالغة في إخفاء الصدقة بحيث إنَّ شماله مع قربتها من يمينه وملازمتها بحيث لو تصور أنها تعلم لما علمت ما فعلت اليمين لشدة إخفائها، فهو على هذا من مجاز التشبيه.
ويؤيده رواية حماد بن زيد عند الجَوْزَقِي: ((تصدق بصدقة كأنما أخفى يمينه من شماله))، ويحتمل أن يكون من مجاز الحذف، والتقدير حتى لا يعلم ملك شماله.
وأبعد من زعم أنَّ المراد بشماله نفسه وأنه من تسمية الكل باسم الجزء فإنه ينحل إلى أن نفسه لا تعلم ما تنفق نفسه،
قلت: ويمكن أنْ يراد بهذا أنَّ المتصدق لا ينظر إلى صدقته فأطلق العلم على النظر. انتهى.
وقيل: هو من مجاز الحذف والمراد بشماله من على شماله من الناس كأنَّه قال: مجاور شماله، وقيل: المراد أنه لا يرائي بصدقته فلا يكتبها كاتب الشمال، وحكى القرطبي عن بعض مشايخه: أنَّ معناه أن يتصدق على الضعيف المكتسب في صورة الشراء لترويج سلعته أو رفع قيمتها واستحسنه.
قال شيخنا: وفيه نظر، إن كان أراد أنَّ هذه الصورة مراد الحديث خاصة، وإنْ أراد أنَّ هذا من صور الصدقة المخفية فمُسَلَّمٌ والله أعلم. انتهى.
قوله: (وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله) أي: السابع رجل ذكر الله خالياً أي خالياً من الخلق لأنه حينئذٍ
يكون أبعد من الرياء، وقيل: خالياً من الالتفات إلى غير الله ولو كان في ملأ، ويؤيده رواية البيهقي:((ذكر الله بين يديه)) ويؤيد الأول رواية ابن المبارك وحماد بن زيد: ((ذكر الله في خلاء)) أي: في موضع خال وهو أصح.
وقال شيخنا: ذكر الله أي بقلبه من التذكر أو لسانه من الذكر. انتهى.
قال العيني: ليس كذلك فإنَّ الذكر بالقلب من الذكر بضم الذال، وباللسان من الذكر بكسر الذال وأيضاً لفظ ذكر ثلاثي لا يكون مشتقاً من التذكر فمن له يد في علم التصريف يفهم هذا. انتهى.
قال شيخنا: انظر وتعجب أي من قول العيني لأنَّ العيني أثبت أولاً الذكر بالقلب ثم جعله مشتقاً من الذكر بضم الذال وذلك بعد قوله ليس كذلك، فإن ْكان مراده أنَّ الذاكر بقلبه مع الفيض بعينه لا يعطى هذا الفضل فهو عجيب، مع أن الذكر بالقلب عمل، والمطلوب ذكر القلب.
حتى قال بعض العارفين: اعلم أنَّ المطلوب من الذكر ذكر القلب، وإنما جعل ذكر اللسان طريقاً إليه ممن لازم ذكر الله بلسانه مخلصاً وصلت بركة الذكر إلى قلبه فعاش قلبه بذكر الله فيصير محمولاً بعد أن كان حاملاً. انتهى.
قوله: (ففَاضَتْ عَيْنَاه) إنما أسند الفيض إلى العين مع أن العين لا تفيض، لأنَّ الفائض هو الدمع، مبالغة كأنها هو الفائض، وذلك كقوله:{تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة: 83].
قال القرطبي: وفيض العين بحسب حال الذاكر وبحسب ما يكشف له، ففي حال أوصاف الجلال يكون البكاء من خشية الله وفي حال أوصاف الكمال يكون البكاء من الشوق إليه،
ويشهد للأول ما رواه الجَوْزَقِي في رواية حماد بن زيد: ((ففاضت عيناه من خشية الله)) ومثله في رواية البيهقي، ويشهد له ما رواه الحاكم من حديث أنس مرفوعاً:((من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله حتى يصيب الأرض من دموعه لم يعذب يوم القيامة)). انتهى.
قلت: فإنْ قال هل يتأتى العبد في حال وصاله البكاء، وإذا تَأتَّى ذلك فهل يكون بكاؤه حال جلال أو حالة كمال؟
فأقول: إنْ قصر نظره عن التلفت إلى ما فاته من محبوبه منْ ما لم ينله بعد فإن حالة الوصال لا تنتهي، واستشعر خوف البعد بعد الوصل فبكى يكون من خشية الله، وإن تلفت إلى ذلك فبكى يكون بكاؤه شوقاً إلى الله. انتهى.
وفي الحديث فضيلة الإمام العادل، وقد روي عن ابن عباس:((ما أخر قوم العهد إلا سلط عليهم العذاب، وما نقص قوم المكيال إلا منعوا القطر، ولا كثر الزنا في قوم إلا سلط عليهم الوباء، وما حكم قوم بغير حق إلا سلط عليهم إمام جائر))، فالإمام العادل يصلحه الله به،
وفيه: فضيلة الشاب الذي نشأ في عبادة ربه، وفي الحديث:((يعجب ربك من شاب ليست له صَبْوَة)) وفيه: فضل منْ سلم من الذنوب واشتغل بطاعة ربه طول عمره. وقد يحتج به من قال إنَّ الملَك أفضل من البشر لأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وقيل لابن عباس: رجل
كثير الصلاة كثير القيام يقارف بعض الأشياء، ورجل يصلي المكتوبة ويصوم مع السلامة. قال: لا أعدل بالسلامة شيئاً، قال تعالى:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32].
وفيه: فضيلة من يلازم المسجد للصلاة مع الجماعة، لأنَّ المسجد بيت الله وبيت كل تقي، وحقيق على المزور إكرام الزائر، فكيف بأكرم الكرماء؟ وفيه: فضيلة التَّحابُب في الله تعالى، فإنَّ الحب في الله والبغض في الله من الإيمان، وعند مالك من الفرائض.
وروى ابن مسعود والبراء بن عازب مرفوعاً: ((إن ذلك من أوثق عرى الإيمان))، وروى ثابت عن أنس يرفعه:((ما تحاب رجلان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه)).
وروى أبو رزين، قال:((قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا رزين إذا خلوت حرك لسانك بذكر الله، وحب في الله وأبغض في الله، فإن المسلم إذا زار في الله شيعه سبعون ألف ملك يقولون: اللهم وصله فيك فصله، ومن فضل المتحابين في الله أن كل واحد منهما إذا دعا لأخيه بظهر الغيب أمن الملك على دعائه)). رواه أبو داود مرفوعاً.
وفيه: فضيلة من يخاف الله قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]. وقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]
وروى أبو معمر عن سلمة بن نَبيْط عن عبيد بن أبي الجعد عن كعب الأحبار، قال: إن في الجنة لداراً، درة فوق درة، ولؤلؤة فوق لؤلؤة، فيها سبعون ألف قصر، في كل قصر سبعون ألف دار، في كل دار سبعون ألف بيت، لا ينزلها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو محكم في نفسه أو إمام عادل.
قال سلمة: فسألت عبيداً عن المحكم في نفسه قال: هو الرجل يطلب الحرام من النساء أو من المال فيتعرض له، فإذا ظفر به تركه مخافة الله تعالى، فذلك المحكم في نفسه.
وفيه: فضيلة المخفي صدقته ومصداق هذا الحديث في قوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271].
وقالت العلماء: هذا في صدقة التطوع، فالسر فيها أفضل لأنه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرياء. وأما الواجب فإعلانها أفضل ليُقْتَدى به في ذلك ويظهر دعائم الإسلام، وهكذا حكم الصوم فإعلان فرائضها أفضل.
واختلف في السنن: كالوتر وركعتي الفجر، هل إعلانهما أفضل أو كتمانهما؟ حكاه ابن التين.
وفيه: فضيلة ذكر الله في الخلوات مع فيضان الدمع من عينيه، وروى أبو هريرة مرفوعاً:((لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع)).
وروى أبو عمران عن أبي الخَلْد، قال: قرأت في مسألة داود، عليه والسلام، ربه تعالى: إلهي ما جزاء من بكى من خشيتك حتى تسيل دموعه على وجهه؟ قال: أسَلِّمُ وجهه من لفح النار.
تنبيهات:
الأول: ذكر الرجال في هذا الحديث لا مفهوم له بل يشترك النساء معهم فيما ذكر