الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يطلق لكلِّ من بادر بأيِّ شيء ٍكان في أي وقت كان، وأصله المبادرة بالشيء أوَّل النَّهار.
قوله: (فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الفاء للتعليل، وقد استُشكل معرفة تيقن دخول الوقت مع وجود الغيم؛ لأنَّهم لم يكونوا يعتمدون فيه إلَّا على الشَّمس، وأجيب باحتمال أنَّ بريدة قال ذلك عند معرفة الوقت؛ لأنَّه لا مانع في يوم الغيم من أن تظهر الشَّمس أحيانًا، ثمَّ إنَّه لا يشترط إذا احتجبت الشَّمس اليقين، بل يكفي الاجتهاد. انتهى.
قوله: (مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ العَصْرِ) زاد مَعْمَر في روايته: ((متعمدًا)) وكذا أخرجه أحمد من حديث أبي الدرداء، قال العَيني: كلمة (مَنْ) موصولة تتضمَّن معنى الشرط في محل الرَّفع على الابتداء، وخبره (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) ودخول الفاء فيه لأجل تضمُّن المبتدأ الشرط.
قوله: (فَقَدْ حَبِطَ) سقط من رواية المُسْتَمْلي، وفي رواية مَعمَر:((أَحْبَطَ اللهُ عملَهُ)). انتهى.
وقال العَيني: و (حَبِطَ) -بكسر الباء الموحدة- أي بطل، يقال: حَبِط يَحبَط من باب عَلِم يَعلَم، فقال: حبط عملُه وأَحبَطه غيرُه، وهو من قولهم: حَبِطَت الدابة حَبَطًا بالتحريك إذا أصابت مرعىً طيبًا فأفرطت في الأكل حتَّى تنتفخ فتموت. انتهى.
احتجَّ الحنفيَّة بهذا الحديث على أنَّ المستحبَّ تعجيل العصر يوم الغيم، واحتجَّ به الخوارج وجماعة من غيرهم على تكفير أهل المعاصي، قالوا: وهو نظير قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه} [المائدة: 5]، وردَّ عليهم أبو عُمَر بن عبد البرِّ بأن مفهوم الآية: أنَّ من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله، فيتعارض مفهوم الآية ومنطوق الحديث، فإذا كان كذلك يتعيَّن تأويل الحديث؛ لأنَّ الجمع إذا كان ممكنًا كان أولى من الترجيح.
قال شيخنا: فتأوَّل الجمهور الحديث وافترقوا في تأويله فرقًا؛ فمنهم من أوَّل سبب الترك، ومنهم من أوَّل الحبط، ومنهم من أوَّل العمل، فقيل: المراد من تركها جاحدًا لوجوبها أو معترفًا لكن مستخفًّا مستهزئًا لمن أقامها، وتعقِّب بأن الذي فهمه الصحابي إنَّما هو التفريط، وبهذا أمر بالمبادرة إليها، وفهمه أولى من فهم غيره كما تقدَّم، وقيل: المراد مِن تركها متكاسلًا، لكن خرج الوعيد مخرج الزَّجر الشديد وظاهره غير مراد كقوله:((لا يزني الزَّاني حينَ يزني وهوَ مؤمنٌ))، وقيل: هو من مجاز التشبيه، كأنَّ المعنى: فقد أشبه من حبط عمله. وقيل: معناه كاد أن يحبط عمله.
وقيل: المراد بالحبط نقصان العمل في ذلك الوقت الذي ترفع فيه الأعمال إلى الله، وكأنَّ المراد بالعمل الصَّلاة خاصة، أي لا يحصل على أجر من صلَّى العصر ولا يرتفع له عملها حينئذ، وقيل: المراد بالحبط الإبطال، أي يبطل انتفاعه بعمله في وقتٍ ما ثمَّ ينتفع به، كمن رجحت سيئاته على حسناته فإنَّه موقوف في المشيئة، فإن غفر له فمُجَرَّد الوقوف إبطال نفع الحسنة إذ ذاك، وإن عدت ثمَّ غفر له فكذلك، قال معنى ذلك القاضي أبو بكر بن العربي، وقد تقدَّم مبسوطًا في كتاب الإيمان في باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله، ومحصَّل ما قال: أنَّ المراد بالحبط في الآية غير المراد بالحبط في الحديث.
وقال في «شرح الترمذي» : الحبط على قسمين: حبط إسقاط، وهو إحباط الكفر للإيمان وجميع الحسنات، وحبط موازنة، وهو إحباط المعاصي للانتفاع بالحسنات عند رجحانها عليها إلى أن تحصل النَّجاة فيرجع إليه جزاء حسناته.
وقيل: المراد بالعمل في الحديث
عمل الدُّنْيا الذي سبَّب الاشتغال به ترك الصَّلاة، بمعنى: إنَّه لا ينتفع به ولا يُمتع، وأقرب هذه التأويلات قول من قال: إنَّ ذلك خرج مخرج الزَّجر الشديد، وظاهره غير مراد، والله أعلم. انتهى. قال العَيني: وهو قول ابن بَزيزَة. وعلَّله العَيني بأنَّ الأعمال لا يحبطها إلَّا الشرط، كذا رأيته بخطه، وصوابه: إلَّا الشِّرك. انتهى.
واحتجَّ به بعض الحنابلة من أنَّ تارك الصَّلاة يكفر، وردَّ بأنَّ ظهره متروك، والمراد به التغليظ والتهديد، والكفر ضدُّ الإيمان، وتارك الصَّلاة لا ينفى عنه الإيمان، وأيضًا: لو كان الأمر كما قالوا لما اختُصَّتِ العصر بذلك، ووجه اختصاص العصر بذلك فلأنه وقت ارتفاع الأعمال، ووقت اشتغال النَّاس بالبيع والشِّراء في هذا الوقت بأكثر من وقت غيره، ووقت نزول ملائكة اللَّيل. قلت: ويمكن أن يقال: اختصاص العصر بذلك لأنَّه وقت تجلِّي؛ لأنَّ الله ينظر إلى أهل الدُّنْيا في هذا الوقت، وعلى هذا يكون المراد بحبط العمل سقوط عمله لصلاة العصر في هذا الوقت من نظر الله، والله أعلم. انتهى.
(16)
(بَابُ فَضْلِ صَلَاةِ العَصْرِ)
أي هذا باب في بيان فضل صلاة العصر، والمناسبة بين هذه الأبواب ظاهرة.
قال شيخنا: فضل صلاة العصر، أي على جميع الصَّلوات إلَّا الصُّبح، وإنَّما حملته على ذلك؛ لأنَّ حديثي الباب لا يظهر منهما رجحان العصر عليها، ويحتمل أن يكون المراد: أنَّ العصر ذات فضيلة لا ذات أفضليَّة. انتهى.
قال العَيني: هذا التقدير فيه تَعَسُّف، ولأنَّ جميع الصَّلوات منزلة في الفضل، غاية ما في الباب: أنَّ لصلاة الفجر والعصر مزية على غيرهما، وإنما خُصَّ العصر بالذكر للاكتفاء كما في قوله تعالى:{سَرَابِيْلَ تَقِيْكُمُ الحَرَ} [النحل: 81] أي والبرد أيضًا.
554 -
قوله: (حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ) -أي بضمِّ الحاء المهملة- واسمه عبد الله بن الزُّبَيْر بن عيسى بن عبد الله بن الزُّبَيْر بن عبد الله بن حُمَيْد، ونسبه إلى جدِّه حُمَيْد القُرَشي المكِّي، مات سنة تسع عشرة ومائتين. قلت: تقدَّمت ترجمته في بدء الوحي، وأعاد العَيني بعضها ههنا. انتهى.
قوله: (قَالَ: حَدَّثَنَا مَرَوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ) أي ابن الحارث الفَزَاري، مات بدمشق سنة ثلاث وتسعين ومائة.
قوله: (قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيْلُ) أي ابن أبي خالد -بالخاء المعجمة- ترجمته في باب يتلو باب أمور الدِّين.
قوله: (عَنْ قَيْسٍ) أي ابن أبي حازم -بالحاء المهملة- ترجمته في باب الدين النصيحة.
قوله: (عَنْ جَرِيْرِ بنِ عَبْدِ اللهِ) أي ابن جابر البجلي رضي الله عنه، ترجمته في الباب أيضًا.
في هذا الإسناد: التَّحديث بصيغة الجمع في ثلاث مواضع، والعنعنة في موضعين، وفيه القول، ووَقَعَ عند ابن مردويه من طريق شُعْبَة عن إسماعيل التصريح بسماع إسماعيل من قيس وسماع قيس عن جرير، وفيه ذكر الحُميدي فنسبه إلى أحد أجداده، وإنَّه من أفراد البخاري، وفيه أنَّ رواته ما بين مكي وكوفي، وفيه رواية التَّابعي عن التابعي، وهما إسماعيل وقيس، وفيه أنَّ أحد الرُّواة من المخضرمين. قلت: تقدَّم الكلام على الخضرمة في باب: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] في كتاب الإيمان. انتهى.
قوله: (قَالَ: كُنَّا
عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ إِلى القَمَرِ لَيلَةً فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَونَ هَذَا القَمَرَ لَا تُضَامُوْنَ في رُؤيَتِهِ، فِإِنِ استَطَعْتُمْ إلَّا تُغلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوْعِ الشَّمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافعَلُوا. ثمَّ قَرَأَ:{فسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمس وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]) قَالَ إِسْمَاعِيْلُ: افْعَلُوا لا تَفُوْتَنَّكُمْ.
مطابقته للترجمة تأخذ من قوله (قَبْلَ غُرُوْبِهَا) أي قبل غروب الشَّمس، والصَّلاة في هذا الوقت هي صلاة العصر، قال العَيني: ولو قال باب فضل صلاة الفجر والعصر لكان أولى؛ لأنَّ المذكور في الحديث والآية صلاة الفجر والعصر.
هذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا عن مُسَدَّد عن يحيى بن سعيد في الصَّلاة أيضًا، وأخرجه في التفسير عن إِسْحاق بن إبراهيم عن جرير، وفي التَّوحيد عن عَمْرو بن عَوْف عن خالد وهُشَيم، وعن يوسف بن موسى عن عاصم، وعن عَبْدَة بن عبد الله، وأخرجه مسلم في الصَّلاة عن زُهَير بن حرب عن مروان به، وعن أبي بكر بن أبي شَيْبَة عن عبد الله بن نُمَير وأبي أسامة ووكيع ثلاثتهم عن إسماعيل به، وأخرجه أبو داود في السنَّة عن عُثْمان بن أبي شَيْبَة عن جرير ووكيع وأبي أسامة به، وأخرجه النَّسائي عن يحيى بن كثير وعن يعقوب بن إبراهيم، وأخرجه ابن ماجَهْ في السُّنَّة عن محمَّد بن عبد الله بن نُمَير عن أبيه ووكيع، وعن علي بن محمَّد عن خالد يعلى بن عُبَيْد ووكيع وأبي معاوية أربعتهم عن إسماعيل به.
قوله: (فَنَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيْلَةً) زاد مسلم: ((ليلة البدر))، وكذا للمُصَنِّف من وجه آخر، وهو حال من العنعنة أيضًا كما سيأتي في باب صلاة الفجر، وسنذكر اختلاف الروايات فيه. قال العَيني: الظَّاهر أنَّ (لَيْلَةً) نصب على الظرفية، والتقدير: نظر إلى القمر في ليلة من الليالي. قال الكِرْماني: الظَّاهر إنَّه من باب تنازع الفعلين عليه.
قوله: (لَا تُضَامُونَ) رُوي بضمِّ التَّاء وتخفيف الميم من الضَّيم وهو التعب، وبتشديدها من الضمِّ، وفتح التَّاء وتشديد الميم، قال الخطَّابيُّ: يروى على وجهين: أحدهما مفتوحةَ التَّاء مشددة الميم، وأصله: تتضامون، حذفت إحدى التاءين، أي لا يضام بعضكم بعضًا كما يفعله النَّاس في طلب الشيء الخفي الذي لا يسهل دركه، فيتزاحمون عنده يريد أنَّ كلَّ واحد منهم دارع مكانه لا ينازعه في رؤيته أحد، والآخر: لا تضامون من الضيم، أي لا يضيم بعضكم بعضًا في رؤيته.
وقال التَّيْمي: (لا تُضَامُّونَ) -بتشديد الميم- مراده أنَّكم لا تختلفون إلى بعض فيه حتَّى تجتمعوا للنظر وينضم بعضكم إلى بعض فيقول واحد: هو ذاك، ويقول الآخر: ليس كذلك كما يفعله النَّاس عند النظر إلى الهلال أوَّل الشَّهر، وبتخفيفها معناه: لا يضيم بعضكم بعضًا بأن يدفعه عنه أو يستأثر به دونه، وقال ابن الأَنْباري: أي لا يقع لكم في الرؤية ضَيم وهو الذلُّ، وأصله: تضيمون، فألقيت حركة التَّاء على الضاد، فصارت الياء ألفًا لانفتاح ما قبلها.
وقال ابن الجوزي: لا تضامون بضمِّ التَّاء المُثَنَّاة من فوق وتخفيف الميم، وعليه أكثر الرواة، والمعنى: لا ينالكم ضيم، والضيم أصله الظلم، وهذا الضيم يلحق الرائي من وجهين: أحدهما من مزاحمة الناظرين له، أي لا تزدحمون في رؤيته فيراه بعضكم دون بعض، ولا يظلم بعضكم بعضًا، والثاني من تأخره
عن مقام الناظر المحقق، فكأنَّ المتقدِّمين ضاموه، ورؤية الله عز وجل يستوي فيها الكلُّ بلا ضيم ولا ضرر ولا مشقَّة.
وفي رواية: ((لَا تُضَامُوْنَ أَوْ لَا تُضَاهون)) يعني على الشكِّ، أي لا يشتبه عليكم وترتابون فيعارض بعضكم بعضًا في رؤيته، وقيل: لا تسهونه في رؤيته بغيره من المرئيات، وروي:((تُضَارُّوْنَ)) -بالرَّاء المشدَّدة والتَّاء مفتوحة ومضمومة- قال الزَّجَّاج: معناهما لا تتضارون، أي لا يضار بعضكم بعضًا بالمخالفة. وعن ابن الأَنْباري: هو تتفاعلون من الضرار، أي لا تتنازعون وتختلفون، ورُوي:((تُضَارُوْنَ)) -بضمِّ التَّاء وتخفيف الراء- أي لا يقع للمرء في رؤيته ضير ما بالمخالفة والمنازعة أو الخفاء، وروي:((تُمَارُوْنَ)) براء مخفَّفة، يعني تجادلون، أي لا يدخلكم شكٌّ.
قوله: (فَإِنِ استَطَعْتُمْ إلَّا تُغْلَبُوا) بلفظ المجهول، وكلمة أن مصدريَّة، والتقدير: من إلَّا تغلبوا، أي من الغلبة بالنَّوم والاشتغال بشيء من الأشياء المانعة عن الصلاة.
قوله: (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمس وَقَبْلَ غُرُوْبِهَا) زاد مسلم: ((يعني العصر والفجر))، ولابن مردويه من وجه آخر عن إسماعيل:((قبل طلوع الشَّمس صلاة الصبح، وقبل غروبها صلاة العصر)). قال شيخنا: فيه إشارة إلى قطع أسباب الغلبة المنافية للاستطاعة كالنَّوم والشغل ومقاومة ذلك بالاستعداد له.
وقال ابن بطَّال: قال المُهَلَّب: قوله: (فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ ألَّا تُغْلَبُوا عَنْ صَلَاةِ) أي في الجماعة، قال وخصَّ هذين الوقتين لاجتماع الملائكة فيهما ورفعهم أعمال العباد؛ لئلَّا يفوتهم هذا الفضل العظيم.
قال شيخنا: وعرف بهذا مناسبة إيراد حديث: (يَتَعَاقَبُونَ) عقب هذا الحديث، لكن لم يظهر لي وجه تقييد ذلك بكونه في جماعة من سياق الحديث وإن كان فضل الجماعة معلومًا من أحاديث أخر، بل ظاهر الحديث يتناول من صلاهما ولو منفردًا؛ إذ مقتضاه التحريض على فعلهما أعمُّ من كونه في جماعة أو لا.
قوله: (افْعَلُوا لَا تَفُوْتَنَّكُمْ) أي افعلوا هذه الصَّلاة لا تفوتنَّكم، والضمير المرفوع فيه يرجع إلى الصلاة، وهو بنون التوكيد، وهو مدرج من كلام إسماعيل، وكذا (ثمَّ قرأ) مدرج.
قال الكِرْماني: فإن قلت: ما المراد بلفظ (افْعَلُوا) إذ لا يصحُّ أن يراد: افعلوا الاستطاعة أو افعلوا عدم المغلوبيَّة؟ قلت: عدم المغلوبيَّة كناية عن الإتيان بالصَّلاة؛ لأنَّه لازم الإتيان، فكأنَّه قال: فأتوا بالصلاة فاعلين لها. انتهى. قال العَيني: لو قُدِّر مفعول (افْعَلُوا) مثل ما قدَّرنا لكان استغنى عن هذا السؤال والجواب. قال الخطَّابيُّ: هذا يدلُّ على أنَّ الرؤية يُرتجى نَيلُها بالمحافظة على هاتين الصلاتين. انتهى. قال شيخنا: وقد يستشهد لذلك بما أخرجه التِّرْمِذي من حديث ابن عُمَر رفعه قال: ((إنَّ أدنى أهلِ الجنَّةِ منزلةً)) فذكر الحديث، وفيه:((وأكرمُهم على اللهِ مَنْ ينظرُ إلى وجهِه غدوةً وعشيةً)) وفي سنده ضعف. انتهى.
قوله: (ثُمَّ قَرَأَ) قال شيخنا: كذا في جميع روايات الجامع، وأكثر الروايات في غيره بإبهام فاعل (قَرَأَ) وظاهره أنَّه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وحمله عليه جماعة من الشرَّاح، لكن لم أر ذلك صريحًا، ووَقَعَ عند مسلم عن زُهَير بن حرب
عن مروان بن معاوية بإسناد حديث هذا الباب: (ثمَّ قرأَ جريرُ) أي الصحابي، وكذا أخرجه أبو عَوانة في «صحيحه» يعلى بن عُبَيْد عن إسماعيل بن خالد، فظهر إنَّه وَقَعَ في سياق حديث الباب وما وافقه إدراج.
قال العلماء: وجه مناسبة ذكرها بين الصلاتين عند ذكر الرواية أنَّ الصَّلاة أفضل الطاعات، وقد ثبت لها بين الصلاتين من الفضل على غيرهما ما ذكر من اجتماع الملائكة فيهما ورفع الأعمال وغير ذلك، فهما أفضل الصلوات، فناسب أن يجازى المحافظ عليهما بأفضل العطايا وهو النَّظر إلى الله تعالى. وقيل: لما حقق رؤية الله تعالى برؤية القمر والشَّمس، وهما آيتان عظيمتان شرعت لكسوفهما الصَّلاة والذكر، ناسب من يحب رؤية الله أن يحافظ على الصَّلاة عند غروبها. انتهى.
قوله: (فَسَبَّحْ) التلاوةُ: {وَسَبِّحْ} بالواو لا بالفاء. قلت: وقد اختلف المحدِّثون في أنَّه إذا رُوي شيء على خلاف الصَّواب هل يصلح أو يقرأ كما هو؟ الأكثرون على أنَّه يقرأ على الصواب، وهذه المسألة لم يتعرض لها شيخنا ولا العَيني ههنا، وكان ينبغي التنبيه عليها. انتهى. والمراد بالتسبيح الصلاة.
وهذا ما سبق الوعد به من ذكر اختلاف الروايات في قوله: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ لَا تُضَامُوْنَ فِي رُؤْيَتِهِ)، وفي لفظ للبخاري:((إِذْ نَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ فَقَالَ: أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ)) وفي التفسير: ((فَنَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشَرَةَ))، وعند اللالكائي عن البخاري:((إِنَّكُمْ سَتُعْرَضُوْنَ عَلَى رَبِّكُمْ وَتَرَوْنَهُ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ))، وعند الدَّارَقُطْني: وقال زيد بن أبي أُنَيْسَة: ((فتنظرُونَ إليهِ كما تنظرُونَ إلى هذا القمرِ))، وقال وكيع:((ستعاينُونَ))، وسيأتي عند البخاري عن أبي هريرة وأبي سعيد:((هَلْ تُضَارُّوْنَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمس فِي الظَّهِيْرَةِ لَيْسَتْ فِي سَحَابَةٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: هَلْ تُضَارُّوْنَ فِي رُؤْيَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ فِيْهِ سَحَابَةٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تُضَارُّوْنَ فِي رُؤْيَتِهِ إلَّا كَمَا تُضَارُّوْنَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا))، وعن أبي موسى عنده بنحوه.
وعن أبي رَزِين العُقَيلي: ((قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أَكُلُّنَا يرى ربَهُ مَخليًّا بهِ يومَ القيامةِ؟ قالَ: نعم، قالَ: وما آيةُ ذلكَ في خلقهِ؟ قالَ: يا أبا رَزِين، أليس كلُّكم يرى القمرَ ليلةَ البدرِ مَخليًّا بهِ؟ قالَ: فاللهُ أعظمُ وأجلُّ، وذلكَ آيتهُ في خلقهِ)).
وعند ابن ماجَهْ عن جابر: ((بينا أهلُ الجنَّةِ في نعيمِهم إذ سطعَ لهمْ نورٌ فرفعُوا رؤوسَهم، فإذا الربُّ قدْ أشرفَ عليهم، فينظر إليهم وينظرون إليه))، وعن صُهَيب عند مسلم فذكر حديثًا فيه:((فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله تعالى شيئًا أحبُّ إليهم من النظر إليه)).
وفي «سنن اللَّالَكائي» عن أَنَس وأُبَي بن كعب وكعب بن عُجْرَة: ((سئلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنِ الزيادةِ في كتابِ اللهِ تعالى، قالَ: النَّظرُ إلى وجهِه)). انتهى.
استدلَّ بهذه الأحاديث وبالقرآن وإجماع الصحابة ومن بعدهم على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين، وقد روى أحاديث الرؤية أكثر من عشرين صحابيًا، وقال أبو القاسم: روى رؤية المؤمنين لربِّهم عز وجل في القيامة: أبو بكر، وعلي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وابن مسعود، وأبو موسى، وابن عباس، وابن عمر، وحذيفة، وأبو أُمامة،
وأبو هريرة، وجابر، وأنس، وعمَّار بن ياسر، وزيد بن ثابت، وعبادة بن الصَّامت، وبُرَيدة بن حَصِيب، وجُنادة بن أبي أُميَّة، وفَضَالة بن عُبَيْد، ورجل له صحبة من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ ذكر أحاديثهم بأسانيد غالبها جيدة.
وذكر أبو نُعَيم الحافظ في كتاب «تثبيت النظر» : أبا سعيد الخدري، وعُمارة بن رُؤيبة، وأبا رَزِين العُقَيلي، وأبا بَرزة، وزاد الآجري في كتاب «الشريعة» ، وأبو محمَّد عبد الله بن محمَّد المعروف بأبي الشيخ في كتاب «السنَّة الواضحة» تأليفِهما: عديَّ بن حاتم الطَّائي بسند جيد.
والرؤية مختصَّة بالمؤمنين ممنوعة من الكفَّار، وقيل: يراه منافقو هذه الأمَّة، قال العَيني: وهذا ضعيف، والصحيح: أنَّ المنافقين كالكفَّار باتِّفاق العلماء، وعن ابن عُمَر وحُذَيفة: من أهل الجنَّة من ينظر إلى وجهه تعالى غدوة وعشيَّة. انتهى.
قلت: فائدةٌ: رؤية الله تعالى في الدُّنْيا جائزة عقلًا وشرعًا لنبيِّنا عليه الصلاة والسلام، ولغيره عقلًا فقط، وفي الآخرة جائزة عقلًا وشرعًا له ولغيره. انتهى.
ومنع من ذلك المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة، واحتجُّوا في ذلك بوجوه:
الأوَّل: قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، وقالوا: يلزم من نفي الإدراك بالبصر نفي الرؤية.
الثاني: قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، و (لن) للتأبيد بدليل قوله تعالى:{قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا} [الفتح: 15]، وإذا ثبت في حقِّ موسى عدم الرؤية ثبت في حقِّ غيره.
الثالث: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولً} [الشورى: 51] الآية، فالآية دلَّت على أنَّ كلَّ من يتكلَّم الله معه فإنَّه لا يراه، فإذا ثبت عدم الرؤية في وقت الكلام ثبت عدم الرؤية في غير وقت الكلام ضرورةَ إنَّه لا قائل بالفصل.
الرابع: أنَّ الله تعالى ما ذكر في طلب الرؤية في القرآن إلَّا وقد استعظمه وذم عليه، وذلك في آيات، منها قوله تعالى:{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 55].
الخامس: لو صحَّت رؤية الله تعالى لرأيناه الآن، فالتالي باطل والمقدَّم مثله.
لنا أهل السنَّة ما ذكرناه من الأحاديث الصحيحة، وقوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة} [القيامة: 22 - 23]، وقوله تعالى:{كَلَّا أنَّهم عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 55]، فهذا يدلُّ على أنَّ المؤمنين لا يكونون محجوبين.
والجواب عن قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] : أنَّ المراد من الإدراك الإحاطةُ، ونحن أيضًا نقول به، وعن قوله:{لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] : أنَّا لا نسلِّم أنَّ (لن) تدلُّ على التأبيد بدليل قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95]، مع أنَّهم يتمنَّونه في الآخرة، وعن قوله:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إلَّا وَحْيًا} [الشورى: 51] الآية: أنَّ الوحي كلام يسمع بالسرعة، وليس فيه دلالة على كون المتكلِّم محجوبًا عن نظر السامع أو غير محجوب عن نظره، وعن قوله:{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى} [البقرة: 55] الآية: أنَّ الاستعظام لم لا يجوز أن يكون لأجل طلبهم الرؤية على سبيل التعنُّت والعناد، بدليل الاستعظام في نزول الملائكة في قوله:{لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا المَلَائِكَةُ} [الفرقان: 21]، ولا نزاع في جواز ذلك.
والجواب عن قولهم: لو صحَّت رؤية الله تعالى
…
إلخ، أنَّ عدم الوقوع لا يستلزم عدم الجواز، فإنَّ قالوا: الرؤية لا تتحقَّق إلَّا بثمانية أشياء: سلامة الحاسة، وكون الشيء بحيث يكون جائز الرؤية، وأن يكون المرئي مقابلًا للرائي أو في حكم المقابل، فالأوَّل كالجسم المحاذي للرائي، والثاني
كالأعراض المرئية، فإنها ليست مقابلة للرائي؛ إذ العرض لا يكون مقابلًا للجسم، ولكنها حالة في الجسم المقابل للرائي، فكان في حكم المقابل، وألَّا يكون المرئي في غاية القرب ولا في غاية البعد، وألَّا يكون في غاية الصغر ولا في غاية اللطافة، وألَّا يكون بين الرائي والمرئي حجاب.
قلنا: الشرائط الستُّ الأخيرة لا يمكن اعتبارها إلَّا في رؤية الأجسام، والله تعالى ليس بجسم، فلا يمكن اعتبار هذه الشرائط في رؤيته تعالى، ولا يعتبر في حصول الرؤية إلَّا الأمران: سلامة الحاسَّة، وكونه بحيث يصحُّ أن يرى، وهذان الشرطان حاصلان.
فإن قلت: الكاف في (كَمَا تَرَوْنَ) للتشبيه، ولا بدَّ أن تكون مناسبة بين الرائي والمرئي، قال العَيني: معنى التشبيه فيه: أنَّكم ترونه رؤية محقَّقة لا شكَّ فيها ولا مشقة ولا خفاء كما ترون القمر كذلك، فهو تشبيه للرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي. انتهى.
في حديث الباب أيضًا: زيادة شرف الصلاتين، وذلك لتعاقب الملائكة في وقتيهما، ولأنَّ وقت صلاة الصُّبح وقت لذَّة النَّوم كما قيل:
ألذُّ الكَرى عند الصَّباح يطيبُ
والقيامُ فيه أشقُّ على النَّفس من القيام في غيره، وصلاة العصر وقت الفراغ عن الصناعات وإتمام الوظائف، والمسلم إذا حافظ عليها مع ما فيه من التثاقل والتشاغل، فلأنْ يحافظ على غيرها بالطريق الأَولى.
قلت: وفيه ترغيب النَّاس وحثُّهم على العبادة وضرب المثال بالشاهد على الغائب، وحضور الرغبة عند الإمام في اللَّيل وتعلُّمهم العلم باللَّيل، وفيه: أنَّ الأعمال الشاقَّة على النَّفس ينال بها العبد أعظم الثواب من الله. انتهى.
555 -
قوله: (حَدَّثَنَا عَبدُ اللهِ بنُ يُوسُفَ) أي التِّنِّيسي، ترجمته في كتاب الوحي.
قوله: (قَالَ: أَخْبَرَنا مَالِكٌ) أي ابن أنس، ترجمته في البدء أيضًا.
قوله: (عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) أي عبد الله بن ذكوان، ترجمته في باب حبِّ الرسول من الإيمان.
قوله: (عَنِ الأَعْرَجِ) أي عبد الرحمن بن هُرمُز، ترجمته في الباب أيضًا.
قوله: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) أي عبد الرحمن بن صخر، ترجمته في باب أمور الإيمان.
في هذا الإسناد: التَّحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإخبار كذلك، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته مدنيُّون ما خلا عبد الله بن يوسف فإنه تِنِّيسي، وهو من أفراد البخاري.
قوله: (أَنْ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: يَتَعَاقَبُوْنَ فِيْكُمْ: مَلَائِكَةٌ بِاللَّيل وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهار، وَيَجتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ وَصَلَاةِ العَصْرِ، ثمَّ يَعرُجُ الَّذِيْنَ بَاتُوا فِيْكُمْ فَيَسْأَلُهُم وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ، فَيَقُولُ: كَيفَ تَرَكتُم عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكنَاهُم وَهُم يُصَلُّونَ، وَأَتَينَاهُم وَهُم يُصَلُّونَ).
مطابقته للترجمة في قوله: (وَيَجْتَمِعُوْنَ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ وَصَلَاةِ العَصْرِ) وقد ذكرنا أنَّ اقتصاره في الترجمة على العصر من باب الاكتفاء.
هذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في التوحيد عن إسماعيل وقتيبة، وأخرجه مسلم في الصَّلاة عن يحيى بن يحيى، وأخرجه النَّسائي فيه وفي البعوث عن قُتَيْبَة وعن الحارث بن مسكين عن ابن القاسم الكلُّ عن مالك.
قوله: (يَتَعَاقَبُوْنَ) قال العَيني: فاعل (يَتَعَاقَبُوْنَ) مضمر، والتقدير: ملائكة يتعاقبون، وقوله:(ملائكة) بدل من الضَّمير الذي فيه أو بيان، كأنَّه
قيل: من هم؟ فقيل: ملائكة، وهذا مذهب سيبويه فيه وفي نظائره، وقال الأَخْفَش ومن تابعه: إنَّ إظهار ضمير الجمع والتثنية في الفعل إذا تقدَّم جائز وهي لغة بني الحارث، وقالوا: هو نحو أكلوني البراغيث، وكقوله تعالى:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِيْنَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3]، وقال القُرْطُبي: هذه لغة فاشية، ولها وجه من القياس صحيح، وعليها حمل الأَخْفَش قوله تعالى:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِيْنَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3].
وقيل: هذا الطريق المذكور هنا اختصره الراوي، وأصله:((الملائكة يتعاقبون، ملائكة باللَّيل وملائكة بالنهار)) وبهذا اللَّفظ رواه البخاري في بدء الخلق من طريق شُعَيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد، وأخرجه النَّسائي أيضًا من طريق موسى بن عُقْبَة عن أبي الزناد بلفظ:((إن الملائكة يتعاقبون فيكم))، فاختلف فيه على أبي الزناد، فالظاهر: إنَّه كان تارةً يذكره هكذا وتارةً هكذا، وهذا يقوِّي قول هذا القائل، ويؤيِّد ذلك: أنَّ غير الأعرج من أصحاب أبي هريرة قد رووه تامًا، فأخرجه أحمد ومسلم من طريق همام بن منبه عن أبي هريرة مثل رواية موسى بن عُقْبَة لكن بحذف (إنَّ) من أوَّله، وأخرجه ابن خُزَيمَة والسرَّاج من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ:((إنَّ للهِ ملائكةً يتعاقبُونَ)) وهذه الطريقة أخرجها البزَّار أيضًا، وأخرجه أبو نُعَيم في «الحلية» بإسناد صحيح من طريق أبي يُونُس عن أبي هريرة بلفظ:((إنَّ الملائكةَ فيكُم يعتقبُونَ)).
وقال شيخنا: وتوارد جماعة من الشرَّاح على أنَّ حديث الباب من قبيل قوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [الأنبياء: 3]، ووافقهم ابن مالك، وناقشه أبو حيان زاعمًا أنَّ هذه الطريق اختصرها الراوي، واحتجَّ لذلك بما رواه البزَّار من وجه آخر عن أبي هريرة - أي كما تقدَّم - وقد شُوحح في العزو إلى «مسند البزار» مع أنَّ الحديث بهذا اللَّفظ في «الصحيحين» فالعزو إليهما أولى، وذلك أنَّ هذا الحديث رواه عن أبي الزناد مالك في «الموطَّأ» ولم يختلف عليه باللفظ المذكور، وهو قوله:(يتعاقَبون فيكُم)، وتابعه على ذلك عبد الرحمن بن أبي الزِّناد عن أبيه أخرجه سعيد بن مَنْصور عنه، ثمَّ ذكر شيخنا الأحاديث الَّتي تقدَّمت ثمَّ قال: وإذا عرف ذلك فالعزو إلى الطريق الَّتي تتحد مع الطريق الَّتي وَقَعَ القول فيها أولى من طريق مغايرة لها، فليعزُ إلى تخريج البخاري والنَّسائي من طريق أبي زناد كما أوضحته. انتهى.
ومعنى: (يَتَعاقَبونَ) تأتي طائفة عقيب طائفة، ومنه تعقيب الجيوش، وهو أن يذهب قوم ويجيء آخرون، وقال ابن عبد البرِّ: وإنما يكون التعاقب بين طائفتين أو رجلين يأتي هذا مرَّة ويعقبه هذا، ومنه تعقيب الجيوش أن يجهز الأمير بعثًا إلى مدَّة، ثمَّ يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجهز غيرهم إلى مدَّة، ثمَّ يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجهز الأولين.
فإن قلت: ما وجه تبكير ملائكة؟ قال العَيني: ليدلَّ على أنَّ الثانية غير الأولى لقوله تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12].
قوله: (فِيْكُمْ) أي المصلِّين أو مطلق المؤمنين، قال العَيني: الخطاب يعود في قوله: (يَتَعَاقَبُوْنَ فِيْكُمْ) للمصلِّين، ولا يصحُّ أن يكون لمطلق المؤمنين؛ لأن هذه الفضيلة للمصلِّين، والدليل على ذلك قوله:(يجتمعونَ في صلاةِ الفجرِ وصلاةِ العصرِ). انتهى. قلت: على قول من يقول: إنَّ المراد من الملائكة هنا الحفظة، يلزم من قول العَيني أنَّ غير المصلِّين من المؤمنين لا يكون معهم حفظة. انتهى.
قوله: (مَلَائِكَةٌ)
قال العَيني: عند أكثر العلماء هم الحفظة، فسؤاله لهم إنَّما هو سؤال عما أمرهم به من حفظهم لأعمالهم وكتبهم إياها عليهم. وقال عياض: وقيل يحتمل أن يكونوا غير الحفظة، فسؤاله لهم إنَّما هو على جهة التوبيخ لمن قال:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]، وإنَّه أظهر لهم ما سبق في علمه بقوله:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
قال القُرْطُبي: وهذه حكمة اجتماعهم في هاتين الصلاتين. أو يكون سؤاله لهم استدعاء لشهادتهم له، ولذلك قالوا:(أتيناهُم وهُم يصَلُّون، وتركناهُم وهُم يصَلُّون) وهذا من خفي لطفه عز وجل وجميل ستره إذ لم يطلعهم إلَّا على حالة عبادتهم، ولم يطلعهم على حالة شهواتهم وما يشبهها. انتهى.
قال العَيني: هذا الذي قاله يعطي أنَّهم غير الحفظة؛ لأنَّ الحفظة يطَّلعون على أحوالهم كلِّها، اللَّهمَّ إلَّا أن تكون الحفظة غير الكاتبين فيتجه ما قاله، والظَّاهر أنَّهم غيرهما؛ لأنَّه قد جاء في بعض الأحاديث:((إذا ماتَ العبدُ جلسَ كاتباهُ عندَ قبرِهِ يستغفرانِ لهُ ويصلِّيانِ عليهِ إلى يومِ القيامةِ)) يوضحه ما روى ابن المنذر بسند له عن أبي عُبَيْدَة بن عبد الله عن أبيه أنَّه كان يقول: يتداول الحارسان من ملائكة الله تعالى حارس اللَّيل وحارس النَّهار عند طلوع الفجر.
وعن الضَّحَّاك في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الفَجْرِ} [الإسراء: 78] قال: تشهده ملائكة اللَّيل وملائكة النَّهار، يشهدون أعمال بني آدم. وفي «تفسير ابن أبي حاتم» : تشهده الملائكة والجنُّ. انتهى.
قال شيخنا عقبه: كلام القاضي عياض: وفيه شيء؛ لأنَّه رجَّح أنَّهم الحفظة، ولا شكَّ أنَّ الذين يصعدون كانوا مقيمين عندهم مشاهدين لأعمالهم في جميع الأوقات، فالأولى أن يقال: الحكمة في كونه تعالى لا يسألهم إلَّا عن الحالة الَّتي تركوهم عليها ما ذُكر، ويحتمل أن يقال: إنَّ الله تعالى يستر عنهم ما يعملونه في هاتين الوقتين، لكنَّه بناء على أنَّهم غير الحفظة. وفيه إشارة إلى الحديث الآخر: أنَّ ((الصلاةَ إلى الصَّلاة كفارةٌ لما بينَهما)) فمن ثمَّ وَقَعَ السؤال من كلِّ طائفة عن آخر شيء فارقوهم عليه. انتهى.
وتردَّد ابن بَزِيزَة: هل هم الحفظة أو غيرهم؟ وقال القُرْطُبي: الأظهر عندي أنَّهم غيرهم، ويقوِّيه: إنَّه لم ينقل أنَّ الحفظة يفارقون العبد، ولأنَّ حفظة اللَّيل غير حفظة النَّهار، وبأنَّهم لو كانوا هم الحفظة لم يقع الاكتفاء في السؤال منهم عن حالة الترك دون غيرها في قوله:(كيف تركتم عبادي).
قوله: (وَيَجْتَمِعُوْنَ) قال الزَّين بن المنيِّر: التعاقب مغاير للاجتماع، لكن ذلك منزل على حالتين. قال شيخنا: وهو ظاهر، وقال ابن عبد البرِّ: الأظهر أنَّهم يشهَّدون معهم الصَّلاة في الجماعة، واللفظ محتمل للجماعة وغيرها، كما يحتمل أنَّ التعاقب يقع بين طائفتين دون غيرهم، وأن يقع التعاقب بينهم في النوع لا في الجنس.
قلت: وقد تقدَّم آنفًا أنَّ اجتماعهم في هاتين الصلاتين من لطف الله تعالى بعباده المؤمنين أن جعل اجتماعهم عندهم ومفارقتهم لهم في أوقات عبادتهم واجتماعهم على طاعة ربِّهم، فتكون شهادتهم لهم بما شاهدوه من الخير.
وقال ابن حبَّان في «صحيحه» : فيه بيان أنَّ ملائكة اللَّيل تنزل والنَّاس في صلاة العصر، وحينئذ تصعد ملائكة النَّهار، وهذا ضدُّ قول من زَعَمَ أنَّ ملائكة اللَّيل تنزل بعد غروب الشَّمس.
قوله: (ثُمَّ يَعَرُجُ الَّذِيْنَ بَاتُوا فِيْكُمْ) من: عرج يعرُج عروجًا، من باب قصر يقصُر، والعروج: الصعود، ويقال: عرج يعرج عروجًا إذا عجز من شيء أصابه، وعرج يعرج عرجًا إذا صار أعرج أو كان خِلقةً فيه، وعرَّج بالتشديد تعريجًا إذا قام.
وقد تقدَّم الكلام على قوله: (الَّذِيْنَ بَاتُوا فِيْكُمْ) قال شيخنا: اختلف في الاقتصار على سؤال الذين باتوا دون الذين ظلوا أي أقاموا في النَّهار فقيل هو من باب الاكتفاء بذكر أحد المثلين عن الآخر كقوله تعالى {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9] أي وإن لم تنفع وقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أي والبرد وإلى هذا أشار ابن التِّين وغيره قيل الحكمة في الاقتصار على هذا الشقِّ دون الآخر أنَّ ملائكة اللَّيل مظنة المعصية فلما لم يقع منه عصيان مع إمكان دواعي الفعل مع إمكان الإخفاء ونحوه واشتغلوا بالطاعة كان النَّهار أولى بذلك فكان السؤال عن اللَّيل أبلغ من السؤال عن النَّهار لكون النَّهار محلِّ الاشتهار وقيل: الحكمة في ذلك أنَّ ملائكة اللَّيل إذا صلَّوا الفجر عرجوا في الحال وملائكة النَّهار إذا صلَّوا العصر لبثوا إلى آخر النَّهار لضبط بقيَّة عمل النَّهار. قال شيخنا: وهذا ضعيف؛ لأنَّه يقتضي أنَّ ملائكة النَّهار لا يسألون عن وقت العصر، وهو خلاف ظاهر الحديث كما سيأتي. قال العَيني: هذا الذي ذكره ضعيف؛ لأنَّ لبث ملائكة النَّهار لضبط بقيَّة عمل النَّهار لا يستلزم عدم السؤال. انتهى. ثمَّ هو مبني على أنَّهم الحفظة، وفيه نظر؛ لما سنبيِّنه، وقيل: بناء أيضًا على أنَّهم الحفظة أنَّهم ملائكة النَّهار فقط، وهم لا يبرحون عن ملازمة بني آدم، وملائكة اللَّيل هم الذين يعرجون ويتعاقبون، ويؤيِّده ما رواه أبو نُعَيم في «كتاب الصلاة» له من طريق الأسود بن يزيد النَّخَعي قال: يلتقي الحارسان - أي ملائكة اللَّيل وملائكة النَّهار- عند صلاة الصُّبح، فيسلِّم بعضهم على بعض، فتصعد ملائكة اللَّيل وتلبث ملائكة النَّهار.
وقيل: يحتمل أن يكون العروج إنَّما يقع عند صلاة الفجر خاصَّة، وأمَّا النُّزول فيقع في الصَّلاتين معًا وفيه التَّعاقب، وصورته: أن تنزل طائفة عند العصر وتبيت، ثمَّ تنزل طائفة ثانية عند الفجر، فتجتمع الطائفتان في صلاة الفجر، ثمَّ يعرج الذين باتوا فقط، ويستمرُّ الذين نزلوا وقت الفجر إلى العصر، فتنزل الطائفة الأخرى فيحصل اجتماعهم عند العصر أيضًا، ولا يصعد منهم أحد، بل تبيت الطائفتان أيضًا، ثمَّ تعرج إحدى الطائفتين ويستمرُّ ذلك، فتصحُّ صورة التَّعاقب مع اختصاص النُّزول بالعصر والعروج بالفجر، فلهذا خصَّ السؤال بالذين باتوا. والله أعلم.
وقيل: إنَّ قوله في هذا الحديث: (وَيَجْتَمِعُوْنَ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ وَصَلَاةِ العَصْرِ) وهمٌ؛ لأنَّه ثبت من طرق كثيرة: أنَّ الاجتماع في صلاة الفجر من غير ذكر صلاة العصر كما في «الصحيحين» من طريق سعيد بن المُسَيَّب عن أبي هريرة في أثناء حديث فإن فيه: ((ويجتمع ملائكة اللَّيل وملائكة النَّهار في صلاة الفجر))، قال أبو هريرة: واقرأوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، وفي التِّرْمِذي والنَّسائي من وجه آخر بإسناد صحيح عن أبي هريرة في قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ
الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] قال: تشهَّده ملائكة اللَّيل والنهار. وروى ابن مردويه من حديث أبي الدرداء مرفوعًا نحوه، قال ابن عبد البرِّ: ليس في هذا دفع للرواية الَّتي فيها ذكر العصر؛ إذ لا يلزم من عدم ذكر العصر في الآية والحديث الآخر عدمُ اجتماعهم في العصر؛ لأنَّ السكوت فيه قد يكون في حكم المذكور بدليل آخر، قال: ويحتمل أن يكون الاقتصار وَقَعَ في الفجر لكونها جهريَّة.
قال شيخنا: وبحثه الأوَّل متَّجه؛ لأنَّه لا سبيل إلى ادعاء توهُّم الرَّاوي الثِّقة مع إمكان التوفيق بين الروايات، ولا سيَّما أنَّ الزيادة من العدل الضابط مقبولة، ولم لا يقال: إنَّ رواية من لم يذكر سؤال الذين أقاموا في النَّهار وَقَعَ من تقصير بعض الرواة، أو يحتمل قوله:(ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِيْنَ بَاتُوا) على ما هو أعمُّ من المبيت باللَّيل والإقامة بالنَّهار، فلا يختص ذلك بليل دون نهار ولا عكسه، بل كلُّ طائفة منهم إذا صعدت سئلت، وغاية ما فيه إنَّه استعمل لفظ (باتَ) في (أقامَ) مجازًا، ويكون قوله:(فيسألُهم) أي كلُّ من الطائفتين في الوقت الذي يصعد فيه، ويدلُّ على هذا الحمل رواية موسى بن عُقْبَة عن أبي الزناد عند النَّسائي ولفظه:((ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِيْنَ كَانُوا))، فعلى هذا لم يقع في المتن اختصار ولا اقتصار، وهذا أقرب الأجوبة.
وقد وَقَعَ لنا هذا الحديث من طريق أخرى واضحًا، وفيه التصريح بسؤال كلٍّ من الطائفتين، وذلك فيما رواه ابن خُزَيمَة في «صحيحه» وأبو العبَّاس السراج جميعًا عن يوسف بن موسى عن جرير عن الأَعْمَش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تجتمعُ ملائكةُ اللَّيلِ وملائكةُ النَّهار في صلاةِ الفجرِ وصلاةِ العصرِ، فيجتمعُونَ في صلاةِ الفجرِ، فتصعدُ ملائكةُ اللَّيلِ وتبيتُ ملائكةُ النهارِ، ويجتمعُونَ في صلاةِ العصرِ، فتصعدُ ملائكةُ النَّهار وتبيتُ ملائكةُ الليلِ، فيسألُهم ربهُّم: كيفَ تركْتُم عبادِي؟)) الحديث، وهذه الرواية تزيل الإشكال وتغني عن كثير من الاحتمالات المتقدمة، فهي المعتمدة، ويحمل ما نقص منها على تقصير بعض الرواة. انتهى.
قوله: (فَيَسْأَلُهُمْ) قيل الحكمة فيه: استدعاء شهادتهم لبني آدم بالخير، واستنطاقهم لما يقتضي التعطف عليهم بذلك، وذلك لإظهار الحكمة في خلق نوع الإنسان في مقابلة من قال من الملائكة:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] أي قد وجد فيهم من يسبِّح ويقدِّس مثلكم بنصِّ شهادتكم. وقال عياض: هذا السؤال على سبيل التعبُّد للملائكة كما أمروا أن يكتبوا أعمال بني آدم، وهو سبحانه وتعالى أعلم من الجميع بالجميع.
قوله: (كَيْفَ تَرَكْتُمْ) قال ابن أبي حمزة: وَقَعَ السؤال عن آخر الأعمال بخواتيمها، قال: والعباد المسؤول عنهم هم الذين ذكروا في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 65]. انتهى. قلت: اعلم أنَّ العبد هو القائم إلى أوامر سيِّده على حدِّ النَّشاط حيث جعله محلَّ أمره وقد كثرت عبارات القوم في حدِّ العبد والعبوديَّة والعبودة بألفاظ مختلفة ومعاني متقاربة وقد أشبعت الكلام فيها في كتابي «السراج الوهَّاج في حقائق المعراج» فمن أراد تحقيقها فليراجعه. انتهى.
قوله: (تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّوْنَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّوْنَ) قال شيخنا: لم يراعوا
الترتيب الوجودي؛ لأنَّهم بدؤوا بالترك قبل الإتيان، والحكمة فيه: أنَّهم طابقوا السؤال؛ لأنَّه قال: (كَيْفَ تَرَكْتُمْ) ولأن المُخبَر به صلاة العباد والأعمالُ بخواتيمها، فناسب ذلك إخبارهم عن آخر أعمالهم قبل أوَّله.
قوله: (تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ) ظاهره أنَّهم فارقوهم عند شروعهم في الصلاة، سواء تمَّت أو منع مانعٌ من إتمامها، وسواء شرع الجميع فيها أم لا؛ لأنَّ المنتظر في حكم المصلِّي، ويحتمل أن يكون المراد بقولهم:(وَهُمْ يُصَلُّوْنَ) أي ينتظرون صلاة المغرب.
وقال ابن التِّين: الواو في قوله: (وهم يصلُّون) واو الحال، أي تركناهم على هذه الحال، ولا يقال: يلزم منه أنَّهم فارقوهم قبل انقضاء الصَّلاة فلم يشهَّدوها معهم، والخبر ناطق بأنَّهم يشهَّدوها؛ لأنَّا نقول هو محمول على أنَّهم شهدوا الصَّلاة مع من صلَّاها في أوَّل وقتها، وشهِّدوا من دخل فيها بعد ذلك ومن شرع في أسباب ذلك. انتهى.
فإن قيل: ما الفائدة في قولهم: (وَأَتَيْنَاهُمْ) وكأنَّ السؤال عن كيفية الترك؟ وأجيب بأنَّهم زادوا في الجواب إظهارًا لبيان فضيلتهم، وحرصًا على ذِكر ما يوجب مغفرتهم كما هو وظيفتهم فيما أخبر الله عنهم بقوله:{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7]. انتهى.
قال شيخنا: ووَقَعَ في «صحيح ابن خُزَيمَة» من طريق الأَعْمَش عن أبي صالح عن أبي هريرة في آخر هذا الحديث: ((فاغفرْ لهُمْ يوم الدين)).
نكتة: استنبط منه بعض الصُّوفيَّة: إنَّه يستحبُّ ألَّا يفارق الشخص شيئًا من أموره إلَّا وهو على طهارة؛ كشعره إذا حلقه، وظفره إذا قلَّمه، وثوبه إذا أبدله، ونحو ذلك.
قال ابن خُزَيمَة: ويستفاد من الحديث أنَّ الصَّلاة أعلى العبادات؛ لأنَّها عليها وَقَعَ السؤال والجواب، وفيه الإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين؛ لكونهما يجتمع فيهما كلا الطائفتين وفي غيرهما طائفة واحدة، وفيه الإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين، وقد ورد: أنَّ الرزق يُقسم بعد صلاة الصُّبح، وأنَّ الأعمال تُرفع آخر النَّهار، فمن كان في طاعة بورك في رزقه وفي عمله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما والاهتمام بهما، وفيه تشريف هذه الأمَّة على غيرها، ويستلزم تشريف نبيها عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام على غيره من الأنبياء، وفيه الإخبار بالغيوب ويترتَّب عليه زيادة الإيمان وفيه الإخبار بما نحن فيه من ضبط أحوالنا حتَّى نتيقَّظ ونتحفَّظ في الأوامر والنَّواهي، ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رسل ربِّنا وبسؤال ربِّنا عنَّا.
قلت: وقد كنت أسمع شيخي وقدوتي السيِّد الشريف أحمد النُّعْماني رحمه الله يقول عند صلاة الفجر: مرحبًا بملائكة النَّهار، مرحبًا برسل ربِّي، السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. انتهى.
وفيه إعلامنا بحبِّ ملائكة الله لنا؛ لنزداد فيهم حبًّا ونتقرَّب إلى الله بذلك، وفيه كلام الله تعالى مع ملائكته، وغير ذلك من الفوائد.
قال شيخنا: استدلَّ بالحديث بعض الحنفيَّة على استحباب تأخير صلاة العصر؛ ليقع عروج الملائكة إذا فرغ منها آخر النَّهار، وتُعُقِّب بأن ذلك غير لازم؛ إذ ليس في الحديث ما يقتضي أنَّهم لا يصعدون إلَّا ساعة الفراغ من الصلاة، بل جائز أن تفرغ الصَّلاة ويتأخَّروا