الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آخر الحديث هذا الاستثناء، وأراد به قوله:(قد قامت الصلاة) مرتين، وقال الكِرْماني: قالت المالكية: عمل أهل المدينة خلفًا عن سلف على إفراد الإقامة، ولو صحَّت زيادة أيُّوب، وما رواه الكوفيون من تثنية الإقامة، جاز أن يكون ذلك في وقت ما ترك لعمل أهل المدينة على الآخر الذي استقرَّ الأمر عليه، والجواب: أن زيادة الثقة مقبولة وحجَّة بلا خلاف، وأما عمل أهل المدينة فليس بحجَّة مع أنَّه معارض بعمل أهل مكَّة، وهي مجمع المسلمين في المواسم وغيرها، وقال شيخنا: وهذا الحديث حجَّة على من زَعَمَ أنَّ الإقامة مثنى مثنى مثل الأذان، وأجاب بعض الحنفيَّة: بدعوى النسخ وأنَّ إفراد الإقامة كان أولًا، ثمَّ نسخ بحديث أبي مَحذُورَة يعني الذي رواه أصحاب السُّنن وفيه تثنية الإقامة، وهو متأخِّر عن حديث أَنَس، فيكون ناسخًا، وعورض بأنَّ في بعض طرق حديث أبي مَحذُورَة المحسَّنة التربيع والترجيع، فكان يلزمهم القول به، وقد أنكر أحمد على من ادعى النَّسخ بحديث أبي مَحذُورَة واحتجَّ ((بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَعَ بَعْدَ الفَتْحِ إِلَى المَدِينَةِ، وَأَقَرَّ بِلَالًا عَلَى إِفْرَادِ الْإِقَامَةِ، وَعَلمَهُ سَعْد القَرَظُ فَأَذَّنَ بِهِ بَعْدَهُ)) كما رواه الدَّارَقُطْني والحاكم، قال العَيني: الذي رواه التِّرْمِذي من حديث عَمْرو بن مُرَّة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد قال: ((كَانَ أَذَانُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَفْعًا فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ)) حجَّة على هذا القائل بقوله، وهذا الحديث حجَّة على من زَعَمَ أن الإقامة مثنى مثنى وكذلك رواية ابن حبَّان في «صحيحه» كلُّ هذه حجَّة عليه وعلى إمامه، وأمَّا الجواب عن وجه ترك الترجيع ووجه النَّسخ فقد ذكرناه. انتهى.
وقال ابن عبد البرِّ: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير، إلى أنَّ ذلك من الاختلاف المباح، فإن ربَّع التكبير الأوَّل في الأذان، أو ثنَّاه، أو رجَّع في التَّشهُّد أو لم يرجِّع، أو ثنَّى الإقامة أو أفردها كلَّها أو إلَّا (قدْ قامَتِ الصَّلاة) فالجميع جائز. وعن ابن خُزَيمَة: إن ربَّع الأذان ورجَّع فيه ثنَّى الإقامة، وإلا أفردها، وقيل: لم يقل بهذا التفصيل أحد قبله، والله أعلم. انتهى.
(4)
(بَابُ فَضْلِ التَّأذِينِ)
أي هذا باب في بيان فضل التأذين، وهو مصدر أذَّن بالتشديد، وهو مخصوص في الاستعمال بإعلام وقت الصَّلاة، ومنه أُخذ أذان الصَّلاة، وقال الجوهري: والأذين مثله، وقد أذَّن أذانًا، وأما الإيذان فهو من آذن على وزن أفعل، ومعناه الإعلام مطلقًا، وإنَّما قال البخاري: باب فضل التأذين ولم يقل باب فضل الأذان، مراعاةً للفظ الحديث الوارد في الباب، وقال ابن المنيِّر: التأذين يتناول جميع ما يصدر عن المؤذِّن من قول وفعل وهيئة، وحقيقة الأذان تحصل بدون ذلك، قال شيخنا: كذا قال والظَّاهر أنَّ التأذين هنا أطلق بمعنى الأذان، لقوله في الحديث:(حَتَّى لا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ) وفي رواية لمسلم: ((حَتَّى لَا يَسْمَعَ صَوْتَهُ)) فالتقييد
بالسَّماع لا يدلُّ على فعل ولا هيئة، مع أن ذلك هو الأصل في المصدر. انتهى. وقال العَيني: لا نسلِّم هذا الكلام يعني كلام ابن المنيِّر لأنَّ التأذين مصدر فلا يدلُّ إلَّا على حدوث فعل فقط. انتهى.
608 -
قوله: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ يُوسُفَ) أي التِّنِّيسي، ترجمته في بدء الوحي.
قوله: (قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) أي ابن أَنَس، ترجمته في البدء أيضًا.
قوله: (عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) أي بالزاي والنون، واسمه عبد الله بن ذكوان، ترجمته في باب حبِّ الرسول من الإيمان.
قوله: (عَنِ الأَعْرَجِ) أي عبد الرحمن بن هرمز، ترجمته في الباب أيضًا.
قوله: (عَنْ أبي هُرَيْرَةَ) أي عبد الرحمن بن صخر، ترجمته في باب أمور الإيمان.
في هذا الإسناد التَّحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، وفيه الإخبار كذلك، وفيه العنعنة في ثلاث مواضع.
قوله: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيطان لَهُ ضُرَاطٌ حتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِين، فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ أَقْبَلَ، حتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ حتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ، حتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى).
مطابقته للترجمة من حيث هروب الشَّيطان عن الأذان، فإن الأذان لو لم يكن له فضل عظيم يتأذَّى منه الشَّيطان لم يهرب منه، فمن حصول هذا الفضل للتأذين يحصل أيضًا للمؤذِّن لأنَّه لا يقوم إلَّا به.
هذا الحديث أخرجه أبو داود، في الصَّلاة عن القَعنَبي عن مالك، وأخرجه النَّسائي أيضًا فيه عن قُتَيْبَة عن مالك بالصلاة، وهي رواية لمسلم أيضًا، وكذا في رواية أبي داود، قال شيخنا: ويمكن حملها على معنى واحد.
قال العَيني: سكت على هذا ولم يُبيِّن وجه ما هو، قلت: تكون الباء للسببية، كما في قوله تعالى:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40] أي بسبب ذنبه وكذلك المعنى ههنا بسبب الصَّلاة، ومعنى التعليل قريب من معنى السببية.
قوله: (أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ) الإدبار: نقيض الإقبال، يقال: دبر وأدبر إذا ولَّى، والألف واللام في: الشيطان، للعهد، والمراد: الشَّيطان المعهود.
قوله: (لَهُ ضُرَاطٌ) جملة اسميَّة وقعت حالًا، والأصل فيها أن تكون بالواو، وقد تقع بلا واو، كلمته فوه إلى فيَّ، ووَقَعَ في رواية الأَصِيلي: بالواو على الأصل، وهي للبخاري من وجه آخر في بدء الخلق. قال عياض: يمكن حمله على ظاهره لأنَّه جسم متغذٍّ يصحُّ منه خروج الريح، ويحتمل إنَّها عبارة عن شدَّة نفاره، ويقوِّيه رواية لمسلم:((لَهُ حُصَاصٌ)) بمهملات مضموم الأوَّل، فقد فسَّره الأصمعي وغيره: بشدَّة العدو، قال العَيني: هذا تمثيل لحال الشَّيطان عند هروبه من سماع الأذان بحال من حزقه أمر عظيم، واعتراه خطب جسيم، حتَّى لم يزل يحصل له الضراط من شدَّة ما هو فيها، لأن الواقع
في شدَّة عظيمة من خوف وغيره، تسترخي مفاصله، ولا يقدر على أن يملك نفسه، فينفتح منه مخرج البول والغائط، ولما كان الشَّيطان لعنه الله تعتريه شدَّة عظيمة وداهية جسيمة، عند النداء إلى الصَّلاة، فيهرب حتَّى لا يسمع الأذان، شبَّه حاله بحال ذلك الرجل، وأثبت له على وجه الادعاء الضراط الذي ينشأ من كمال الخوف الشديد، وفي الحقيقة ما ثمَّ ضراط، ولكن يجوز أن يكون ريح، لأنَّه روح ولكن لم تعرف كيفيته. انتهى. وقال الطيبي: شبَّه شغل الشَّيطان نفسه عند سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع، ويمنعه عن سماع غيره ثمَّ سماه ضراطًا تقبيحًا له، فإن قلت: كيف يهرب عن الأذان، ولا يهرب عن قراءة القرآن وهي أفضل من الأذان؟ قلت: إنَّما يهرب من الأذان حتَّى لا يشهد بما سمعه إذا استُشهد يوم القيامة، لأنَّه جاء في الحديث:(لا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلا أَنَس وَلا شَيْءٌ، إلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ) والشَّيطان أيضًا شيء أو هو داخل في الجنِّ، لأنَّه من الجنِّ. فإن قلت: الشَّيطان ليس بأهل للشهادة، لأنَّه كافر، والمراد من الحديث يشهد له المؤمنون من الجنِّ والإنس، قال العَيني: إنَّه يدبر لعظم أمر الأذان، لما اشتمل عليه من قواعد الدين، وإظهار شعائر الإسلام وإعلانه. وقيل: ليأسه من وسوسة الإنسان عند الإعلان بالتوحيد. فإن قلت: كيف يهرب من الأذان ويدنو من الصَّلاة وفيها القرآن ومناجاة الحقِّ؟ قال العَيني: أيضًا هروبه من الأذان ليأسه من الوسوسة كما ذكرنا، وفي الصَّلاة تفتح له أبواب الوسواس. انتهى. قلت: التعليل بقولنا حتَّى لا يشهد إذا استُشهد، أظهر من هذا. انتهى. وقيل لأن الأذان دعاء إلى الصَّلاة المشتملة على السُّجود الذي أباه وعصى فيه، واعترض بأنه يعود قبل السجود، فلو كان هروبه لأجله لم يعد إلَّا عند فراغه، وأجيب: بأنَّه يهرب عند سماع الدعاء بذلك ليغالط نفسه بأنه لم يخالف أمرًا، ثمَّ يرجع ليفسد على المصلِّي سجوده الذي أباه، وقيل: إنَّما يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الحقِّ وإقامة الشريعة، واعترض بأنَّ الاتِّفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلِّي، وأجيب: بأن الإعلان أخصُّ من الاتفاق، فإنَّ الإعلان المختصَّ بالأذان لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير والتلاوة مثلًا، ولهذا قال لعبد الله بن زيد:(أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ) أي اقعد بالمدِّ والإطالة والإسماع ليعمَّ الصَّوت ويطول أمد التأذين، فيكثر الجمع ويفوت على الشَّيطان مقصوده من إلهاء الآدمي عن إقامة الصَّلاة في جماعة، أو إخراجها عن وقتها أو وقت فضيلتها فيفرُّ حينئذ، وقد يئس عن أن يردَّهم عمَّا أعلنوا، ثمَّ يرجع لما طبع عليه من الأذى إلى الوسوسة. وقال ابن الجَوْزي: على الأذان
هيبة يشتدُّ بسببها انزعاج الشيطان، لأنَّه لا يكاد يقع في الأذان رياء ولا غفلة عند النطق به، بخلاف الصَّلاة فإن النفس تحضر فيها، فيفتح لها الشَّيطان أبواب الوسوسة. وقد ترجم عليه أبو عوانة: الدليل على أن المؤذِّن في أذانه وإقامته منفي عنه الوسوسة والرياء لتباعد الشَّيطان منه، وقيل: لأن الأذان إعلام بالصَّلاة الَّتي هي أفضل الأعمال، بألفاظ هي من أفضل الذكر، لا يُزاد فيها ولا يُنقص منها، بل يقع على وفق الأمر، فيفرُّ من سماعها. وأمَّا الصَّلاة فلما يقع من كثير من النَّاس فيها من التفريط فيتمكَّن الخبيث من المفرِّط، فلو قُدِرَ أن المصلِّي وفى بجميع ما أُمر به فيها لم يقربه وحده وهو نادر، وكذا إذا انضم إليه مثله فإنه يكون أندر، أشار له ابن أبي جَمْرَة نفع الله ببركته.
قوله: (حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِيْنَ) الظَّاهر أن هذه الغاية لأجل إدباره، وقال شيخنا: ظاهره إنَّه يتعمد إخراج ذلك إمَّا ليشتغل بسماع الصَّوت الذي يخرجه عن سماع المؤذِّن، أو يصنع ذلك استخفافًا كما يفعله السًّفهاء، ويحتمل أن لا يتعمَّد ذلك، بل يحصل له عند سماع الأذان شدَّة خوف يحدث له ذلك الصَّوت بسببها، ويحتمل أن يتعمد ذلك ليقابل ما يناسب الصَّلاة من الطهارة بالحدث. انتهى. قلت: ومثل هذا ما يفعله بعض الكفَّار من النصارى وهو إنَّه إذا سمع المؤذِّن يصلب على وجهه، ليقابل الإيمان بكفره. انتهى. وقال شيخنا أيضًا: واستدلَّ به على استحباب رفع الصَّوت بالأذان، لأنَّ قوله:(حَتَّى لَا يَسْمَعَ) ظاهر في إنَّه يبعد إلى مكان ينتفي فيها سماعه للصوت، وقد وَقَعَ بيان الغاية في رواية لمسلم من حديث جابر فقال:(حَتَّى يَكُونَ مَكَانَ الرَّوْحَاءِ) وحكى الأَعْمَش عن أبي سُفْيان روايةً عن جابر أن بين المدينة والروحاء ستَّة وثلاثون ميلًا، هذه رواية قُتَيْبَة عن جرير عند مسلم، وأخرجه عن إِسْحاق عن جرير ولم يسق لفظه، ولفظ إِسْحاق في «مسنده» :((حَتَّى يَكُونَ بِالرَّوْحَاءِ)) وهي ثلاثون ميلًا عن المدينة. فأدرجه في الخبر، والمعتمد رواية قُتَيْبَة، وسيأتي حديث أبي سعيد في فضل رفع الصَّوت بالأذان بعد، قال ابن بطَّال: يشبه أن يكون الزجر من خروج المرء من المسجد بعد أن يؤذِّن المؤذِّن من هذا المعنى، لئلَّا يكون متشبِّهًا بالشَّيطان الذي يفرُّ عند سماع الأذان.
قوله: (فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ) بضمِّ القاف على صيغة المجهول، سند إلى فاعله وهو النداء القائم مقام المفعول، ويروى على صيغة المعلوم، ويكون الفاعل هو الضَّمير الذي فيه، وهو المؤذِّن، والنداء منصوب على المفعولية، والقضاء يأتي لمعانٍ كثيرةٍ، وههنا بمعنى: الفراغ. تقول: قضيت حاجتي أي فرغت منها أو بمعنى الانتهاء.
قوله: (أَقْبَلَ) زاد مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة: ((فَوَسْوَسَ)).
قوله: (حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ) بضمِّ الثَّاء المثلَّثة وتشديد الواو
المكسورة، أي حتَّى إذا أقيم الصَّلاة، والتثويب ههنا الإقامة، كما ذهب إليه الجمهور وبذلك جزم أبو عَوانة في «صحيحه» والخطَّابي والبَيْهَقي وغيرهم، والعامَّة لا تعرف التثويب إلَّا قول المؤذِّن في صلاة الفجر: الصَّلاة خير من النَّوم حسب، ومعنى التثويب في الأصل الإعلام بالشيء والإنذار بوقوعه، وأصله أن يلوِّح الرجل لصاحبه بثوبه فيدبره عند أمر يرهقه من خوف أو عدو، ثمَّ كثر استعماله في كلِّ إعلام يجهر به صوت، وإنما سمِّيت الإقامة: تثويبًا، لأنَّه عود للنداء، من: ثاب إلى كذا إذا عاد إليه، وقال القُرْطُبي: ثوِّب بالصَّلاة أي أقام لها، وأصله إنَّه رجع إلى ما يشبه الأذان، وكلُّ مردِّد صوتًا فهو مثوِّب، ويدلُّ عليه رواية مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة:((فَإِذَا سَمِعَ الْإِقَامَةَ ذَهَبَ)) وزَعَمَ بعض الكوفيين أنَّ المراد بالتثويب قول المؤذِّن بين الأذان والإقامة: حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على الفلاح، قد قامت الصَّلاة، وحكى ذلك ابن المنذر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، وزَعَمَ إنَّه تفرَّد به، لكن في «سنن أبي داود» عن ابن عُمَر: إنَّه كره التثويب بين الأذان والإقامة، فهذا يدلُّ على أن له سلفًا في الجملة، ويحتمل أن يكون الذي تفرَّد به القول الخاص.
قوله: (حَتَّى يَخْطُرَ) -بضمِّ الطاء وكسرها- وقال عياض: ضبطناه من المتقنين بالكسر، وسمعناه من أكثر الرُّواة بالضمِّ، قال: والكسر هو الوجه، ومعناه: يوسوس، من قولهم: خطر الفحل بذَنَبِه إذا حرَّكه يضرب به فخذيه، وأمَّا الضمُّ، فمن المرور أي يدنو منه فيما بينه وبين قبلته فيشغله عمَّا هو فيه، وبهذا فسَّره الشُرَّاح، وبالأوَّل فسَّره الخليل، وقال الباجي: فيحول بين المرء وما يريد من نفسه من إقباله على صلاته وإخلاصه. قال الهجري في «نوادره» : يخْطِر بالكسر في كلِّ شيء، وبالضمِّ ضعيف.
قوله: (بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ) أي قلبه، وكذا وَقَعَ للبخاري من وجه آخر في بدء الخلق، وبهذا التفسير يحصل الجواب عمَّا قيل، كيف يتصوَّر خطوره بين المرء ونفسه، وهما عبارتان عن شيء واحد؟ وقد يكون تمثيلًا لغاية القرب منه.
قوله: (يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا) هكذا هو بلا واو العطف في رواية الأكثرين، ووَقَعَ في رواية كريمة بواو العطف: <اذْكُرْ كَذَا وَاذْكُرْ كَذَا> في رواية مسلم وللبخاري أيضًا في صلاة السهو، وزاد مسلم من رواية عبد ربُّه عن الأعرج:((فَهَنَّاهُ وَمَنَّاهُ، وَذَكَّرَهُ مِنْ حَاجَتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ)).
قوله: (لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ) أي لشيءٍ لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصَّلاة، وفي رواية لمسلم:((لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ مِنْ قَبْل)) قال شيخنا: ومن ثمَّ استنبط أبو حنيفة للذي شكا إليه إنَّه دفن مالًا، ثمَّ لم يهتد لمكانه، أن يصلِّي ويحرص أن لا يُحَدِّث نفسه بشيء من أمر الدُّنْيا ففعل، فذكر مكان المال في الحال. قيل: خصَّه بما يعلم دون ما لا يعلم، لأنَّه يميل لما يعلم أكثر لتحقق وجوده، والذي يظهر إنَّه أعم من ذلك فيذكره لما سبق له به علم، ليشغل باله به، وبما لم يكن سبق له ليوقعه في الفكرة فيه، وهذا أعم من أن يكون في أمور الدُّنْيا أو في أمور الدين كالعلم، لكن هل يشمل ذلك التفكُّر في معاني الآيات الَّتي يتلوها؟
لا يبعد ذلك، لأنَّ غرضه تقريب خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان. انتهى.
قوله: (حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ) بفتح الظاء أي حتَّى يصير الرجل ما يدري كم صلَّى من الركعات، ورواية الجمهور بالظاء المشالة المفتوحة ومعناه في الأصل اتصاف المخبر عنه بالخبر نهارًا، لكنها هنا بمعنى يصير، كما في قوله تعالى:{ظَلَّ وَجْهُهُ} [النحل: 58] وقيل: معناه يبقى ويدوم، ووَقَعَ عند الأَصِيلي: يضِل، بالضاد المعجمة المكسورة أي ينسى ويذهب وهمه ويسهو، قال تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282]. وقال ابن قرقول: وحكى الداودي إنَّه روي: يضِلُّ ويضَلُّ، من الضلال وهو الحيرة. قال: والكسر في المستقبل أشهر، وقال القُشَيري: ولو روى هذا الرجل حتَّى يُضِلَّ الرجل لكان وجهًا صحيحًا، يريد: حتَّى يُضِلَّ الشَّيطان الرجل عن درايته كمْ صلَّى؟ قال: ولا أعلم أحدًا رواه، لكنَّه لو روي لكان وجهًا صحيحًا في المعنى، غير خارج عن مُرَاده عليه السلام، وفي رواية للبخاري في صلاة السَّهو:(إِنْ يَدْرِى كَمْ صَلَّى) وكذا في رواية أبي داود. وكلمة: (إن) بالكسر نافية يعني: ما يدري، قال القاضي عياض: ورُوي بفتحها، قال: وهي رواية ابن عبد البرِّ، وادَّعى إنَّها رواية أكثرهم، وكذا ضبطه الأَصِيلي في كتاب البخاري والصحيح الكسر، قال العَيني: الفتح إنَّما يتوجَّه على رواية: يضِلُّ، بالضاد فيكون:(أن) مع الفعل بعدها بتأويل المصدر، أي يجهل درايته وينسى عدد ركعاته. فإن قلت: أثبت له الضراط في إدباره الأوَّل ولم يثبت في الثاني؟ قال العَيني: لأنَّ الشدة في الأوَّل تلحقه على سبيل الغفلة فتكون أعظم، أو يكون اكتفى بذكره في الأوَّل عن ذكره في الثاني. انتهى.
فيه أنَّ الأذان له فضل عظيم حتَّى يلحق الشَّيطان منه أمر عظيم، كما ذكرناه، وكذلك المؤذِّن له أجر عظيم، إذا كان أذانه احتسابًا لله تعالى، وفي صحيحي ابن خُزَيمَة وابن حبَّان:((المُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَّ صَوْتِهِ، وَيَسْتَغْفِرْ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَشَاهِدُ الصَّلاة، يُكْتَبُ لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ حَسَنَةً، وَيُكَفَّرُ عَنْهُ مَا بَيْنَهُمَا)) وعند أحمد رحمه الله: ((وَيُصَدِّقُهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ سَمِعَهُ)) وعند أبي الشيخ: ((كُلُّ مَدَرَةٍ وَصَخْرَةٍ سَمِعَتْ صَوْتَهُ)) وفي كتاب «الفضائل» لحُمَيد بن زنجويه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((يُكْتَبُ لِلْمُؤَذّن عِنْد أَذَانِهِ أَرْبَعُونَ وَمِائَة حَسَنَة، وَعندَ الإِقامَة عشرُون وَمِائَة حَسَنَة)) وفي كتاب أبي القاسم الجوزي عن أبي سعيد وغيره: ((ثَلَاثَةٌ يَوْمَ القِيَامَة عَلَى كُثُبٍ مِنْ مِسْكٍ أَسْوَد، لَا يَهُولهُم فَزَعً وَلَا يَنَالُهُم حِسَاب)) الحديث وفيه: ((وَرَجُلٌ أَذَّنَ وَدَعَا إِلَى اللهِ عز وجل ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ)) وعند السرَّاج عن أبي هريرة بسند جيد: ((المُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاس أَعْنَاقًا، لِقَوْلِهِم: لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ)) وفي لفظ: ((يُعْرَفُونَ بِطُولِ أَعْنَاقِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ)) خرَّجه أيضًا ابن حبَّان في صحيحه، وعند أبي الشيخ:((مَن أَذَّنَ خَمْسَ صلواتٍ إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذَنْبِه)) وفي كتاب «الصحابة» لأبي موسى