الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وشيءٌ غير موجَّهٍ، وكذلك في كلامه ودعواه ببطلان الكلِّ؛ أما الذي هو غير موجَّه فهو قوله: أنَّ النَّهي كان في صلاة لا سبب لها وهذا غير صحيح، لأنَّ النَّهي عام وتخصيصه بالصلاة الَّتي لا سبب لها تخصيص بلا مخصص وهذا باطل، وقد استقصينا الكلام فيه فيما مضى.
وأمَّا الذي هو غير موجَّه من كلام الكِرْماني فهو قوله: لأنَّ الأصل عدم الاختصاص وهذا غير صحيح على إطلاقه، لأنَّه إذا قام الدليل على الاختصاص فلا يُنكر، وههنا قد قامت دلَّائل من الأحاديث وأفعال الصحابة في أنَّ هذا الذي صلَّى عليه السلام بعد العصر كان من خصائصه، وقد ذكرناها فيما مضى.
وقول الكِرْماني وصلاته عليه السلام بعد العصر كانت مستمرة، يردُّه دعواه عدم التخصيص، إذ لو لم يكن من خصائصه لأمر بقضائها إذا فاتت، ولم يأمر ذلك، ألا ترى في حديث أمِّ سلمة المذكور قالت:(قُلْتُ يا رَسُوْلَ اللهِ أفنقضيهما إذا فاتَتَا؟ قَالَ: لا) فدلَّ ذلك على أن حكم غيره فيهما إذا كانتا خلاف حكمه، فليس لأحد أن يصلِّيهما بعد العصر، وههنا شيء آخر يلزمهم وهو أنَّه عليه السلام يداوم عليهما، وهم لا يقولون به في الأصحِّ الأشهر، فإن عورضوا يقولون هذا من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ في الاستدلال بالحديث يقولون الأصل عدم التخصيص، وهذا كما يقال فلان مثل الظليم، يستحمل عند الاستطارة، ويستطير عند الاستحمال.
وقوله: ليس التشبُّه بهم غير صحيح فإنَّ حديث أبي أمامة على التشبُّه بهم، وهو الذي رواه مسلم وفيه:((فقلت يا رسول الله أخبرني عن الصَّلاة قال: صلِّ الصُّبح ثمَّ اقصرْ عَنِ الصَّلاة حِينَ تَطْلُعُ الشَّمس حتَّى ترْتَفعَ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَينَ قَرْنَي الشَّيطان وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الكفَّارُ)) الحديث؛ وفيه أيضًا: ((فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَينَ قَرْنَي الشَّيْطَانِ))، والشارع أخبر بأنَّ الشَّيطان يحاذي الشَّمس بقرنيه عند الطلوع وعند الغروب، والكفار يسجدون لها حينئذ، فنهى الشَّارع عن الصَّلاة في هذين الوقتين حتَّى لا يكون المصلُّون فيهما كالساجدين لها، وقوله: والقول والفعل إذا تعارضا يقدم القول ليس على إطلاقه، فإنَّ أحدهما إذا كان حاظرًا والآخر مبيحًا يقدم الحاظر على المبيح سواء كان قولًا أو فعلًا فافهم. انتهى.
قلت: وفيما قاله العَيني شيء غير موجه دعاه إليه الدفع عن مذهبه، وقد أجبنا عنه فيما تقدَّم، وهو أنَّ الاختصاص إنَّما هو المداومة لا أصل القضاء، وأنَّ الحديث المروي عن أم سلمة في النَّهي عن قضاء الركعتين إذا فاتتا ضعيف والله أعلم. انتهى.
(34)(بَابُ التَّبْكِيْرِ فِي الصَّلاة فِي يَوْمِ غَيْمٍ) أي هذا باب في بيان التبكير أي المبادرة والإسراع إلى الصَّلاة في اليوم الذي فيه الغيم، خوفًا من وقوعها خارج الوقت.
594 -
قوله: (حَدَّثَنا مُعَاذُ بنُ فَضَالَةَ) أي بضمِّ الميم وفتح الفاء، ترجمته في باب النَّهي عن الاستنجاء باليمين.
قوله: (قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ) أي المتقدِّم.
قوله: (عَنْ يَحْيَى) هو ابن كثير، ترجمته في كتاب العلم.
قوله: (عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) أي بكسر القاف، هو عبد الله بن زيد الجَرميِّ، ترجمته في باب حلاوة الإيمان.
قوله: (أَنَّ أَبَا المَلِيْحِ حَدَّثَهُ) أي عامر بن أسامة الهذلي، ترجمته في باب إثم من ترك العصر.
قوله: (قَالَ: كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ) أي بضمِّ الباء الموحَّدة، ابن الحُصَيب -بضمِّ الحاء المهملة وفتح الصَّاد المهملة- الأَسْلَمي، ترجمته في الباب أيضًا.
في هذا الإسناد التَّحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في موضعين وفيه القول في ثلاثة مواضع، وفيه التَّحديث بصيغة الإفراد من الماضي في موضع.
قوله: (كُنَّا فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ فَقَالَ بِكِّرُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ العَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ).
هذا الحديث بعينه قد مرَّ في باب إثم من ترك العصر، غير أن هناك رواه عن مسلم بن إبراهيم عن هشام إلى آخره نحوه، وفيه لفظة زائدة، وهي:(كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي غَزْوَةٍ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ)، وقد استقصينا الكلام فيه هناك، فإن قلت: الترجمة في التبكير في الصَّلاة المطلقة في يوم الغيم، والحديث لا يطابقها من وجهين: أحدهما: أنَّ المطابقة لقول بريدة لا للحديث. والثاني: أن المذكور في الحديث صلاة العصر، وفي الترجمة مطلق الصلاة.
قال العَيني: دلَّت القرينة على أنَّ قول بُرَيدة: (بَكِّرُوا بِالصَّلَاةِ) كان في وقت دخول العصر في يوم غيم، فأمر بالتبكير حتَّى لا يفوتهم بخروج الوقت بتقصيرهم في ترك التبكير، وهذا الفعل كتركهم إيَّاها في استحقاق الوعيد، ويفهم إشارته أنَّ بقيَّة الصَّلوات كذلك، لأنَّها مستوية الإقدام في الفرضيَّة، فحينئذ يفهم التطابق بين الحديث والترجمة بطريق الإشارة لا بالتصريح. انتهى. وقال شيخنا: من عادة البخاري أن يترجم ببعض ما يشتمل عليه لفظ الحديث، ولو لم يوردها بل ولو لم يكن على شرطه فلا إيراد عليه. ورُوِّينا في سنن سعيد بن مَنْصور عن عبد العزيز بن رُفَيع قال:((بلغَنا أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: عَجِّلُوا صَلَاةَ العَصْرِ فِي يَوْمِ الغَيْمِ)) إسناده قوي مع إرساله؛ قال العَيني: ليس هنا ما يشتمل على الترجمة من لفظ الحديث ولا من بعضه، وكيف لا يورد عليه إذا ذكر ترجمة ولم يورد عليها شيئًا، ولا فائدة في ذكر الترجمة عند عدم الإيراد بشيء. انتهى. قال شيخنا: في هذا الكلام مع ما فيه من القلق غفلة عما أوردته من رواية الإسماعيلي أي المذكورة، وكان العَيني لغلبة محبَّة الاعتراض لا يتأملَّ جميع الكلام والله المستعان. انتهى.
فإن قلت: ما فائدة ذكر بريدة الحديث الذي فيه العصر مع أنَّ غيره مثله؛ قال العَيني: كان أمره بالتبكير في وقت العصر كما ذكرنا وإلا فغيره مثله، وقد روى الأوزاعي من طريق أخرى عن يحيى بن أبي كثير بلفظ:((بَكِرُوا بِالصَّلَاةِ فِي يَوْم الغَيْم فَإِنَّهُ مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الفجْرِ حَبطَ عَمَلُهُ))؛ وأما فائدة تعيين العصر في الحديث فقد ذكرناه. انتهى.
قال شيخنا: المراد بالتبكير المبادرة إلى الصَّلاة في أوَّل الوقت وأصل التبكير فعل الشيء بكرة، والبكرة أوَّل النَّهار، ثمَّ استعمل في فعل الشيء في أوَّل وقته، وقيل: المراد تعجيل العصر وجمعها مع الظهر، ورُوي ذلك عن عُمَر قال:(إِذَا كَانَ يَوْمُ غَيْمٍ فَأَخِّرُوا الظُّهْرَ وَعَجِّلُوا العَصْر). انتهى.
(35)
(بَابُ الأَذَانِ بَعْدَ ذَهَابِ الوَقْتِ)
أي هذا باب في بيان
حُكم الأذان بعد خروج الوقت، وفي رواية المستملي:(بَابُ الأَذَانِ بَعْدَ الوَقْتِ)، وليس فيها لفظة (ذَهَابِ)، وهي مقدَّرة أيضًا، وهذه مسألة مختلف فيها على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى.
قال ابن المنيِّر: إنَّما صرَّح المؤلِّف بالحكم على خلاف عادته في المختلف فيه لقوَّة الاستدلال من الخبر على الحكم المذكور.
595 -
قوله: (حَدَّثَنَا عِمْران بنُ مَيْسَرَةَ) أي ضدُّ الميمنة، تقدَّم في باب رفع العلم.
قوله: (قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بنُ فُضَيْلٍ) أي بضمِّ الفاء وفتح الضاد المعجمة، تقدَّم في باب صوم رمضان إيمانًا.
قوله: (قَالَ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ) أي -بضمِّ الحاء وفتح الصاد المهملتين، وسكون الياء آخر الحروف وبالنون- ابن عبد الرحمن السلمي الكوفي، مات سنة ست وثلاثين ومائة.
قوله: (عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي قَتَادَةَ) تقدَّم في باب النَّهي عن الاستنجاء باليمين.
قوله: (عَنْ أَبِيْهِ) أي أبو قَتَادَة الحارث بن رِبْعي بن بَلْدَمة الأنصاري رضي الله عنه، ترجمته في الباب أيضًا.
في هذا الإسناد التَّحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وفيه العنعنة في موضعين، وفيه القول في ثلاثة مواضع؛ وفيه أنَّ رواته ما بين كوفي ومدني؛ وفيه رواية الابن عن الأب، وفيه أنَّ شيخ البخاري من أفراده.
قوله: (قَالَ: سِرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فقالَ بَعْضُ القَوْمِ: لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رسولَ الله، قَالَ: أخافُ أنْ تَنَامُوا عنِ الصَّلاة، قَالَ بِلَالٌ: أَنا أُوقِظُكُمْ، فاضْطَجَعُوا، وأسْنَدَ بِلالٌ ظِهْرَهُ إلى رَاحِلَتِهِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ؛ فاسْتَيْقَظَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقَدْ طَلَعَ حاجِبُ الشَّمس فَقَالَ: يَا بِلَالُ أين مَا قُلْتَ؟ قَالَ: مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَط! قالَ: إنَّ الله قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِين شاءَ وَرَدَّها عَلَيْكُمْ حِينَ شاءَ يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنْ بِالنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فَتَوَضَّأَ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الشَّمس وابْيَاضَّتْ قامَ فَصَلَّى).
مطابقته للترجمة في قوله: (يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنْ) هذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في التوحيد عن محمَّد بن سلَام عن هُشَيم؛ وأخرجه أبو داود في الصَّلاة عن عَمْرو بن عَوْن عن خالد بن عبد الله وعن هناد عن عَبْثَر بن القاسم؛ وأخرجه النَّسائي فيه عن هنَّاد به، وفي التفسير عن محمَّد بن كامل المَرْوَزي عن هشيم به.
قوله: (سِرْنَا مَعَ النَّبِيِّ لَيْلَةً) من: سار يسير سيرًا، وفي رواية عِمْران بن حُصَين:((إنَّا أَسْرَينا))، ويروى:((سَرَينا))، وقد مضى الكلام فيه في باب الصَّعِيد الطَّيِّب وَضُوء المُسْلِمِ مستوفىً، وذكرنا أنَّ هذه الليلة في أي سفرة؛ قال شيخنا: كان ذلك في رجوعه من خيبر، كذا جزم به بعض الشرَّاح معتمدًا على ما وَقَعَ عند مسلم من حديث أبي هريرة، وفيه نظر لما بيَّنه في باب الصَّعِيد الطَّيِّب وَضُوء المُسْلِمِ من كتاب التيمم، ولأبي نعيم في «المستخرج» من هذا الوجه في أوَّله:((كنَّا مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يسير بنا))، وزاد مسلم: من طريق عبد الله بن رباح عن أبي قَتَادَة في أوَّل الحديث قصَّة له في مسيره مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّه صلى الله عليه وسلم نعس حتَّى مال عن راحلته، وأنَّ أبا قَتَادَة دعمه ثلاث مرَّات، وأنَّ في الصخرة مال عن الطريق فنزل في سبعة أنفس، فوضع رأسه ثمَّ قال: احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلاتَنَا، ولم يذكر ما وَقَعَ عند البخاري من قول
بعض القوم: (لو عرَّسْتَ بِنَا)، ولا قول بلال:(أَنَا أُوْقِظُكُمْ)، ولم أقف على تسمية هذا السائل.
قوله: (لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُوْلَ اللهِ) جواب: لو، محذوف تقديره: لكان أسهل علينا، أو هو للتمنِّي وعَرَّست - بتشديد الرَّاء - من التعريس، وهو نزول القوم في السَّفر آخر اللَّيل للاستراحة. قال شيخنا: والتعريس نزول المسافر لغير إقامة، وأصله نزول آخر الليل.
قوله: (أَنَا أَوْقِظُكُمْ) وفي رواية مسلم في حديث أبي هريرة: ((فمَنْ يوقظُنَا؟ قالَ بلالٌ: أَنا)).
قوله: (فَاضْطَجَعُوا) قال العَيني: يجوز أن يكون بصيغة الماضي، ويجوز أن يكون بصيغة الأمر.
قوله: (إِلَى رَاحِلَتِهِ) أي إلى مركبه.
قوله: (فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ) أي عينا بلال، وفي رواية السَّرَخْسي:((فغلبَتْ)) بغير ضمير.
قوله: (فَنَامَ) أي بلال.
قوله: (فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ) أي طرفها، وحواجب الشَّمس نواحيها؛ وفي رواية مسلم:((فكانَ أوَّلُ مَنِ استيقظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم والشمسُ في ظهرِهِ)).
قوله: (أَيْنَ مَا قُلْتَ؟) يعني: أين الوفاء بقولك أنا أوقظكم؟.
قوله: (مَا أُلْقِيَتْ) على صيغة المجهول.
وقوله: (نَوْمَةٌ) مفعول ناب عن الفاعل.
قوله: (مِثْلُهَا) أي مثل هذه النومة الَّتي كانت في هذا الوقت، ومثل لا يتعرف بالإضافة، ولهذا وَقَعَ صفة للنكرة.
قوله: (إِنَّ اللهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ) زاد مسلم إلَّا أنَّه ليس في النوم.
تقريظ الحديث، الأرواح: جمع روح يذَّكر ويؤنَّث، وهو: جوهر لطيف نوراني يكدره الغذاء والأشياء الرديئة الدنية، مدرك للجزئيَّات والكلِّيَّات، حاصل في البدن متصرِّف فيه غنى عن الاغتذاء، بريء عن التحلل والنماء، ولهذا يبقى بعد فناء البدن إذ ليست له حاجة إلى البدن، ومثل هذا الجوهر لا يكون من عالم العنصر، بل من عالم الملكوت، فمن شأنه أن لا يضرُّه خلل البدن ويلتذُّ بما يُلائمه ويتألَّم بما يُنافيه، والدليل على ذلك قوله تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] الآية، وقوله عليه السلام:(إِذَا وُضِعَ المَيِّتُ عَلَى نَعْشِهِ رَفْرَفَ رُوحُهُ فَوقَ َنعْشِهِ، وَيَقُول: يَا أَهلِيْ وَيَا وَلَّدِيْ) فإن قلت: كيف يُفَسِّرُ الرُّوحَ وقد قال يقال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]، قال العَيني: معناه من الإبداعات الكائنة: بكن من غير مادة وتولد من أصل، على السؤال كان من قدمه وحدوثه، وليس فيه ما ينافي جواز تفسيره. انتهى. قلت: وَقَعَ الاختلاف في أنَّه هل وَقَعَ جواب؟ فما قاله العَيني: هو على قول من قال وَقَعَ الجواب، وقد أشبعت الكلام على الروح في كتابي المسمَّى بـ «السراج الوهَّاج في حقائق المعراج» عند الكلام على لقيه لأرواح الأنبياء عليهم السلام. انتهى. فإن قلت: إذا قبض الروح يكون الشخص ميتًا، لكنَّه نائم لا ميت؟ قالوا: المعنى من قبض الروح هنا قطع تعلُّقه عن ظاهر البدن فقط، والموت قطع تعلُّقه بالبدن ظاهرًا وباطنًا، فمعنى قوله:(إنَّ اللهَ قَبَضَ أرواحَكُمْ)، مثل قوله تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ
مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42].
قوله: (حِيْنَ شَاءَ) في الموضعين ليس لوقت واحد، فإنَّ نومَ القوم لا يتفق غالبًا في وقت واحد، بل يتتابعون فيكون حين الأولى جزأ من أحيان متعددة.
قوله: (قُمْ فَأَذِّنْ بِالنَّاسِ بالصَّلَاةِ) قال شيخنا: كذا هو بتشديد ذال أذِّن بالموحدة فيهما، والكُشْمِيهَني: <فآذن> بالمد وحذف الموحدة من النَّاس، وآذن معناه أعلم، وسيأتي ما فيه بعد. انتهى.
قوله: (فَتَوَضَّأَ) أي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، زاد أبو نُعَيم في «المستخرج» :((فتوضأَ الناسُ)).
قوله: (فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ) وفي رواية المصنِّف في التوحيد من طريق هشيم عن حصين فقضوا حوائجهم، فتوضؤوا إلى أن طلعت الشمس، وهو أبين سياقًا ونحوه، ولأبي داود من طريق خالد عن حصين ويستفاد منه أن تأخير الصَّلاة إلى أن طلعت الشَّمس وارتفعت، كان بسبب الشغل بقضاء حوائجهم لا لخروج وقت الكراهة.
قوله: (وابياضَّت) على وزن افعالَّ بتشديد اللَّام، مثل احمارَّ وانهارَّ من الابيضاض وهذه الصيغة تدلُّ على المبالغة، يقال: ابيضَّ الشيء اذا صار ذا بياض، ثمَّ اذا أرادوا المبالغة يثقِّلوه إلى باب الإفعلال، فيقولون ابيياض، وكذلك احمرَّ واحمارّ، قال شيخنا: وقيل إنَّما يقال ذلك في كلِّ لون بين لونين فأمَّا الخالص من البياض فإنَّما يقال له أبيض. قال العَيني: هذا القول صادر ممن ليس له ذوق في علم الصرف، ولا اطِّلاع فيه. انتهى. قلت: شيخنا لم يقله بل ساقه بصيغة التضعيف. انتهى.
قوله: (فَصَلَّى) زاد أبو داود بالنَّاس، وفي الحديث من الفوائد جواز التماس الأتباع ما يتعلَّق بمصالحهم الدنيوية وغيرها، لكن بصيغة العرض لا بصيغة الاعتراض، وأنَّ على الإمام أن يراعي المصالح الدينيَّة والاحتراز عما يحتمل فوات العبادة عن وقتها بسببه، وجواز التزام الخادم القيام بمراقبة ذلك، والاكتفاء في الأمور المهمَّة بالواحد، وقبول العذر ممن اعتذر بأمر شائع، وتسويغ المطالبة بالوفاء بالالتزام، وتوجَّهت المطالبة على بلال بذلك تنبيهًا له على اجتناب الدعوى، والثقة بالنفس وحسن الظنِّ بها، لا سيَّما في مظان الغلبة وسلب الاختيار، وإنَّما بادر بلال إلى قوله:(أَنَا أُوْقِظُكُمْ) اتِّباعًا لعادته في الاستيقاظ في مثل ذلك الوقت لأجل الأذان، وفيه خروج الإمام بنفسه في الغزوات والسرايا، وفيه الردُّ على منكري القدر، وإنَّه لا دافع في الكون إلَّا بقدر، وفيه الأذان للفائتة، ولأجله ترجم البخاري للباب.
واختلف العلماء فيه فقال العَيني: قال أصحابنا - أي الحنفيَّة -: يُؤَذَّنُ للفائتة ويقيم، واحتجُّوا في ذلك بحديث عِمْران بن حُصَين رواه أبو داود وغيره وفيه:((ثمَّ أمَرَ مؤذِّنًا فأذَّن فصلَّى ركعتين قبلَ الفجرِ، ثمَّ أقامَ ثمَّ صلَّى الفَجْرَ))، وبه قال الشَّافعي في القديم وأحمد وأبو ثور وابن المنذر، وإن فاتته صلوات أذَّن للأولى وأقام، وهو مخيَّر في الباقي، إن شاء أذَّن وأقام لكلِّ صلاة من الفوائت، وإن شاء اقتصر على الإقامة، لما روى التِّرْمِذي عن ابن مسعود: ((أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فاتته يوم الخندقِ أربع صلوات حتَّى ذهبَ منَ اللَّيل ما شاءَ اللهُ، فأمرَ بلالًا فأذَّن ثمَّ أقام فصلَّى الظهر، ثمَّ أقام
فصلَّى العصر، ثمَّ أقام فصلَّى المغرب، ثمَّ أقامَ فصلَّى العشاء))، فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك فمن أين التخيير؟، قال العَيني: جاء في روايةٍ قضاهنَّ عليه السلام بأذان وإقامة، وفي روايةٍ بأذان وإقامة للأولى، وإقامة لكلِّ واحدة من البواقي، ولهذا الاختلاف خيرنا في ذلك؛ وفي «التحفة» وروي في غير رواية الأصول عن محمَّد بن الحسن: إذا فاتته صلوات يقضي الأولى بأذان وإقامة والباقي بالإقامة دون الأذان، وقال الشافعي: في الجديد يقيم لهنَّ ولا يؤذَّن، وفي القديم: يؤذِّن للأولى ويقيم ويقتصر في البواقي على الإقامة، وقال النَّوَوي في «شرح المهذب» : يقيم لكلِّ واحدة بلا خلاف ولا يؤذَّن لغير الأولى منهنَّ، وفي الأولى ثلاثة أقوال في الأذان، أصحُّها يؤذَّن؛ ولا يغترَّ بتصحيح الرافعي منع الأذان، والأذان للأولى مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور، وقال ابن بطَّال: لم يذكر في الأولى عن مالك والشافعي، وقال الثَّوْري والأوزاعي وإِسْحاق: لا يؤذَّن لفائتة. انتهى.
قال شيخنا: وقال الشَّافعي في الجديد: لا يؤذَّن لها، والمختار عند كثير من أصحابه أن يؤذَّن لصحَّة الحديث، وحمل الأذان هنا على الإقامة ضعيف، فإنه عقب الأذان بالوضوء، ثمَّ بارتفاع الشَّمس، فلو كان المراد به الإقامة لما أخَّر الصَّلاة عنها، نعم يمكن حمله على المعنى اللغوي وهو محض الإعلام، ولا سيَّما على رواية الكُشمِيهَني، وقد روى أبو داود وابن المنذر في حديث عِمْران بن حُصَين في نحو هذه القصة، فأمر بلالًا فأذَّن فصلِّينا ركعتين ثمَّ أمره فأقام فصلَّى الغداة، وسيأتي الكلام على الحديث الذي احتجَّ به، من لم يرَ التأذين في الباب الذي بعد هذا. انتهى.
وفيه دليل على أن قضاء الفوائت بعذر ليس على الفور، وأمَّا الفائتة بلا عذر فالأصحُّ قضاؤها على الفور، وهو الصحيح لكن يستحبُّ قضاؤها على الفور، وحكى البَغَوي وجهًا عن الشَّافعي إنَّه على الفور، وأمَّا الفائتة بلا عذر فالأصحُّ قضاؤها على الفور، وقيل له التأخير كما في الأوَّل.
قال العَيني: وفيه أنَّ الفوائت لا تُقضى في الأوقات المنهي عن الصَّلاة فيها، واختلف أصحابنا أي الحنفيَّة في قدر الوقت الذي يُباح فيه الصَّلاة بعد الطلوع، قال في الأصل حتَّى ترتفع الشَّمس قدر رمح أو رمحين، وقال أبو بكر محمَّد بن الفضل: ما دام الإنسان يقدر على النظر إلى قرص الشَّمس لا تباح فيه الصَّلاة، فإذا عجز عن النظر يباح. انتهى. قلت: هذا على قاعدة مذهبه، وقدم البحث معه في ذلك. انتهى.
وفيه دليل على جواز قضاء الفائتة بالجماعة، واحتجَّ المُهَلَّب به على أنَّ الصَّلاة الوسطى هي صلاة الصُّبح، لأنَّه عليه السلام لم يأمر أحدًا بمراقبة وقت صلاة غيرها، وفيه نظر لا يخفى، قلت: لأنَّ أمره بمراقبة وقتها ليس لذلك، إنَّما هو لأجل إنَّه يُوقظ للصلاة. انتهى. قال ويدلُّ على إنَّها هي المأمور بالمحافظة عليها، إنَّه صلى الله عليه وسلم لم تفته صلاة غيرها