الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(تَابَعَهُ غُنْدَرٌ) أي بضم الغين المعجمة وسكون النون وفتح الدال المهملة، محمد بن جعفر ترجمته في باب ظلم دون ظلم.
قوله: (وَمُعَاذٌ) أي بضم الميم وفتح العين المهملة وفي آخره ذالٌ معجمة، ابنُ معاذٍ أيضاً أبو المثنى البصري قاضيها ترجمته في باب وقت الظهر.
قوله: (عَنْ شُعْبَةَ) أي تابَع غندرُ ومعاذٌ بَهْزَ بن أسدٍ في روايته عن شعبة بهذا الإسناد فقالا: عن مالك بن بُحَيْنة، وفي رواية الكُشْمِيهَني عن شعبة عن مالك أي بإسناده، والأول يقتضي اختصاص المتابعةِ بقوله عن مالك بن بُحَيْنة فقط، والثاني يشمل جميعَ الإسنادِ والمتنَ وهو أولى لأنه الواقع في نفس الأمر فطريقُ غُندَر وصَلَها أحمدُ في «مسنده» عنه كذلك، وطريق معاذ وصلها الإسماعيلي من رواية عبيد الله بن معاذ عن أبيه، وقد رواه أبو داود الطيالِسي في «مسنده» عن شعبة وكذا أخرجه أحمد عن يحيى القطان وحجاج، والنسائي من رواية وهب بن جَرير، والإسماعيلي من رواية زيد بن هارون كلُّهُم عن شعبةَ كذلك.
قوله: (وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ) أي محمد بن إسحاق صاحب «المغازي» .
قوله: (عَنْ سَعْدٍ) ابن إبراهيم (عَنْ حَفْصٍ) أي ابن عاصم، وهذه الرواية موافقةٌ لرواية إبراهيم بن سعد عن أبيه، وهي الراجحةُ، وقال أبو مسعود: أهل المدينة يقولون: عبد الله بن بُحَيْنة وأهل العراق يقولون: مالك بن بُحَيْنة، والأول هو الصواب.
قوله: (وَقَالَ حَمَّادٌ: أَخْبَرَنَا سَعْدٌ، عَنْ حَفْصٍ، عَنْ مَالِكٍ) أي ابن سلمة، جزم به المِزِّي وجماعةٌ آخرون، وأخرجه الطحاوي وابن مندهْ موصولاً من طريقه، وقال الكِرماني: حماد أي ابن زيد، وهو وهمُ منه، والمراد أن حماد بن سلمة وافق شعبة في قوله: عن مالك بن بُحَيْنة، وقد وافقهما أبو عَوانة فيما أخرجه الإسماعيلي عن جعفر الفِريابي عن قتيبة عنه، لكن أخرجه مسلم والنسائي عن قتيبة فوقع في روايتهما عن ابن بُحَيْنة مبهماً، وكأنَّ ذلك وقع من قتيبةَ في وقتٍ عمداً ليكون أقربَ إلى الصواب، قال شيخنا عقب قول أبي مسعودٍ: وأهل المدينة يقولون
…
إلى آخره: فيُحمل أن السهو فيه من سعيد بن إبراهيم لَمَّا حدَّث به بالعراق، وقد رواه القَعْنَبي عن إبراهيم بن سعد على وجهٍ آخر من الوهم قال: عن عبيد الله بن مالك بن بُحَيْنة عن أبيه، قال مسلم: قوله عن أبيه خطأ، وأسقط مسلم في كتابه من هذا الإسناد قوله: عن أبيه، وكان لَمَّا رأى أهل العراق يقولون: عن مالك بن بُحَيْنة ظن أن رواية أهل المدينة مرسلة فوهِم في ذلك والله أعلم.
(39)
(بابُ حَدِّ الْمَرِيضِ أنْ يَشْهَدَ الجَمَاعَةَ)
أي هذا بابٌ في بيان حد المريض لأنْ يشهد الجماعة، وكلمة (أنْ) مصدرية والتقدير: لشهود الجماعة، وحاصلُ المعنى: بابٌ في بيان ما يحَد للمريض أن يشهد الجماعة حتى إذا جاوز ذلك الحد لم يُستحبَّ له شهودُها، وإليه أشار
ابن رشيد، وقد تكلف الشُّراحُ فيه بالتصرفِ التعسفَ، منهم ابنُ بطَّالٍ فقال: معنى الحدِّ هنا الحِدَّة كما قال عمر رضي الله عنه في أبي بكر رضي الله عنه: كنت أُداري
(1)
منه بعض الحَدِّ، أي الحِدة، وتبعه على ذلك ابن التين، والمعنى على هذا الحضُّ على شهود الجماعة، وقال ابن التين أيضاً: ويصح أن يقال أيضاً: باب جِدِّ المريض بالجيم المكسورة، يعني باب اجتهاد المريض لشهود الجماعة. ثم قال: لكن لم أسمع أحداً رواه بالجيم. انتهى. قال شيخنا: وقد أثبتَ ابن قُرقُول رواية الجيم وعزاها للقابِسي.
664 -
قوله: (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ) ترجمتُه في باب المضمضة والاستنشاق من الجنابة.
قوله: (قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي) أي حَفص، ترجمتُه في الباب أيضاً.
قوله: (قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ) أي سليمان، ترجمته في باب ظلم دون ظلم.
قوله: (عَنِ الأَسْوَدِ) أي ابن يزيدَ النخعي، ترجمتُه في باب من ترك بعض الاختيار في كتاب العلم.
قوله: (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ) أي أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، ترجمتها في بدء الوحي.
في هذا الإسناد التحديثُ بصيغة الجمع في ثلاث مواضع، وفيه العنعنة في موضع واحد، وفيه القول في أربع مواضع، وفيه أن رواته كُوفِيُّون، وفيه رواية الابن عن الأب، وفيه التصريح باسم الجد.
قوله: (فَذَكَرْنَا الموَاظَبَةَ عَلَى الصَّلَاةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهَا، قَالَتْ: لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَأُذِّنَ فَقَالَ: ((مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ)) فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إِذَا قَامَ مَقَامكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَأَعَادَ فَأَعَادُوا لَهُ، فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ:((إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ))، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي فَوَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ الأَرضَ مِنَ الوَجَعِ، فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَكَانَكَ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ، فقِيلَ لِلْأَعْمَشِ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: بِرَأْسِهِ نَعَمْ)
مناسبتُه للترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى الجماعة وهو مريض يهادَى بين رجلين، فكان هذا المقدار هو الحد لحضور الجماعة، حتى لو زاد على ذلك أو لم يجد من يحملُه إليها لا يستحب له الحضور، وأما قوله في الحديث الماضي:((لأتوهما ولو حبواً)) وقع على طريق المبالغة، ولما تحامل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وخرج بين اثنين دل على تعظيم أمر الصلاة، ودل على فضل الشِّدَّة على الرخصة، وفيه ترغيب لأمته في شهود الجماعة لما لهم فيه من عظيم الأجر، ولئلا يعذُرَ أحدٌ منهم نفسَه في التخلف عن الجماعة ما أمكنه وقدر عليها.
وقد وقع في هذه القصة اختلافٌ في الروايات فعند
(1)
في (الأصل) : ((أُذاري)) والصواب ((أُداري)).
مسلم في لفظ: أول ما اشتكى عليه السلام في بيت ميمونة رضي الله عنها واستأذن أزواجه أن يمرَّض في بيتي فأذِنَّ له. قالت: فخرج ويده على الفضل بن العباس والأخرى على رجل آخر، وهو يخط برجليه في الأرض. قالت: فلما اشتد به وجعه قال: ((أهريقوا عليَّ من سبع قِرَب لم تُحلل أوكيتُهنَّ لعلي أعهد إلى الناس))، فأجلسناه في مِخضَبٍ لحفصة، ثم طفقنا نصبُّ عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إلينا أنْ قد فعلتُنَّ، ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم، وفي لفظٍ: قالت عائشة: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يُسمع الناس من البكاء، فمُرْ عمر فيصلي بالناس. ففعلت حفصة، فقال:((مه، إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس))، فقالت لعائشة: ما كنت لأصيب منكِ خيراً.
وفي «فضائل الصحابة» لأسد بن موسى حدثنا أبو معاوية عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن ابن أبي مليكة عن عائشة في حديث طويل في مرضه عليه السلام: ورأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من نفسِه خِفَّةً، فانطلق يهادَى بين رجلين، فذهب أبو بكر يستأخر فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بيده: مكانَك، فاستفتح النبي صلى الله عليه وسلم من حيث انتهى أبو بكر من القراءة، وفي حديثه عن المبارك بن فضالة عن الحسن مرسلاً: فلما دخل المسجدَ ذهب أبو بكر يجلس فأومأ إليه: أنْ كما أنت، فصلى صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر ليريَهم أنه صاحبُ صلاتهم من بعدِه، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك يوم الإثنين.
وعند ابن حبان: فأجلسناه في مِخضَبٍ لحفصة من نحاس، ثم خرج فحمد الله تعالى وأثنى عليه واستغفر للشهداء الذين قتلوا يوم أحد. وعنها رضي الله عنها: رجع عليه السلام من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعاً في رأسي، وأنا أقول: وارأساه، فقال:((بل أنا يا عائشة وارأساه)). ثم قال: ((وما ضركِ لو متِّ قبلي فغسَّلتك وكفنتك وصليتُ عليك ثم دفنتك؟))، فقلت: لكأني بكَ لو فعلتَ ذلك رجعتَ إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، فتبسَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ في وجعه الذي مات فيه. وعنها: أغمي عليه ورأسُه في حِجْري، فجعلتُ أمسحه وأدعو له بالشفاء، فلما أفاق قال:((لا، بل اسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام). وفي لفظ: سمعته، وأنا مسندتُه إلى صدري يقول:((اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى)).
وفي لفظ: إن أبا بكر صلى بالناس ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الصف خلفه. ولفظه عند الترمذي: صلى خلفَ أبي بكر في مرضه الذي مات فيه قاعداً. وقال: حسن صحيح غريب، وعنده من حديث أنس: صلى في مرضه خلف أبي بكر قاعداً في ثوبٍ متوشحاً فيه. وقال: حسن صحيح. زاد النَّسائي: وهي آخر صلاة صلاها مع القوم. قال ابن حبان: خالف
شعبةُ زائدةَ بن قدامة في متن هذا الخبر عن موسى، فجعل شعبةُ النبي صلى الله عليه وسلم مأموماً حيث صلى قاعداً، والقومَ قيام، وهما متقِنان حافظان وليس بين حديثيهما تضادٌّ ولا تهاتر ولا ناسخٌ ولا منسوخ، بل مجمَل مفسَّر، وإذا ضُّمَّ بعضُها إلى بعض بطل التضادُّ بينهما، واستعمل كل خبر في موضعه، بيان ذلك أنه عليه السلام صلى في علته صلاتين في المسجد جماعةً لا صلاةً واحدةً، في إحداهما كان إماماً، وفي الأخرى كان مأموماً، والدليل على ذلك أن في خبر عبد الله بن جريج: بين رجلين أحدهما العباس والآخر علي رضي الله عنه، وفي خبر مسروق: خرج بين بريرة ونُوبَة، فهذا يدل على أنها كانت صلاتين لا صلاةً واحدة، وكذلك التوفيقُ بين كلام أبي نُعَيم بن أبي هند، وبين كلام عاصم بن أبي النَّجود في متن خبر أبي وائل، فإنَّ فيه: وجيء بنبي الله صلى الله عليه وسلم فوُضِع بحِذاء أبي بكرٍ في الصف.
قال أبو حاتم: في هذه الصلاة كان النبي صلى الله عليه وسلم مأموماً وصلى قاعداً خلف أبي بكر، فإن عاصماً جعل أبا بكر مأمومًا وجعل أبو نعيمٍ أبا بكر إماماً، وهما ثقتان حافظان متقنان. وذكر أبو حاتم أنه عليه السلام خرج بين الجاريتين إلى الباب، وفي الباب أخَذه العباسُ وعليٌ رضي الله عنهما حتى دخلا به المسجد، وذكر الدارقطني في «سننه» : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يهادَى بين الرجلين: أسامةَ والفضلِ، حتى صلى خلف أبي بكر، فيما ذكره السهيلي، وقال بعضهم: طريق الجمع كانوا يتناوبون الأخذ بيده عليه السلام، وكان العباسُ ألزمَهم ليده، وأولئك يتناوبونها، فذكرتْ عائشةُ أكثرَهم ملازمةً ليده وهو: العباس، وعبَّرت عن أحد المتناوبِين برجلٍ آخر.
فإن قلتَ: ليس بين المسجد الشريف وبيته عليه السلام مسافة تقتضي التناوب، يقال: يحتمل أن يكون لزيادةٍ في إكرامه عليه السلام، أو لالتماس البركة من يده عليه السلام، وفي حديث حماد بن سلمة عن هشام عن أبيه عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وجِعاً، فأمَر أبا بكر فصلى بالناس، فوجد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خفةً فجاء فقعد إلى جنب أبي بكر، فأم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وهو قاعد، وأم أبو بكر الناسَ وهو قائم.
وفي حديث قيس عن عبد الله بن أبي السفر عن الأرقم بن شرحبيل عن ابن عباس عن العباس بن عبد المطلب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: ((مروا أبا بكر فليصل بالناس))، ووجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفةً فخرج يهادَى بين رجلين، فتأخر أبو بكر فجلس إلى جنب أبي بكر، فقرأ من المكان الذي انتهى إليه أبو بكر من السورة، وفي حديث ابن خزيمة أخرجه عن سالم بن عبيد قال: مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأغمي عليه، ثم أفاق فقال:((أحضرت الصلاة؟)) قلن: نعم. قال: ((مروا بلالاً فليؤذن، ومروا أبا بكر فليصل بالناس))، ثم أغمي عليه. فذكر الحديث. وفيه:((أقيمت الصلاة؟)) قلن: نعم. قال: ((جيئوني بإنسان أعتمد عليه))، فجاؤوا ببريرة ورجل آخر فاعتمد عليهما. ثم خرج إلى الصلاة، فأُجلِس إلى جنب أبي بكر فذهب أبو بكر يتنحى، فأمسكه حتى فرغ من الصلاة.
وفي كتاب عبد الرزاق: أخبرني ابن جريج أخبرني عطاء قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر أبا بكر فصلى بالناس، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم للناس يوماً قاعداً وجعل أبا بكر وراءه بينَه وبين الناس، قال: وصلى الناسُ وراءه قياماَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما صليتم إلا قعوداً، فصلُّوا صلاة إمامكم ما كان، إنْ صلى قائماً فصلُّوا قياماً وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً)).
وعند أبي داود من حديث عبد الله بن زمعة: فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكرٍ غائباً، فقال: قم يا عمر فصل بالناس، فتقدمَ فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوتَه قال:((أين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون)). فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى أبو بكر بالناس. قوله:(وَالتَّعْظِيمَ لَهَا) بالنصب عطفا على المواظبة. قوله: (مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ) قال شيخنا: سيأتي الكلام عليه مبيَّناً في آخر المغازي في سببه ووقتِ ابتدائه وقدرِه، وقد بيَّن الزهريُّ في روايته كما في الحديث الآتي من هذا الباب أن ذلك كان بعد ما اشتد به المرض واستقر في بيت عائشة رضي الله عنها. انتهى.
قوله: (فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ) هي العشاء كما في رواية موسى بن أبي عائشة الآتية في باب إنما جعل الإمام ليؤتمَّ به، وسنذكر هناك الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى، قال العيني: وفي رواية أخرى أن هذه الصلاة صلاةُ الظهر، وفي مسلم: خرج لصلاة العصر.
قوله: (فَأُذِّنَ لَهُ) على صيغة المجهول مِن التأذين. قال شيخنا: وفي رواية الأصيلي: (وَأُذِّنَ) بالواو، وهو أوجه، والمراد به أذان الصلاة ويحتمل أن يكون معناه: أُعلِمَ، ويقويه رواية أبي معاوية عن الأعمش الآتية في باب الرجل يأتم بالإمام، ولفظه: جاء بلال يؤْذِنه بالصلاة. انتهى.
قال العيني: لم يبيِّن ما وجه الأوجهية، بل الفاء أوجه على ما لا يخفى. انتهى.
قلت: لم يبيِّن العيني أيضاً ما وجه الأوجهية، فما تَعَقَّب به تُعُقِّب به عليه. انتهى.
قوله: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ) أصلُه: اؤمروا، لأنه من أَمَرَ فحذفت الهمزة للاستثقال واستغني عن الألف فحذفت، فبقي مُروا على وزن عُلوا، لأن المحذوف فاءُ الفعل. وقال الكِرماني: وهذا أمرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، ولفظ مُروا، يدل على أنهم الآمِرون لا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم أجاب بقوله: الأصح عند الأصولي أن المأمور بالأمر بالشيء ليس آمراً به، سِيَما وقد صرح النبيُّ صلى الله عليه وسلم
بقوله ههنا بلفظ الأمر، حيث قال: فليصل. قال العيني: هذه مسألة معروفة في الأصول، وفيها خلاف. فبعضهم قال: إن الأمر به بالشيء يكون أمراً به، ومنهم من منع ذلك، وقالوا: معناه: بلِّغوا فلاناً أني أمرته. قال شيخنا: وفصْلُ النزاع أنَّ النافي إن أراد أنه ليس آمراً حقيقةً فمُسَلَّمٌ لأنه ليس فيه صيغة أمرٍ للثاني، وإن أراد أنه لا يستلزم فمردود والله أعلم.
قوله: (فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) الفاء فيه للعطف، تقديره: فقولوا له قَوْلي لِيُصَلِّ.
قوله: (فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ) قائل ذلك هي عائشة كما جاء في بعض الروايات الآتية.
قوله: (أَسِيفٌ) على وزن: فعيل بمعنى فاعل، من الأسف وهو شدة الحزن، والمراد أنه رقيقُ القلب سريعُ البكاء، ولا يستطيع لغلبة البكاء وشدة الحزن، والأسفُ عند العرب شدة الحزن والندم، يقال منه: أسف فلان على كذا يأسف
(1)
إذا اشتد حزنُه، وهو رجل أسيف وأَسوف، ومنه قول يعقوب عليه السلام:{يَاأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:84] يعني: واحُزناه واجَزَعاه تأسفاً وتوجعاً لفقده، وقيل: الأسيف: الضعيفُ من الرجال في بطشه. وأما الآسف فهو: الغضبان المتلهف. قال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف:150]، وسيأتي بعد ستة أبواب من حديث ابن عمر في هذه القصة: فقالت له عائشة: إنه رجل رقيق القلب إذا قرأ غلبه البكاء. ومن رواية مالك عن هشام عن أبيه عنها بلفظ: قالت عائشة: قلت: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يُسمع الناس من البكاء، فمُرْ عمر، كما ذكرنا عن قريب.
قوله: (وَأَعَادَ) أي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، مقالته في أبي بكر بالصلاة.
قوله: (فَأَعَادُوا لَهُ) أي من كان في البيت، يعني الحاضرون له مقالتَه
(2)
في كون أبي بكر أسيفا. قال شيخنا: والمخاطِب بذلك عائشة كما ترى، لكن جمَعَ لأنهم كانوا موافقين لها على ذلك، ووقع في حديث أبي موسى بالإفراد، ولفظه: فعادت. ولابن عمر: فعاودته. انتهى.
قوله: (فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ) أي فأعاد عليه السلام المرةَ الثالثة من مقالته تلك. وفي رواية أخرى: فراجعتُه مرتين أو ثلاثة.
وفي قوله: (إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ) حذفٌ بيَّنَهُ مالكُ في روايته المذكورة، وأن المخاطِب له حينئذٍ حفصةُ بنت عمر بأمرِ عائشةَ وفيه أيضاً: فمُرْ عمرَ، فقال:((مه إنكن لأنتن صواحبُ يوسف))، وصواحبُ جمع صاحبة على خلاف القياس، وهو شاذ. قاله العيني. والمراد أنهن مثلُ صواحب، في إظهار خلافِ ما في الباطن، ثم إن هذا الخطاب وإن كان بلفظ الجمع فالمراد به واحدٌ وهي عائشة فقط، كما أن صواحب صيغة جمعٍ، والمراد زليخا فقط، ووجه المشابهة بينهما في ذلك أن زليخا استدعت النسوة وأظهرتْ لهن الإكرامَ بالضيافة ومرادُها زيادةٌ على ذلك، وهو أن ينظرن إلى حُسْنِ يوسف ويعذرْنها في محبته، وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرفُ الإمامة عن أبيها كونُه لا يُسمع المأمومين القراءةَ لبكائه،
(1)
في (الأصل) : ((تأسف)) والصواب ((يأسف)).
(2)
كذا في (الأصل) : ((مقالته)) ولعل الصواب ((مقالتهم)).
ومرادُها زيادةٌ على ذلك، وهو أنه لا يتشاءم الناسُ به، وقيل: لأنها علمت أن الناس علموا أن أباها يصلح للخلافة فإذا رأوه استشعروا بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره.
قال شيخنا: وقد صرحت عائشة فيما بعدَ ذلك بقضية التشاؤم فقالت: لقد راجعتُه وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعدَه رجلاً قام مقامَه أبداً. الحديث، وسيأتي بتمامه في باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر المغازي إن شاء الله تعالى، وأخرجه مسلم أيضاً، قال شيخنا: وبهذا التقدير يندفع إشكال من قال: إن صواحب يوسف لم يقع منهن إظهارٌ يخالف ما في الباطن، قلت: مراد شيخنا بقوله: وبهذا التقدير
…
إلى آخر قوله إن المراد بصواحب يوسف زليخا فقط. انتهى. قال: ووقع في مرسل الحسن عند ابن أبي خُثَيمة أن أبا بكر رضي الله عنه أمر عائشة أن تكلم النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يَصرف ذلك عنه، فأرادت التوصُّل إلى ذلك بكل طريق فلم يَتِمَّ، ووقع في «أمالي ابن عبدالسلام» أن النسوة أتين امرأة العزيز يظهرن
(1)
تعنيفها ومقصودُهن في الباطن أن يدعون يوسف إلى أنفسهن، كذا قال، وليس في سياق الآية ما يساعد ما قاله.
فائدة: زاد حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم في هذا الحديث أن أبا بكر هو الذي أمر عائشة أن تشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يأمر عمر بالصلاة، أخرجه الدورقي في «مسنده» ، وزاد مالك في روايته التي ذكرناها فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منكِ خيراً، ومثلُه للإسماعيلي في حديث الباب، وإنما قالت حفصةُ ذلك لأن كلامها صادف المرةَ الثالثة من المعاودة وكان صلى الله عليه وسلم لا يراجَع بعدَ ثلاثٍ، فلما أشار إلى الإنكار عليها بما ذَكَر من أنهن صواحبُ يوسف وجدت حفصة في نفسها من ذلك لكون عائشة هي التي أمرتها بذلك، ولعلها تذكرت ما وقع لها معها أيضا في قصة المغافير كما سيأتي في موضعه. انتهى.
قوله: (فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) وفي رواية الكُشْمِيهَني: (لِلنَّاسِ).
قوله: (فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي) فإن قلت: كيف تتصور الصلاة وقت الخروج؟ يقال: لفظُ يصلي، وقع حالا من الأحوال المنتظرة. وفي رواية:(فَصَلَّى)، بفاء العطف، وهي رواية المستملي والسَّرَخْسي، ورواية غيرهما:(يُصَلِّي) بالياء آخر الحروف، وظاهرُه أنه شرع في الصلاة، ويحتمل أنه تهيأ لها، ويؤيده رواية الأكثرين لأنه حال، ففي حالة الخروج كان متهيأً للصلاة ولم يكن مصلياً.
فإن قلتَ: في رواية أبي معاوية عن الأعمش: فلما دخل في الصلاة، يقال: يحتمل أن يكون المعنى: فلما أراد الدخول في الصلاة، أو: فلما دخل في مكان الصلاة، وفي رواية موسى بن أبي عائشة: فأتاه الرسولُ، أي بلالٌ لأنه هو الذي أعلَمَ بحضور الصلاة. وفي رواية: فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصليَ بالناس. فقال
(1)
في (الأصل) : ((يظهر)) والصواب ((يظهرن)).
أبو بكرٍ -وكان رجلاً رقيقاً-: يا عمر صل بالناس. فقال له عمر: أنت أحق بذلك. وقولُ أبي بكر هذا لم يُرِدْ به ما أرادت عائشة. قال النووي: تأولَّه بعضهم على أنه قال ذلك تواضعاً وليس كذلك، بل قاله للعذر المذكور، وهو أنه رقيق القلب كثيرُ البكاء، فخشيَ ألّا يُسمع الناس. وقيل: يحتمل أن يكون فهم رضي الله عنه من الإمامةِ الصغرى الإمامةَ الكبرى، وعلم ما في تحمُّلها من الخطر، وعلم قوة عمر رضي الله عنه على ذلك فاختاره. ويؤيده أنه عند البيعة أشار عليهم أن يبايعوه أو يبايعوا أبا عبيدة بن الجراح.
قلت: ويحتمل أن أبا بكر رضي الله عنه أراد بذلك تطييب قلب عمر وتسكين خواطر المأمومين، لكون النبي صلى الله عليه وسلم منع عمر من الإمامة مع وجود أبي بكر رضي الله عنهما، فكأنه يقول له: يا عمر وإن قدمَني النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليك فأنا راض بتقديمك عَلَيَّ، فإنَّ قول أبي بكر: يا عمر صلِّ بالناس يدل على رضاه بأن يكون إماماً له في الصلاة وقد عُلِم من تقديم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر على عمر فضلُه عليه فيكون رضي مَن عمر أفضل منه من باب أولى. انتهى.
قوله: (فَوَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً) ظاهرُه أنه عليه السلام وجدها في تلك الصلاة بعينها، ويحتمل أن يكون ذلك بعدَها. وفي رواية موسى بن أبي عائشة: فصلى أبو بكر تلك الأيام، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة، فعلى هذا لا يتعين أن تكون الصلاة المذكورة هي العشاء.
قوله: (يُهَادَى) بلفظ المجهول من المفاعلة، يقال: جاء فلان يهادَى بين اثنين، إذا كان يمشي بينهما معْتمداً عليهما من ضعفه، متمايلاً إليهما في مشيه من شدة الضعف، والتهادي التمايل في المشي البطيء.
قوله: (بَيْنَ رَجُلَيْنِ) سيأتي في الحديث الثاني من حديثَيْ الباب أنهما العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقد مر في بيان اختلاف الروايات: فخرج بين بَرِيرة ونُوبَة، بضم النون وفتح الباء الموحدة، وكان عبداً أسود، ويدل عليه حديث سالم بن عبيد في «صحيح ابن خزيمة» بلفظ: فخرج بين بَرِيرة ورجلٍ آخر، قال شيخنا: وذكره بعضُهم في النساء الصحابيات فوهِم، وإنما هو عبد أسود كما وقع عند
(1)
سيف في كتاب «الردة» ، ويؤيده حديث سالم بن عبيد أي المذكور، قال العيني: أراد بالبعضِ الذهبيَّ، فإنه ذكر نُوبة في باب النون في الصحابيات، وقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مرضه بين بريرة ونُوبة، وإسناده جيد، وقد علمتَ أن الذهبي من جهابذة المتأخرين لا يجارىَ في فنِّه.
قلت: هذا مشهورٌ بين أئمة الفن وغيرهم، لكن لا يلزم من ذلك عدم وهمِه، بل هذا شيء لا ينفك
(1)
في (الأصل) : ((عبد)) والصواب ((عند))، وسيف بن عمر التميمي له كتاب الردة والفتوح.
عنه غالبُ أهل العلم. انتهى.
قوله: (تَخُطَّانِ الأَرْضَ) أي: لم يكن يَقدر على رفعهما من الأرض، وسقط لفظ الأرض من رواية الكُشْمِيهَني، وفي رواية عاصم المذكورة عند ابن حبان: إني لأنظر إلى بطون قدميه.
قوله: (فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ) زاد أبو معاوية عن الأعمش: فلما سمع أبو بكر حسَّه، وفي رواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس في هذا الحديث: فلما أحس الناس به سبَّحوا، أخرجه ابن ماجه وغيرُه بإسناد حسن.
قوله: (أَنْ مَكَانَكَ) كلمة أنْ، بفتح الهمزة وسكون النون، ومكانَك، منصوبٌ على معنى: الزم مكانك، وفي رواية عاصم: أن اثبت مكانك، وفي رواية موسى بن أبي عائشة: فأومأ إليه بأن لا يتأخر.
قوله: (ثُمَّ أُتِيَ بِهِ) كذا هنا بضم الهمزة أي: أُتي برسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية موسى بن أبي عائشة أن ذلك بأمرِه ولفظه، فقال:((أجلساني إلى جنبه)) فأجلساه، وعيَّن أبو معاوية عن الأعمش بإسنادِ حديث الباب كما سيأتي بعد أبواب مكانَ الجلوس فقال في روايته: حتى جلس عن يسار أبي بكر، وهذا هو مقام الإمام وسيأتي القول فيه، وأغربَ القرطبيُّ شارحُ مسلم لما حكى الخلافَ: هل كان أبو بكر إماماً أو مأموماً؟ فقال: لم يقع في الصحيح بيانُ جلوسِه صلى الله عليه وسلم هل كان عن يمين أبي بكر أو عن يساره. انتهى. وروايةُ أبي معاوية هذه عند مسلمٍ أيضاً، قال شيخنا: فالعجب منه كيف يغفل عن ذلك في حال شرحه له.
قوله: (فقِيلَ لِلْأَعْمَشِ) أي سليمان، ويروى:(قِيلَ) بدون الفاء، وظاهرُ هذا أنه منقطعٌ لأن الأعمش لم يسنده، لكن في رواية أبي معاوية عنه ذكر ذلك متصلاً بالحديث، وكذا في رواية موسى بن أبي عائشة وغيرها.
ذِكْرُ ما يستفاد من هذه القصة، وهو على وجوه:
الأول: فيه الإشارة إلى تعظيم الصلاة بالجماعة.
الثاني: فيه تقديم أبي بكر وترجيحه على جميع الصحابة.
الثالث: فيه فضيلة عمر بن الخطاب بعده.
الرابع: فيه جواز الثناء في الوجه لمن أمِن على نفسه الإعجاب.
الخامس: فيه ملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه وخصوصا لعائشة.
السادس: في هذه القصة وجوب القسْم على النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال فيها: فأذِنَّ له، أي: فأذنت نساؤه له بالتمريض في بيت عائشة على ما سيأتي.
السابع: جواز مراجعة الصغير للكبير.
الثامن: المشاورة في الأمر العام.
التاسع: الأدب مع الكبير، حيث أراد أبو بكر التأخرَ عن الصف.
العاشر: البكاء في الصلاة لا يبطلها وإن كثر، وذلك لأنه عليه السلام علم حال أبي بكر في رقة القلب وكثرة البكاء ولم يَعدِل عنه، ولا نهاه عن البكاء. قال العيني: وأما في هذا الزمان فقد قال أصحابنا -أي الحنفية-: إذا بكى في الصلاة فارتفع بكاؤه، فإن كان من ذِكْرِ الجنة و النار لم يقطع صلاته، وإن كان من وجعٍ في بدنه
أو مصيبةٍ في ماله أو أهلِه قطعها
(1)
، وبه قال مالك وأحمد، وقال الشافعي رضي الله عنه: البكاء والأنين والتأوه تبطل الصلاة إذا كانت حرفين، سواء بكى للدنيا أو الآخرة.
الحادي عشر: أن الإيماء يقوم مقام النطق، لكن يحتمل أن اقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على الإشارة أن يكون لضعف صوته، ويحتمل أن يكون للإعلام بأنَّ مخاطبةَ مَن يكون في الصلاة بالإيماء أولى من النطق.
الثاني عشر: فيه تأكيدُ أمر الجماعة والأخذ فيها بالأشد، وإن كان المرض يرخص في تركها، ويحتمل أن يكون فَعَل ذلك لبيان جواز الأخذ بالأمثل، وإن كانت الرخصة أولى.
الثالث عشر: استدل به الشعبي على جواز ائتمام بعض المأمومين ببعض، قال العيني: وهو مختار الطبري أيضا، وأشار إليه البخاري كما يأتي إن شاء الله تعالى، ورُدَّ بأن أبا بكر رضي الله عنه كان مبلغاً، وعلى هذا فمعنى الاقتداء اقتداؤهم بصوته، والدليل عليه أنه عليه السلام كان جالساً وأبو بكر كان قائماً، فكان بعضُ أفعاله تخفى على بعض المأمومين، فلأجل ذلك كان أبو بكر كالإمام في حقهم.
الرابع عشر: استدل به البعض على جواز استخلاف الإمام لغير ضرورة، لصنع أبي بكر رضي الله عنه.
الخامس عشر: استدل به البعض على جواز مخالفة موقف المأموم للضرورة، كمن قصد أن يبلِّغ عنه، ويلتحق به من زُحِم عن الصف.
السادس عشر: فيه اتِّباعُ صوتَ المكبر، وصحةُ صلاة المستمع والسامع، ومنهم من شرَط في صحته تقدُّمَ إذن الإمام.
السابع عشر: استدل به الطبري على أن للإمام أن يقطع الاقتداء به ويقتدي هو بغيره من غير أن يقطع الصلاة.
الثامن عشر: فيه جواز إنشاء القدوة في أثناء الصلاة.
التاسع عشر: استدل به البعض على جواز تقدُّم إحرام المأموم على الإمام، بناءً على أن أبا بكر كان دخل في الصلاة ثم قطع القدوة وائتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، والدليل عليه ما رواه أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس: فابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم القراءة من حيث انتهى أبو بكر، كما قدمناه.
العشرون: استُدِل به على صحة صلاة القادر على القيام قائماً خلف القاعد، خلافاً للمالكية وأحمد، حيث أوجب القعود على من يصلي خلف القاعد. وقال العيني: يصلي القائمُ خلف القاعد عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وبه قال الشافعي ومالك في رواية، وقال أحمد والأوزاعي: يصلون خلفه قعوداً، وبه قال حماد بن زيد وإسحاق وابن المنذر، وهو المروي عن أربعة من الصحابة وهم: جابر بن عبد الله وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس بن فهد، حتى لو صلوا قياماً لا يجزئهم، وعند محمد بن الحسن: لا تجوز صلاة القائم خلف القاعد، وبه قال مالك في رواية ابن القاسم عنه وزفر.
الحادي والعشرون:
(1)
في (الأصل) : ((قطعاً)) والصواب ((قطعها)).
استدل به ابنُ المسيب على أن مقام المأموم يكون عن يسار الإمام، لأنه عليه السلام جلس على يسار أبي بكر، والجماعةُ على خلافه، ويتمشَّى قوله على أن الإمام هو أبو بكر، وأما من قال: الإمامُ هو النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتمشى قولُه. قال العيني: اختلفت الروايات: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم الإمامُ أو أبو بكر الصديق رضي الله عنه؟ فجماعة قالوا: الذي رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها صريحٌ في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان الإمامَ إذْ جلس عن يسار أبي بكر، ولقوله: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالساً وأبو بكر قائماً يقتدي به، وكان أبو بكر مبلغاً، لأنه لا يجوز أن يكون للناس إمامان. وجماعةٌ قالوا: كان أبو بكر هو الإمام، لِما رواه شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر، وفي رواية مسروق عنها: أنه عليه السلام صلى خلف أبي بكر جالساً في مرضه الذي توفي فيه، وروي حديثُ عائشة بطرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما، وفيه اضطراب غير قادح. وقال البيهقي: لا تعارض في أحاديثها، فإن الصلاة التي كان فيها النبي صلى الله عليه وسلم إماماً هي صلاة الظهر يومَ السبت أو يومَ الأحد، والتي كان فيها مأموماً هي صلاة الصبح من يوم الإثنين، وهي آخر صلاة صلاها عليه السلام حتى خرج من الدنيا.
وقال نُعيم بن أبي هند: الأخبار التي وردت في هذه القصة كلها صحيحة، وليس فيها معارض، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرضه الذي مات فيه صلاتين في المسجد، في إحداهما كان إماماً، وفي الأخرى كان مأموماً. وقال الضياء المقدسي وابنُ ناصر: صح وثبت أنه عليه السلام صلى خلفه مقتدياً به في مرضه الذي توفي فيه ثلاث مرات، ولا ينكِر ذلك إلا جاهلٌ لا علم له بالرواية. وقيل: إن ذلك مرتين جمعاً بين الأحاديث، وبه جزم ابن حبان. وقال ابن عبد البر: الآثار الصحاح على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الإمام.
الثاني والعشرون: فيه تقديم الأفقه الأقرأ، وقد جمع الصِّديق رضي الله عنه القرآنَ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكره أبو بكر بن الطيب وأبو عمرو الداني.
الثالث والعشرون: فيه جواز تشبيه أحد بأحد وصف
(1)
مشهور بين الناس.
الرابع والعشرون: فيه أن للمستخلَف أن يَستخلِف في الصلاة ولا يتوقف على أذن خاص له بذلك.
قلت: وفيه شيء من دلائل النبوة وهو: كونُه صلى الله عليه وسلم عَلِمَ ما أبطنت عائشة رضي الله عنها، وفيه خطاب الشخص بشيء والمراد به غيرُه، وفيه الصدع بالحق ولو حصل به مشقة، وفيه ذكر ما يلقاه الشخص من المشقة بسبب غيره ومعاتبةِ مَن كان السبب فيه، وفيه المشقةُ على الأب والمسارعةُ لدفع المكروه عنه، وفيه أن من عجز عن القيام صلى قاعداً. انتهى.
قوله: (رَوَاهُ أَبُو
(1)
كذا في (الأصل) : ((وصف)) ولعل الصواب ((في وصف)).
دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ بَعْضَهُ) أي روى الحديثَ المذكورَ أبو داود سليمانُ الطيالسي.
قوله: (بَعْضَهُ) بالنصب بدلٌ من الضمير الذي في رواه، وروايته هذه وصَلها البزار، قال: حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى حدثنا أبو داود به. ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المقدَّم بين يدي أبي بكر، هكذا رواه مختصراً، يعني: يوم صلى بالناس وأبو بكر إلى جنبه. وهو موافق لقصة حديث الباب لكن رواه ابن خزيمة في «صحيحه» عن محمد بن بشار عن أبي داود بسنده هذا عن عائشة قالت: مِن الناس من يقول: كان أبو بكر المقدَّم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم المقدَّم، ورواه مسلم بن إبراهيم عن شعبة بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر. أخرجه ابن المنذر. وهذا عكس رواية أبي موسى، وهو اختلافٌ شديد، ووقع في رواية مسروق عنها أيضاً اختلافٌ فأخرجه ابن حِبَّان من رواية عاصمٍ عن شقيق عنه بلفظ: كان أبو بكر يصلي بصلاته، والناسُ يُصلُّون بصلاة أبي بكر.
وأخرجه الترمذي والنسائي وابن خزيمة من رواية شعبة عن نُعيم بن أبي هند عن شقيق بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر، وظاهرُ رواية محمد بن بشار أن عائشة لم تشاهد الهيئة المذكورة، لكن تضافرت الروايات عنها بالجزم بما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمامَ في تلك الصلاة، منها: روايةُ موسى بن أبي عائشة التي أشرنا إليها ففيها: فجعل أبو بكرٍ يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناسُ يصلون بصلاة أبي بكر. وهذه روايةُ زائدة بن قدامة عن موسى، وخالفه شعبةُ أيضاً فرواه عن موسى بلفظ: أن أبا بكر صلى بالناس ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الصفِّ خلفه.
فمن العلماء من سلك الترجيح فقدَّم الروايةَ التي فيه أن أبا بكر كان مأموماً للجزم بها، ولأن أبا معاوية أحفظ من حديث الأعمش من غيره، ومنهم مَن عكس ذلك ورجح أنه كان إماماً وتمسَّك بقول أبي بكر الآتي في باب من دخل ليؤمّ الناس حيث قال: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من سلك الجمعَ فحمل القصةَ على التعدد وأجاب عن قول أبي بكر كما سيأتي في بابٍه، ويؤيده اختلاف النقل عن الصحابة عن عائشة، فحديث ابن عباس فيه أن أبا بكر كان مأموماً كما سيأتي في رواية موسى ابن أبي عائشة، وكذا في رواية أرقم بن شرحبيل التي أشرنا إليها عن ابن عباس. وحيثُ أنس فيه أن أبا بكر كان إماماً. أخرجه الترمذي وغيره من رواية حميد عن ثابت عنه بلفظ: آخرُ صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر في ثوب. وأخرجه النسائي من وجه آخرَ عن أنس فلم يذكر ثابتاً، وسيأتي بيان