الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم:
34- محمد بن الحسن بن محمد بن زياد أبو بكر النقاش الموصلي ثم البغدادي
«1» المقرئ المفسر أحد الأعلام. فضله البحر الذي ما زجر «2» ، وعلمه النقش في الحجر، فهما يجلي الغبش، وثباتا لا يمحو الدهر منه ما نقش، يفوق نقشه ما تتزين به الخدود، وتتسهم البرود «3» ، وينقش شبيهه الغمام الصناع زخرفا في حلل الروض المجود «4» .
ولد سنة ست (ص 118) وستين ومائة، وعني بالقراءات من صغره وسمع الحروف من جماعة كبيرة، وطاف في الأمصار، وتجول في البلدان، وكتب الحديث وقيد السنن، وصنف المصنفات «5» في القراءات والتفسير، وطالت أيامه
فانفرد بالإمامة في صناعته، مع ظهور نسكه وورعه، وصدق لهجته، وبراعة فهمه، وحسن اضطلاعه، واتساع معرفته.
روى القراءة عنه عرضا خلق الحصى عددهم.
قال أبو بكر الخطيب: كان النقاش عالما بالحروف، حافظا للتفسير، صنف التفسير، وكتبا في القراءات، وغيرها، وسافر الكثير شرقا وغربا وكتب بمصر والشام والجزيرة وخراسان وما وراء النهر، وفي حديثه مناكير «1» بأسانيد مشهورة «2» .
وقال الداني: سمعت عبد العزيز بن جعفر يقول: كان النقاش يقصد في قراءة ابن كثير «3» ، وابن عامر «4» لعلو إسناده «5» وكان له بيت ملآن كتبا، وكان الدارقطني يستملي له، وينتقي من حديثه، وقد حدث عنه ابن مجاهد، وكان حسن الخلق، ذا سخاء.
وقال أبو الحسين القطان «6» : حضرت أبا بكر النقاش، وهو يجود بنفسه في
ثالث شوال سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، فجعل يحرك شفتيه، ثم نادى بأعلى صوته لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ
«1» يرددها، ثم خرجت نفسه- رحمه الله «2» .
ومنهم:
35-
محمد بن أحمد بن إبراهيم أبو الفرج البغدادي «3» المقرئ الشنبوذي غلام ابن شنبوذ «4» .
وإمام فضل عنه مأخوذ، [و] علم علم نافع، وأدب واسع، وطلب وجّه ركابه إلى كل شاسع، وحفظ لا يتخونه النسيان، وزكي من العلم مورود، لا يبلغ حاجته منه الصديان «5»
، حصل ما قصّر دونه جهد ابن مجاهد، وعزّ على ابن شنبوذ أن يأتي منه بشاهد، وانخرم على ابن الأخرم به نظامه، ونفذ (ص 119) إلى نفطويه «6» منه ما أحرقه ضرامه.
ولد أبو الفرج سنة ثلاثمائة، وقرأ على ابن شنبوذ، وابن مجاهد، وإبراهيم نفطويه، وابن الأخرم، وغيرهم، وأكثر الترحال في طلب القراءات وتبحر فيها، واشتهر اسمه، وطال عمره، وقرأ عليه خلق، وكان عالما بالتفسير، وعلل القراءات «1»
قال أبو بكر الخطيب: سمعت «2» عبيد الله بن أحمد «3» يذكر الشنبوذي، فعظم أمره «4» وقال: سمعته يقول: أحفظ خمسين ألف بيت من الشعر شواهد للقرآن «5» .
وقال أبو عمرو الداني: مشهور، نبيل، حافظ، ماهر، حاذق، كان يتجول في البلدان، سمعت عبد العزيز بن علي المالكي يقول: دخل أبو الفرج- غلام شنبوذ- على عضد الدولة «6» زائرا، فقال له: يا أبا الفرج، إن الله يقول يَخْرُجُ
مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ
«1»
ونرى العسل يأكله المحرور «2» فيتأذى به، والله الصادق في قوله؟
قال: أصلح الله الملك، إن الله لم يقل فيه الشفاء- بالألف واللام- اللذين يدخلان لاستيفاء الجنس، وإنما ذكره منكّرا، فمعناه فيه شفاء لبعض الناس دون بعض «3» .
قال التنوخي: توفي أبو الفرج في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة «4» .
ومنهم:
36-
علي بن داود أبو الحسن «5» الداراني «6» القطّان «7»
إمام جامع دمشق ومقرئه، حقيق أن يتنافس الناس على إمامته وتتحاسد
الأرض على إقامته، وتوجأ «1» أعناق المنابر إليه متلفتة، وتهدأ له هام المحاريب مخبتة، قطع الدنيا زهدا، وعاش في الأنام فردا، ما وقعت العيون عل صفاته الممثلة، ولا رأت في كل داراني مثل قطوفه المهدلة. (120) ولا أتى عنقود الثريا «2» منه بحبة، ومما «3» استعان بالسنبلة «4» ، ولا ادعت جني كرمه الكرام، ولا طمعت في رشف ريقته الآثام، ولا سمعت له قهقهة إبريق لأن الداراني لا يعصر منه المدام «5» .
قرأ القرآن بالروايات على طائفة منهم: ابن الأخرم، وسمع من جماعة وقرأ عليه آخرون. قال رشأ بن نظيف «6» : لم ألق مثله حذقا وإتقانا في رواية ابن
عامر «1» .
وقال عبد المنعم النحوي: خرج القاضي أبو محمد العلوي «2» ، وجماعة من الشيوخ إلى داريّا، إلى ابن داود، فأخذوه ليؤم بجامع دمشق في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وجاءوا به بعد أن منعهم أهل داريا، وتنافسوا.
قال الحافظ ابن عساكر: سمعت ابن الأكفاني «3» يحكي عن بعض مشايخه «4» أن أبا الحسن بن داود كان إمام داريا، فمات إمام الجامع، فخرج أهل البلد إلى داريا ليأتوا به، فلبس أهل داريا السلاح، وقالوا: لا نمكنكم من أخذ إمامنا، فقال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي نصر «5» : يا أهل داريا، ألا ترضون أن يسمع في البلاد أن أهل دمشق احتاجوا إليكم في إمام «6» ؟ فقالوا: رضينا، فقدمت له بغلة القاضي، فأبى، وركب حماره «7» ، ودخل معهم، فسكن في
المنارة الشرقية، وكان يقرأ بشرقي الرواق الأوسط، ولا يأخذ على الإمامة رزقا، ولا يقبل ممن يقرأ عليه برا، ويقتات من غلة أرض له بداريا، ويحمل ما يكفيه من الحنطة «1» ، ويخرج بنفسه إلى الطاحون، فيطحنه، ثم يعجنه ويخبزه، وانتهت إليه الرئاسة في قراءة الشاميين، ومضى على سداد، وكان يذهب مذهب أبي الحسن الأشعري «2» .
وتوفي في جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعمائة «3» ، وقد نيف على الثمانين «4» .
(ص 121) ومنهم:
37-
علي بن أحمد بن عمرو بن حفص «1» أبو الحسن ابن الحمامي «2» البغدادي.
مقرئ العراق، ومسند الآفاق، وصدر قرّاء دار الخلافة بالاستحقاق، وشمس الشرق المشرقة بالعراق في أفق بغدادها، وبدر بلادها المتألق في جنح سوادها، الساطع بصاحبه الذي لا يمشي في ضوئه مريب، والطالع كوكبه الذي لا يخاف عليه مغيب، والجامع فضله الذي استمد منه جني الخطيب.
قرأ على النقاش «3» ، وجماعة، وبرع في الفن، وسمع الحديث من خلق كثير، وحدث عنه أبو بكر الخطيب، والبيهقي «4» ، وطراد الزينبي «5» ، وغيرهم.
قال الخطيب: كان صدوقا، ديّنا، فاضلا تفرد بأسانيد القراءات، وعلوها «1» .
مولده سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وتوفي في شعبان سنة سبع عشرة، وأربعمائة، وهو في تسعين سنة «2» .
ومنهم:
38-
أبو علي «3» الأهوازي «4» واسمه: الحسن بن علي بن إبراهيم المقرئ الأستاذ المحدث.
بقي سهما في الكنانة «5» واحدا، ومخلفا لأهل جيله فاقدا، وأتته الوفود
تحث قلاصها «1» ، وتتمايل فوق ظهور المطي «2» أشخاصها، حتى انتهى به أجله، وارتمى إلى الغاية أمله، فأوتر له هلال الأجل قوسه، ثم رمى به إلى هدف ترابه، وأطاحه، وما نجا به ريش العقاب كاسره، ولا جرّه، وكان لابد أن سيرمى به، أو يكسر السهم كاسره.
ولد سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وقدم دمشق سنة إحدى وتسعين فاستوطنها، وكان أعلى من بقي في الدنيا إسنادا في القراءات «3» ، عني بالرواية والأداء من صغره، وصنف عدة (ص 122) كتب في القراءات، ورحل إليه القراء لتبحره في الفن، وعلو إسناده، وكان عالي الرواية في الحديث أيضا، وله تواليف في الحديث، فيها أحاديث واهية، وله أيضا مصنف في الصفات «4» ، أورد فيه أحاديث موضوعة، فتكلم فيه الأشعريون لذلك، ولأنه كان ينال من أبي الحسن الأشعري، ويذمه «5» .
قال ابن عساكر: «1» كان يقول بالظاهر، ويتمسك بالأحاديث الضعيفة «2» ، وقد تلقى القراء رواياته بالقبول، وكان يقرئ بدمشق في حياة بعض شيوخه من بعد سنة أربعمائة.
وتوفي في رابع ذي الحجة سنة ست وأربعين وأربعمائة.
ومنهم:
39-
عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن «3» بن بندار «4» الرازي «5» العجلي «6»
المقرئ، أبو الفضل، أحد الأعلام، وشيخ الإسلام. قطع الأرض شتاتا،
ولقي الناس أشتاتا «1» ، وقنع باليسير، لا يملك بياتا، مع كسب له في عجل إلا أنه هدى قومه، وما أضل، وقضى يومه في الرشد، وظل، ولو بصر به السامري لحدثه عن موسى- صلوات الله عليه- بالأثر المنقول، وقال: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ
«2» بل لو رأى هو قريبه أبا دلف العجلي «3» لم يجعل له دالة بالقرى عليه، ولتنحى عن سحابه لئلا يدب دلف كرمه الدلفي إليه.
وزد أن مولده بمكة، وما زال يتنقل في البلاد على قدم التجريد، والأنس بالله.
قال أبو سعد السمعاني «4» : كان مقدما فاضلا كثير التصانيف حسن السيرة، زاهدا متعبدا، خشن العيش، منفردا، قانعا باليسير يقرئ أكثر أوقاته، ويروي الحديث، وكان يسافر وحده، ويدخل البراري.
سمع بمكة والري، ونيسابور، وأصبهان، وطوس، وجرجان وبغداد،
والكوفة والبصرة ودمشق، ومصر..
قال: (ص 123) وكان الشيوخ يعظمونه، وكان لا ينزل الخوانق «1» ، بل يأوي إلى مسجد خراب، فإذا عرف مكانه تركه، وإذا فتح عليه بشيء آثر به.
قال يحيى بن منده «2» في تاريخه: قرأ على «3» جماعة، وخرج من أصبهان إلى كرمان، وحدث بها، وبها مات، وهو ثقة ورع، متدين عارف بالقراءات، والروايات، عالم بالآداب، والنحو أكبر من أن يدل عليه مثلي، وهو أشهر من الشمس، وأضوأ من القمر، ذو فنون من العلم، مهيب، منظور، فصيح، حسن الطريقة.
بلغني أنه ولد سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. وله شعر رائق في الزهد.
وقال أبو عبد الله الخلال»
: لما توجه أبو الفضل من أصبهان إلى كرمان خرج الناس يشيعونه، فصرفهم، وقصد الطريق وحده، وقال:[الطويل]
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا
…
كفى لمطايانا بذكراك حاديا
قال الخلال: وكان في طريق، ومعه خبز، وشيء من الفانيذ «5» ، فقصده
قطاع الطريق، وأرادوا أن يأخذوا ذلك، فدفعهم بعصاه، فقيل له في ذلك، فقال:
إنما منعتهم منه لأنه كان حلالا، وربما كنت لا أجد حلالا مثله.
ودخل كرمان في هيئة رثة «1» ، فحمل إلى الملك، وقالوا جاسوس، فسأله الملك: ما الخبر؟ فقال: إن كنت تسألني عن خبر الأرض ف كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ
«2» وإن كنت تسألني عن خبر السماء كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
«3» فتعجب الملك من كلامه، وهابه، وأكرمه، وعرض عليه مالا، فلم يقبله.
وتوفي «4» في جمادى الأولى سنة أربع وخمسين وأربعمائة.
ومنهم:
40-
أبو علي «5» - غلام الهراس «6» - واسمه: الحسن بن القاسم ابن علي (ص 124) الواسطي «7» المقرئ
شيخ القراء، ومسند العراق، ومسار الركائب إليه من الآفاق، خلّف بعد جيله، وخلي فردا في قبيله، وأقام بمكة شرفها الله لاجئا إلى أبطحها، حائلا في أنيق مسرحها، حتى كان يقال له: إمام الحرمين. لتقدمه على أهل زمانه، وتأخرهم، وهو نزيل ذلك الحرم، ومصدّر ذلك المحراب الذي هو قبلة الأمم.
ولد سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، ورحل في القراءات شرقا وغربا، وقرأ على صاحب ابن مجاهد، وعمّر، وتأخرت وفاته عن رفقائه، وقرأ بالروايات قبل الأربعمائة، وبعدها على طائفة بواسط، وبغداد، والكوفة، والبصرة، وحرّان، ومصر، وقرأ بدمشق على أبي علي الأهوازي «1» ، وغيره، وتصدر للإقراء بدمشق في حياته، ثم حج، وجاور، وكان بفرد عين، ثم شاخ وعمي «2» ، ورحل الناس إليه من الآفاق وقرءوا عليه وكان يلقب" إمام الحرمين".
وتوفي «3» يوم الجمعة السابع من جمادى الأولى سنة ثمان وستين وأربعمائة.
ومنهم:
41-
أبو الطاهر «1» بن سوار «2» الضرير الحنفي صاحب المستنير في القراءات العشر،
أحد الحذاق المنور قلبه لا بصره، المسور، وما أسواره المنيعة إلا سوره، ابن سوّار، ومن للهلال أن يكون له سوارا، أبو طاهر كناية عن التصريح أنه المطهر إزارا، المأخوذ عنه كتاب الله يندى غضارة «3» ، وينأى أن يجف نضاره «4» ، القاهر هوى شهواته في طلبه، القائم به في قهر الأعداء متحصنا بيلبه «5» .
ولد سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. وقرأ القراءات «6» على عتبة بن عبد الملك العثماني «7» ، وأبي علي الشرمقاني «8» ، والحسن بن علي العطار «9» ، وجماعة
وسمع الحديث (ص 125) الكثير من طائفة، وقرأ عليه القرآن أبو علي بن سكرة الصدفي «1» ، وجماعة، وحدث عنه آخرون.
قال ابن سكرة: هو حنفي المذهب، ثقة، خير، حبس نفسه على الإقراء، والتحديث.
وقال ابن ناصر «2» : نبيل ثقة، ثبت، متقن.
وقال السمعاني: كان ثقة أمينا، مقرئا، حسن الأخذ للقرآن، ختم عليه جماعة كتاب الله، وكتب بخطه الكثير من الحديث.
قال السلفي «3» : سمعت منه معظم المستنير.
وتوفي في شعبان سنة ست وتسعين وأربعمائة ببغداد «4» .
واسمه: أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر بن سوار البغدادي.
ومنهم:
42-
محمد بن الحسين «1» بن بندار «2»
الأستاذ «3» أبو العز الواسطي «4» القلانسي «5» ، ومقرئ العراق، وصاحب التصانيف «6» ، وحاصب الدر في العقود بحسن التأليف، الواسطي الذي ما جالت في يد مثله أقلامها، ولا جاءت بشبيهه تحت ثياب العشي أيامها، ما التقى على شروى «7» ليث سراه رافداها، ولا طافت على نظير نضاره «8» دجلة،
وقد طفح جانباها، ولقد فخر به سالف نسبه، وكان لبندار البدار إلى ما أولاها.
قرأ الروايات المشهورة، والشاذة على غلام الهراس «1» ، وغيره، وأخذ أيضا عن أبي القاسم الهذلي «2» ، ورحل إلى بغداد سنة إحدى وستين وأربعمائة، وسمع من جماعة، وتصدر للإقراء دهرا، ورحل إليه من الأقطار، وكان بصيرا بالقراءات وعللها، وغوامضها، عارفا بطرقها، عالي الإسناد.
مولده سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وتوفي بواسط في شوال سنة إحدى وعشرين وخمسمائة.
ومنهم:
43-
عبد الله بن علي بن أحمد «1» . الأستاذ البارع أبو محمد البغدادي (ص 126) النحوي «2»
سبط أبي منصور الخياط «3» ، ممن يطرب له السماع، وأيّد بالملائكة، إذ أيّد بالشياطين ابن جامع «4» ، يحن إليه الجماد، ويحج «5» إليه أهل البلاد اتقانا في فنه، وإحسانا. ما مال إليه السامع حتى عاد بملء أذنه، له المحاسن الشاملة، والمصنفات المفيدة كتمام ميقات موسى تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ
«6» .
ولد سنة أربع وستين وأربعمائة، وسمع من جماعة، وقرأ القراءات على طائفة كثيرة، وأقرأ الناس بمسجد ابن جردة «1» ، وأمّ به دهرا، وكان رئيس المقرئين في عصره، ختم عليه خلق كثير، وعرض عليه جماعة، وكان إماما محققا، واسع العلم، متين الديانة، وكان أطيب أهل زمانه صوتا بالقرآن على كبر السن، صنف التصانيف المليحة نحو العشرة «2» .
قال أبو سعد السمعاني: كان متواضعا متوددا حسن القراءة في المحراب، سيما ليالي رمضان، كان يحضر عنده الناس لاستماع قراءته. له تصانيف في القراءات خولف في بعضها، وشنع عليه، وسمعت أنه رجع عن ذلك- والله يغفر لنا وله-.
وقال أحمد بن صالح الجيلي «3» : سار ذكر سبط الخياط في الأغوار، والأنجاد، ورأس أصحاب الإمام أحمد، وصار واحد وقته، ونسيج وحده «4» ، لم أسمع في جميع عمري من يقرأ الفاتحة أحسن، ولا أصح منه، وكان جمال العراق بأسره، وكان ظريفا، كريما لم يخلف مثله في أكثر فنونه، وكان أيضا من كبار أئمة اللغة، ومن شعره:[الخفيف]
أيها الزائرون بعد وفاتي
…
جدثا ضمني ولحدا عميقا
سترون الذي رأيت من الموت
…
عيانا وتسلكون الطريقا
وتوفي في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وصلى عليه الشيخ (ص 127) عبد القادر الجيلي «1» ، ودفن عند جده أبي منصور على دكة «2» الإمام أحمد، وكان الجمع يفوت الإحصاء، وغلق أكثر البلد ذلك اليوم.
قال ابن الجوزي «3» : ما رأيت جمعا أكثر من جمع جنازته- رحمه الله.
ومنهم:
44-
الحسن بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن محمد «4» . الأستاذ أبو العلاء الهمذاني «5» العطار الحافظ المقرئ شيخ أهل همذان.
كل ما عنده من العلم الجم، والفضل الذي تم، هو العطار الذي عنده كل دوا،
ولديه كل ما يصلح للهوى، وهو القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور، وصلاح لفساد الأمور، وكان يعنى بالعلم لتعليمه، ويقيده بالضبط لزيادة تفهيمه، رافقا ولو عمل عمل يوم في شهر، قاصدا للإصلاح، وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟.
ولد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وارتحل إلى أصبهان، فقرأ بها القراءات والحديث على أبي علي الحداد «1» ، وإلى بغداد، فقرأ على أبي عبد الله البارع «2» وغيره، وإلى واسط فقرأ على أبي العز القلانسي «3» ، وسمع من ابن بيان «4» وطبقته، وحصل الأصول النفيسة، والكتب الكبار، وانتهت إليه مشيخة العلم ببلده، وبرع في فني القراءات والحديث، وروى عنه خلائق، وقد أثنى عليه عبد القادر «5» ، وقال: تعذر وجود مثله في أعصار كثيرة، وأربى على أهل زمانه في كثرة السماعات مع تحصيل أصول ما سمع، وجودة النسخ، وإتقان ما كتب،
فما كان يكتب شيئا إلا معربا منقوطا، وبرع على الحفاظ «1» ، جاءته فتوى في أمر عثمان بن عفان، فكتب فيها من حفظه، ونحن جلوس درجا «2» طويلا «3» .
وله التصانيف في الحديث، والزهد، والرقائق، وصنف" زاد المسافر" في خمسين مجلدا، وصنف في القراءات العشر، والوقف، والابتداء (ص 128) ، والتجويد، ومعرفة القراء، وأخبارهم، وهو كبير، وكان إماما في النحو، واللغة.
سمعت أنه حفظ كتاب" الجمهرة"«4» ، وكان من أبناء التجار، فأنفق جميع ما ورثه في طلب العلم حتى سافر إلى بغداد، وأصبهان مرات ماشيا، وكان يحمل كتبه على ظهره، قال لي: كنت أبيت في بغداد في المساجد، وآكل خبز الدخن «5» ، إلى أن قال عبد القادر: ثم عظم شأنه حتى كان يمر بالبلد «6» فلا يبقى أحد رآه إلا قام، ودعا له حتى الصبيان واليهود.
وكان يقرئ نصف نهاره القرآن، والعلم، ونصفه الآخر الحديث «7» وكان لا يغشى السلاطين، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وكانت السنة شعاره، ودثاره «8» اعتقادا،
وفعلا، ولا يمس جزء الحديث إلا على وضوء» .
توفي في تاسع عشر جمادى الأولى سنة تسع وستين وخمسمائة.
ومنهم:
45-
عبد الله بن منصور بن عمران بن ربيعة «2» ، الأستاذ أبو بكر الربعي «3» الواسطي «4» ، المعروف بابن الباقلاني
«5» . مسند القراء بالعراق، ومورد الظماء ما راق، كم زاد منتجع «6» ربيعة، ورام مثله فلم يكن إلا من ربيعه، عرف بابن الباقلاني لأنه من خليطي المسك والكافور مصور، وعرف به أرج ذكره لو تضور «7» ، وجاء برواياته الباقلانية، وكان سوادها في البياض زهره المنور.
ولد في أول سنة خمسمائة، وقرأ القراءات على أبي العز القلانسي «1» ، وسبط الخياط «2» ، وغيرهما، ونظر في الفقه والعربية، وقال الشعر، وقدم دمشق، فسمع بها، وانتهى إليه علو الإسناد، ورحل إليه الطلبة، وطار ذكره، وبعد صيته، وروى عنه من شعره ابن السمعاني، وابن عساكر «3» ، وماتا قبله بدهر، وقرأ عليه بالروايات أبو الفرج ابن الجوزي، وابنه يوسف «4» وجماعة، ودار عليه (ص 129) إسناد العراق، وذكره ابن عساكر، فقال: قدم دمشق ومدح بها بعض الناس بقصيدة يقول فيها «5» : [البسيط]
بأي حكم دم العشاق مطلول
…
فليس يودى لهم في الشرع مقتول
ليت البنان التي فيها رأيت دمي
…
يرى بها لي تقليب وتقبيل
وقال ابن الدبيثي «6» : انفرد في وقته برواية العشرة «7» عن أبي العز
القلانسي، وادعى رواية شيء آخر من الشواذ عنه، فتكلم الناس فيه، ووقفوا في ذلك، واستمر هو على رواية المشهور والشاذ شرها منه، وكان عارفا بوجوه القراءات، وحسن التلاوة، وأقرأ الناس أكثر من أربعين سنة.
وتوفي في سلخ ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.
وقال عبد المحسن بن أبي العميد الصوفي: رأيت في النوم كأن شخصا يقول لي: صلى عليه سبعون وليا لله.
ومنهم:
46-
عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم «1» العلّامة ذو الفنون شهاب الدين أبو القاسم المقدسي ثم الدمشقي الشافعي «2» المقرئ النحوي الأصولي عرف ب" أبي شامة"
صاحب التصانيف المتنوعة، والتواليف المبدعة، والفضائل الذي لا ينتهى إلى قرارها، والفواضل التي لا يسع معها طوائف الحساد غير إقرارها، كان في وجنة الشام شامة، وفي وجنة جنانها رضوانا، أو عليه علامة. ما ألمت قبله بعيون دمشق سنتها، ولا سمّت فاضلها بأبي شامة إلا وهو حسنتها، يجف اللسان، وما بلغ في وصفه أدنى مناه، وتبذخ الشهب خيلاء إذا لقب بنعت أحدها، وأين
النجم من (ص 130) هدايته، والشهاب من سناه.
ولد في أحد الربيعين سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وقرأ القرآن صغيرا «1» ، وأكمل القراءات على شيخه السخاوي «2» سنة عشرة وستمائة، واعتنى بأولاده قبل الأربعين، وأسمعهم الكثير، وقرأ بنفسه، وكتب الكثير من العلم، وأحكم الفقه، ودرس وأفتى، وبرع في العربية، وصنف، وشرح واختصر «3» ، وحصل له الشيب، وهو ابن خمس وعشرين سنة، وولي مشيخة القراءة بالتربة الأشرفية «4» ، ومشيخة الحديث بالدار الأشرفية «5» ، وكان مع فرط ذكائه، وكثرة علمه
متواضعا، مطرحا للتكلف، وربما ركب الحمار بين المداويز «1» .
وفي جمادى الآخرة سنة خمس وستين وستمائة جاءه اثنان من الجبلية «2» وهو في بيته عند طواحين الأشنان «3» فدخلا يستفتيانه، فضرباه ضربا مبرحا كاد أن يأتي على نفسه، ثم ذهبا، ولم يدر من سلطهما عليه، فصبر واحتسب.
وتوفي في تاسع عشر من رمضان من السنة المذكورة «4» .
وكان فوق حاجبه الأيسر شامة كبيرة فلذا قيل له أبو شامة.
ومنهم:
47-
أحمد بن يوسف «5» بن حسن بن رافع «6» ، أبو العباس «7» موفق الدين الكواشي «8» الشافعي المقرئ المفسر الزاهد.
بقية الأعلام، وطوية خير أظهرها الله به للإسلام تفسيره الذي صنفه علما باقيا، وعلما هاديا من الضلال واقيا، صدر عن صدر ماج البحر في جانبه، ومال
الطود من مناكبه، وبر تقي ما شحب الفلك الدوار على نظير سبايب سباسبه «1» ، إن لقب بالموفق فهو الذي ما عدمه، أو عرف بالكواشي «2» فلأن كل شيء من علم كتاب الله علمه، أو ولد مثله الزمان فإنه حمد بعده عقمه.
ولد في ربيع الأول سنة إحدى وتسعين «3» وخمسمائة وقرأ (ص 131) على والده، وقدم دمشق، وأخذ عن السخاوي «4» وغيره، وسمع من ابن روزبة «5» ، وتقدم في معرفة القراءات، والتفسير والعربية، وكان منقطع القرين، وعديم النظير زهدا وصلاحا وصدقا، وتبتلا وورعا، واجتهادا، صاحب أحوال، وكرامات، وكان السلطان فمن دونه يزورونه، فلا يقوم لهم، ولا يعبأ بهم، ولا يقبل صلتهم، أضر قبل موته بسنوات «6» ، وصنف التفسير الكبير، والتفسير الصغير «7» قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: بلغنا أنه اشترى قمحا من قرية" الجابية"«8» لكونها من فتوح عمر ثلاثة أمداد، وحملها إلى الموصل، فزرعها
بأرض البقعة «1» ، وخدمها بيده، ثم حصده، وتقوت منه، وخبأ بذارا، ثم زرعه، فنمى، وكبر إلى أن بقي يدخل عليه من ذلك القمح ما يقوم به وبجماعته من أصحابه، وكان إذا أرسل إلى عند صاحب الموصل لا يرده «2» .
وتوفي في سابع عشر جمادى الآخرة سنة ثمانين وستمائة.
وكواشة: قلعة من بلاد الموصل «3» .
ومنهم:
48-
إبراهيم بن عمر بن إبراهيم «4» الأستاذ برهان الدين أبو محمد الربعي «5» الجعبري المقرئ الشافعي النحوي.
شيخ بلد" الخليل"عليه السلام «6» بل شيخ القراء في وقته والسلام، نزيل
ذلك الحرم، وضيف ذلك الكرم، وجليس ذلك المحراب المعمور، وأنيس ذلك المكان المتألق مع وجود ذلك النور، المتقلل من كثير من الدنيا والموفي بنذره في طلب العليا، المناجي بلسان الخليل أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا
«1» ، المنقطع إلى من تسمى باسمه إبراهيم، المجمع على أنه لا يرحل عن جواره الكريم، الذي ساد، وما خلت البقاع، وأشرق وما أطل فرع الليل البهيم.
قرأ بالسبع «2» على أبي الحسن الوجوهي «3» صاحب (ص 132) الفخر الموصلي «4» ، وبالعشر على المنتجب بن حسن التكريتي «5» ، وروى القراءات بالإجازة «6» ، وتصدر للإقراء دهرا، وصنف التصانيف الرائقة في فنون العلم، وهاجر إليه الطلبة من الآفاق، وله شرح الشاطبية «7» كامل في معناه، وآخر للرائية «8» ، ونظم في السبع، والعشر، والرسم، والتجويد، وله نحو من مائة مصنف.
ولد في حدود سنة أربعين وستمائة، أو قبلها بقلعة جعبر «1» ، واشتغل ببغداد، ثم قدم دمشق، فنزل بالسميساطية «2» ، وأعاد بالغزالية «3» ، ثم ولي مشيخة حرم الخليل بعد البديع «4» ، فبقي هناك إلى أن توفي في شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة.
ومنهم:
49-
محمد «5» بن بصخان «6» بن عين الدولة الإمام بدر الدين بن السراج.
متقدم بالعلم، ومفضل يحتج به أهل الإيمان، ومحلا ورده للطالب لا يرد عنه
بغلته «1» ظمآن، ومهنأ بفضل ما أوتي لا يضره فيه أهل الشنآن «2» ، وله في الموسيقا ما يقرع له العود، ويقر له الحسود، ويقرر أنه ما غاب نصيبه مما قيل اعملوا شكرا آل داود «3» ، إلا أنه لم يكن معتدل المزاج، ولا معتد الجسم للعلاج، لإفراط «4» سوداء «5» به منعته من المأكل كل بيضاء شحمة، وكل حمراء لحمة، وكل خضراء نضرة نعماء، وكل زرقاء نطفة ماء «6» ، وكل صفراء فلذة حلواء، تسمى باسم من الأسماء»
، فقضى مدة حياته منغصا، واستوفى رزقه من الدنيا إلا أنه أخذه منقصا، وهيهات هيهات بتجنب الطيبات من الرزق طول طيب الحياة:[الكامل]
وإذا المنية أنشبت أظفارها
…
ألفيت كل تميمة لا تنفع
ولد سنة ثمان وستين، وسمع الكثير بعد الثمانين، واعتنى بالقراءات سنة (ص 133) تسعين وبعدها، وحج غير مرة، وانجفل «8» إلى مصر سنة سبعمائة «9» ،
وجلس في حانوت تاجرا، ثم أقبل على العربية فأحكمها «1» ، وقدم دمشق بعد ستة أعوام، وتصدر «2» لإقراء القراءات، والنحو «3» ، وقصده القراء والمشتغلون، وظهرت فضائله، وبهرت معارفه، وبعد صيته، ثم إنه أقرأ لأبي عمرو بإدغام الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها
«4» وبابه، ورآه واسعا «5» في العربية، والتزم إخراجه من القصيد «6» ، وصمم على ذلك مع اعترافه بأنه لم يقرأ به «7» ، وقال: أنا قد أذن لي أن أقرئ بما في القصيد وهذا مخرج منها، فقام عليه التونسي «8» ، وابن الزملكاني «9» وغيرهما، فطلبه قاضي القضاة" ابن صصرى"«10» بحضورهم، وراجعوه، وناظروه، فلم يرجع، وأصر فمنعه الحاكم المذكور من الإقراء به، وأمره بمراجعة «11» الجمهور فتألم، وانقطع في بيته، وامتنع من الإقراء جملة، ثم استخار الله تعالى، واستأذن الحاكم من الإقراء بجامع دمشق، فأذن له، وجلس للإفادة، وازدحم عليه الطلبة، وأخذوا عنه القراءات والعربية.
وكان له ملك يقوم بمصالحه، ولم يتناول من الجهات درهما، ولا طلب جهة مع كمال أهليته، ثم ولي مشيخة الإقراء بتربة أم الملك الصالح «1» بعد التونسي لكونه أقرأ من وجد بدمشق من المتصدرين، وكذلك ولي إمامة مسجد أبي الدرداء بقلعة دمشق، ثم تركها، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بالشام.
وتوفي في ذي الحجة سنة ثلاث، وأربعين، وسبعمائة.
وهذا آخر من كان يعد في فنه واحدا في الزمان، وفردا لا يلز «2» بثان، فلما قرّ القبر بإيابه، ونفضت الأيدي من ترابه تساوت بعده الأنظار، وتواست «3» لواحد في عدم الإقرار على أن في الأيام منهم شموسا لوامع، وفي الليالي بدورا طوالع، إلا أنه لم ينبغ منهم في هذا الفن متفردا (ص 134) به واحد، ولا قنع به دون ضم أطراف العلوم الشوارد، بل ما في جلة الوقت ممن أتقن القراءات إلا من جعلها تماما لحليه «4» من غير نقيصة، ومشاركة في عموم معارفه، لا خصيصة، قلما من تمخض للقراءات، فما منهم رأس ارتفع، ولا واحد عليه مجتمع، وكان موته إذ حمل على أعناق الرجال، وقدم له النعش للارتحال، كما زعم الأول وقال:
تساوت الناس ومات الكمال
تغمده الله بالرحمة والرضوان، وآنسه بالقرآن، فبموته ختم قراء الجانب الشرقي، وتظلّم لحظة الشقي «1» .